السبت 4 مايو 2024

وداعًا جوليا

مقالات26-10-2023 | 16:41

 تُعبِّر كلمة "وداعًا" عن الفراق بمعانٍ كثيرة، الرحيل، الترك، الهجر، الحرمان، الفصل والانفصال، البعد والابتعاد، مترادفات عديدة يجمع بينها شعور أساسي هو الألم والحزن والشجن، حين يكون الوداع قصرًا وغصبًا.

أما اسم جوليا فيُحيل بمجرد سماعه في الوعي الجمعي إلى أنثى، ليس هذا فقط بل أنثى ذات أصول أو ثقافة أجنبية، ونادرًا ما تكون صاحبته مسلمة الديانة. في تاريخ الدراما العالمية هناك النص المسرحي الفاتن "الآنسة جوليا" لستراندبرج، وهناك فيلم لا أنساه -بقدر ما كان رائعًا لم أنجح في الوصول إليه بعد أن شاهدته مرة واحدة منذ سنوات- بطولة فانسا رد جريف وجين فوندا حمل اسم "جوليا"، وما جمع بين كل أولئك الجوليات في قراءتي الشخصية، أنهنّ كنّ في أزمات شخصية مرتبطة بمأزق عام خارج عنهن.

إذًا عنوان الفيلم السوداني الذي يُعرض حاليًا بالقاهرة بعد ترشحه وحصوله على عدة جوائز دولية، يُحيل لكل أو بعض تلك المعاني منذ الوهلة الأولى لقراءة عنوانه "وداعا جوليا"، فمَن جوليا؟ ومَن سيودّعها؟ ومن أين تغادر؟ وإلى من؟ وأين تذهب؟ وهل يختلف مصير جوليا السودانية عن مصير غيرها من الجوليات؟ أسئلة كثيرة وتوقعات أكثر تدور في ذهني وأنا في مقعد السينما انتظارًا لعرض الفيلم.

 يبدأ الفيلم بحدث عنيف يستخدم فيه الزوج "أكرم" المدفع الرشاش للدفاع عن بيته ضد حفنة من جيرانه في الشارع نفسه، وكما يذكر لزوجته "منى" أنه يستعدّ لهجومهم، إذًا هناك ما يسبق بداية الحدث على الشاشة، ضغائن وخلافات بين الأقرباء والجيران تجاوزت مرحلة العتاب إلى الهجوم الناري المتوقع، لذا يستعدّ "أكرم" للدفاع بأسلوب الخصوم نفسه، لماذا؟

 لا نجد إجابات وحوارات مباشرة وثرثرة، إذ يعتمد كاتب السيناريو -وهو أيضًا مخرج الفيلم- محمد كردوفاني على لغة السينما؛ الصورة والضوء والكادر ودلالة الكلمات في الحوار المكثف دون شرح ما سبق، إنه يدفع بالمشاهد داخل الأحداث ويترك لذكائه الفهم والمتابعة.

 فالشخصيات؛ الزوج والزوجة وجيرانهم، يرتدون الجلباب الأبيض والنساء يرتدين الطرح فوق رؤوسهن، وبمثل هذا المظهر العام يهاجم بعضهم أسرًا أخرى بملابس مختلفة وسلاسل أعناقهم تحمل الصليب، ويرغمونهم على ترك المنزل بل والحي كله، منهم أسرة جوليا وزوجها وطفلها داني، الذين لا يجدون مأوى سوى خيام من البلاستيك والقماش يسكنونها مع أقاربهم في الشارع. احتقان وخوف وتوجّس من الآخَر الذي هو جار وقريب وصاحب، أي مواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات في وطن واحد.

وفي تطور سريع للحدث تميز به النصف الأول من الفيلم، تصدم منى -الزوجة العاقر التى تحاول إنجاب طفل، لكن محاولاتها لا تنجح، مع وجود أمل بعيد غير مؤكد- تصدم الطفل داني بسيارتها وهو يلهو في الشارع؛ المكان الوحيد المتاح له بسبب الطرد والاحتقان في الحي كله، ومن خوفها تواصل الجري بسيارتها بعد أن فكرت في التوقف والاطمئنان على الطفل، لكن والد دانيل يلاحقها بدراجته البخارية حتى منزلها، وقبل أن يتشاجر معها يبادره الزوج ويطلق عليه الرصاص فيُرديه قتيلًا في الحال، وأمام الشرطة يساعد أكرم جاره ذو الجلباب الأبيض واللحية في التحقيق ويزعم أنه كان يدافع عن نفسه ضد إرهابي يهاجم بيته، فيُفرَج عن الزوج ويحصل الجار على دراجة القتيل، وتُخفَى معالم الجريمة ويُدفن دانيل في الكنيس، وسط تواطؤ الجميع؛ الشرطة ورجال الدين والحي كله!

وتسعى جوليا -المسيحية الفقيرة الوحيدة بعد وفاة زوجها واعتقال الشرطة ما بقي من أقاربها- للعمل كي تعيل ابنها داني، وفي الوقت نفسه تبحث عن مأوى بعد أن هدمت قوات الشرطة الخيام التي تؤويهم.

