السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

«فلسفة الثورة».. إهداء عبدالناصر للعقاد

  • 10-1-2024 | 19:51
طباعة

تقترب ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر، حيث ولد في الخامس عشر من يناير سنة 1918م، والذي تولى رئاسة جمهورية مصر العربية في الفترة ما بين 1956م وحتى وفاته في الثامن والعشرون من شهر سبتمبر سنة 1970م.

ويُعد أحد أهم الشخصيات السياسية على الصعيدين المحلي والعالمي خلال القرن العشرون، والذي تمكن بفلسفته السياسية التي صنعها بفكره الثاقب، وعقله اليقظ، حماية مصر آنذاك من الأطماع الداخلية والخارجية.

ولم يكن «عبدالناصر» سياسي فحسب، تشغله أمور الدولة وسياستها، ولكنه كان ايضًا مثقفًا ومُطلعًا من الطراز الرفيع، ويظهر ذلك من خلال المؤلفات التي خطها، بقلمه المستنير، وفكره الذي ينبض بحبه لوطنه وعشقه للعدالة والحرية. وترك لنا ثلاث مؤلفات، هي: «يوميات الرئيس جمال عبد الناصر عن حرب فلسطين» نشرها على حلقات سنة 1955م بمجلة آخر ساعة، «فلسفة الثورة» صدر سنة 1965م، وأخيرًا رواية «في سبيل الحرية» نُشِرَتَ سنة 1959م.

وتزامنًا مع ذكرى ميلاده آثرنا أن نكتُب عن أهم وأبلغ مؤلفاته وهو كتاب «فلسفة الثورة» لِمَا يحمله هذا المُؤلَّف من دلالات تاريخية وسياسية كان لها الفضل في فهم سير الاحداث والأوضاع آنذاك. وبقول عبد الناصر، أن هذا الكتاب أشبه ما يكون بدورية استكشاف، لاستكشاف نفوسنا، لكي نعرف من نحن وما هو دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات، وهو أيضًا بيان للرؤى والأهداف التي تطلع لها قادة الثور، من أجل رسم خارطة مصر السياسية والاجتماعية.

والجدير بالذكر، أنه عندما صدر كتاب «فلسفة الثورة» أهداه الرئيس جمال عبد الناصر إلي الأستاذ عباس محمود العقاد بكلمة رقيقة يقول فيها: «إلى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد مع تقديري». وهو ما دفع العقاد إلى كتابة مقالًا عنه، والذي نُشِرَ بمجلة الهلال في عدد نوفمبر لسنة 1970م، يقول فيه:

فقد قرأت الصفحات الثمانين التي كتبها الرئيس جمال عبد الناصر في كتابه «فلسفة الثورة» فخرجت منها وانا اعتقد أن الخلاف عليها اقل خلاف في مثل هذه الصفحات وفي مثل هذا الموضوع. صواب ولا شك أن الحركة المصرية لا توصف بأنها تمرد عسكري، وصواب ولا شك أن الحاضر يعيش ببقية من مساوئ العهود الماضية، وهذا هو باب الاسف والأسى، ولكنه كذلك باب الأمل والعزاء، لأنه يدفع اليأس من النفوس إذا عولج، فلم يذهب به العلاج بين عشية وصباح، إذ لم يكن يمكن في غمضة عين أن تزول رواسب قرون. وصواب كذلك أن الشك آفة معطلة للجهود يشفع لأصحاب الشكوك ويعفيهم من عقاب لم يستحقوه وحدهم بعد أجيال وأجيال، ولكن العلاج المأمون نفسه هو الشفيع البليغ قبل شفيع الأنصاف.

يقول السيد الرئيس جمال عبد الناصر: «كان من السهل وقتها، وما زال سهلًا حتى الآن أن نريق دماء عشرة أو عشرين، أو ثلاثين، فنضع الرعب والخوف في كثير من النفوس المترددة، ونرغمها على أن تبتلع شهواتها واحقادها وأهواءها». ثم يقول: «ولكن اي نتيجة كان يمكن أن يؤدى إليها مثل هذا العمل؟.. كان من الظلم أن يفرض حكم الدم علينا دون أن ننظر إلى الظروف التاريخية التي مر بها شعبنا والتي تركت في نفوسنا جميعًا تلك الآثار».