على الجانب الآخر، تعيش منى -الزوجة المقهورة من زوجها الهادئ ومن ضميرها، إذ هي السبب في وفاة إنسان بريء- معاناةً نفسية قاسية، فتسعى إلى معرفة مكان أسرة القتيل برشوة عسكري في قسم الشرطة، فتحصل على بطاقة القتيل الشخصية، وبالفعل تصل منى إلى جوليا وطفلها، وتستضيفها في منزلها كخادمة، ويعيش الأربعة بشكل طبيعي وإنساني في منزل واحد، بل ويعلّم الزوج أكرم الطفلَ داني عمله في النجارة ويعتمد عليه رغم صغر سنه، في حين تعطي له منى دروسًا وتُلحقه بمدرسة خاصة ليواصل تعليمه، بينما جوليا تعمل بأمانة في المنزل وتُكمل تعليمها في مدرسة ليلية، وهكذا يربط القدرُ مصير المرأتين معًا رغم كل الاختلافات في الشكل والهوية الدينية والوضع الاجتماعي، فهناك سيدة وخادمة، لكن من جماليات الحوار مخاطبة كلتيهما الأخرى باسمها دون ألقاب طبقية، فهما -في النهاية- وجهان لعملة واحدة.

 هكذا يجب أن تكون المواطنة في وطن واحد وعلى الأرض نفسها، لكن الأحداث السياسية لا تترك الحال تهدأ، ويقرر أولو الأمر الاستفتاء على انفصال الجنوب والشمال متخيلين أن ذلك  سيعالج حالة الاحتقان الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد، مع تشجيع بعضهم لهذا الحل من الطرفين.   

 وهنا تحين ساعة الوداع بين السيدتين، وهي لحظة مؤلمة وقاسية، فهو وداع فصل وانفصال على غير إرادتهما وطبيعتهما الإنسانية والوطنية، وفي مشهد مهم تتصارح المرأتان منى وجوليا بما أخفياه في الماضي، فجوليا كانت تشعر بقتل زوج منى لزوجها وقبِلَت تعويضهما من أجل طفلها، وأعربت منى عن ندمها وافتقادها جوليا وطفلها عند رحيلهما إلى الجنوب، وبكت ألمًا لذلك، وما عاب المشهد -في تقديري- ضعف الحوار وبطء الإيقاع، لكن الأداء الشجي للممثلتين أسر القلب.

 أيضًا كان هناك مشهد وداع آخر حتمي وحاسم بالفصل والانفصال، لحظة المصارحة بين منى وأكرم، الحوار والميزانسين كانا حساسين ودقيقين للغاية في كشف المسكوت عنه بينهما، إذ جلس الاثنان عكس أحدهما الآخر، مواجهين المجهول الذي ينتظرهما بعد قرار الانفصال بالطلاق، وإن كانت الإضاءة أضعف عناصر المشهد، فقد غابت تعابير وجهي الممثلين، أما لو كان المخرج يقصد ارتفاع الشخصيتين إلى مستوى الرمز وتمثيلهما لكل من يشبهونهما من مواطني البلد، ففي هذه الحالة يُقبل المشهد جماليًا بلا شك.

 ولعل أخطر مشاهد الفيلم في النهاية، إذ انفصل السودان/الوطن الواحد إلى جنوب وشمال، ورحل الأحباب بوداع دامٍ للقلوب الطيبة ودموع تحجرت في العيون، الجموع تتحرك للرحيل وجموع أخرى باقية، لكن الجميع يحمل السلاح، والأخطر الطفل داني ابن جوليا وهو يجلس في سيارة عسكرية ويحمل سلاحًا.

 تنساب دموعنا مع نهاية الفيلم مُحمَّلة بحزن وشجن وأسئلة لا تنتهي: لماذا يحمل طفل السلاح؟ وضد من؟ هل يقتل يومًا مَن قتل والده رغم عطفه عليه ورعايته خمس سنوات؟ أم يبادله بقتل كل من ظلم طفولته؟ هل تسعد منى بعد أن خلعت قهر الزوج مع طرحة رأسها وعادت إلى الغناء الذي تحب؟ هل يعود الأمن بتقطيع أوصال الوطن؟

لا إجابات، فالفيلم لم يتحدث في السياسة، بل لم ترد كلمة السياسة ولا اسم ساسة في أحاديث وحوار الشخصيات طوال الأحداث، لقد شاهدنا أثر السياسة وألاعيبها وخططها في حياة الناس، المواطنين المسالمين، الأغنياء والفقراء، المسلمين والمسيحيين، الرجال والنساء، الكبار والصغار.

شاهدنا ذكاء في كتابة السيناريو وحرفية في الإخراج وإبداعًا التمثيل من إيمان يوسف وسيران رياك ونزار جمعة والممثل الطفل الذي لم أجد اسمه للأسف، والممثل الكبير صاحب محل التصوير، لذا يمكنني القول بيقين شخصي إن فيلم "وداعًا جوليا" أجمل فيلم سياسي شاهدته بلا شك.

Dr.Randa
Dr.Radwa