نعم، يكون ذلك ظلمًا، ويكون أكثر من ظلم، لأنه يصيب من لم يصبه العقاب فيضاعف داء الشك والحذر، ويبطل فائدة العلاج وييئس من عقباه. على أن الصفحات الثمانين التي تحمل اسم «فلسفة الثورة» لا تنحصر بالقارئ في حدود الأفق المصري، وأن كانت لا تخرج به من آفاق المسألة المعربة في أوسع حدودها. فالمصري في عصرنا هذا لا يهتم بوطنه حقًا إن لم تشغله علاقاته بثلاثة آفاق أو عوالم، لا انفصال لها من وطنه، وهي العالم العربي، والعالم الأفريقي، والعالم الاسلامي من أقصاه إلى أقصاه، أين نحن من العالم العربي؟ أين نحن العالم الافريقي؟ أين نحن من العالم الاسلامي؟

نحن في قلب كل عالم من هذه العوالم، فليس في وسعنا أن نجهل علاقتنا بها ومستقبلنا معها. يقول الرئيس جمال: «أن نصف الاحتياطي المحقق من البترول في العالم يرقد تحت أرض المنطقة العربية. فنحن أقوياء أقوياء..» ويقول: «اننا لن تستطيع بحال من الاحوال، حتى لو أردنا... أن نقف بمعزل عن الصراع الدامي المخيف الذي يدور اليوم في أعماق افريقيا بين خمسة ملايين من البيض ومائتي مليون من الأفريقيين. اننا في أفريقيا، والنيل شريان الحياة لوطننا نستمد ماءه من قلب القارة».

ويقول الرئيس عن العالم الإسلامي: «حين أسرح بخيالي إلى ثمانين مليونًا من المسلمين في اندونيسيا، وخمسين مليونا في الصين، وبضعة ملايين في الملايو، وسيام وبورما، وما يقرب من مائة مليون في الباكستان، واكثر من مائة مليون في منطقة الشرق الأوسط ، وأربعين مليونًا داخل الاتحاد السوفييتي، وملابين غيرهم في ارجاء الأرض المتباعدة... حين اسرح بخيالي إلى هذه المئات من الملايين الذين تجمعهم عقيدة واحدة الخرج بإحساس كبير بالإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يحققها تعاون بين هؤلاء المسلمين جميعًا، تعاون لا يخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصلية بالطبع، ولكنه يكفل لهم ولإخوانهم في العقيدة قوة غير محدودة».

وهذا كله صحيح في الجملة والتفصيل، وليس الاهتمام به من طموح الشباب، كما يتخيل المتخيل الوادع في عقر داره، بل أخشى أن أقول من اعباء الشيخوخة قبل أوانها، بل من همومها في ابانها، إن كان حمل الهموم البعيدة وقفًا على الشيوخ!

ماذا نصنع أن جنى البترول على العالم العربي، فضيعه بدلًا من تزويده بأسباب القوة والمناعة، وماذا نصنع أن أصبحت افريقية للمستعمرين الأوربيين ولم تصبح في الغد القريب افريقية للأفريقيين. وماذا تصنع أن تهدم معنى الحياة كما تمثله المادية الحيوانية أو كما تمثله الحضارة الحسية، ولم تعتصم من التيار الجارف بعصمة شريفة تعمر نفوس الملايين، وترتفع بها من غمار الذل والاستكانة، أو عمار القنوط والحيرة. فروش جسام، ولكنها فروض واقعة لا تهدأ ولا تنام!!

وكما رأينا مع كلمة العقاد، كانت خير تعبير عما دار بين دفتي الكتاب، فجاء هذا الكتاب بمثابة توثيق للأحداث آنذاك، فكانت كلمات عبدالناصر، واضحة، وشارحة، كالمرآة تعكس لنا ما مرت به مصرنا الحبيبة، وعايشه المصريين في خضم الاستعمار والنظام الملكي، إلى أن جاءت ثورة يوليو وردت الموازين في اتجاها الطبيعي، لينعم الشعب المصري بحياة مدنية سليمة ومطمئنة.

هذه هي رؤية رجل سياسي، فكانت جامعه إلى ما مد بصره، فكان كعالم الاجتماع الذي يتحدث من موقعه، حيث قدم لنا دراسة نموذجية ومفصلة ليس فقط عن الشخصية المصرية وما تمر به من تعثرات، بل وعن الشخصية العربية ايضًا وما يحمله هذا الجموع العربي من قوة يستطيع أن يقاوم التحديدات التي تواجه أمام الفكر الغربي، شريطة الاتحاد والتعاون المتبادل، لتحقيق المنفعة الحقيقة للمجتمع العربي، وحفظ كافة حقوقه السياسية، والاجتماعية. وكما قال عبدالناصر، أنها محاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بنا في الماضي والحاضر، لكي نعرف في أي طريق نسير.

الاكثر قراءة