لا يختار الإنسان أقداره، بل تختاره الأقدار، ولا يعرف الإنسان ما هو مصيره، ولا كيف تكون نهايته، ومتى تكون؟ لكن .. أحياناً ما تكون لاختياراته الصغيرة تأثير كبير على مجريات حياته، فأحياناً ما تكون اختياراته هي منبع شقائه وسبب تعاسته، وما يريده ويحارب من أجله يحمله إلى حتفه، والدنيا التي تفتح له ذراعيها هي ذاتها التي تطعنه في ظهره عندما يشعر بدفيء عناقها، والحياة التي أعطت له وأغدقت عليه حتى ظن أنه ملكها هي نفسها التي تنقلب عليه فتأخذ منه كل شيء، حتى أنفاسه يستجديها منها فلا تمنحه إياها.
إذا تجولت يوماً في شارع المعز، وحملتك قدماك إلى شارع باب النصر في حي الجمالية، فلسوف تقف مشدوهاً أمام مبنى حجري قديم من بقايا عصر الأبّهة المعمارية، عصر المماليك التليد، ولسوف تتعلق عيناك به، هذا المبنى الفريد قد وصفه المقريزي، شيخ مشايخ مؤرخي العصور الوسطى، بأنه أجمل خانقاوات القاهرة. والخانقاة كلمة معربة عن الكلمة الفارسية "خانكاه" وهو المكان الذي ينقطع فيه المتصوفون للعبادة، وجمعت في تخطيطها المسجد، والمدرسة، وغرف ينقطع المتصوفون فيها للعبادة عرفت بالخلاوي. ومن جميل ما يتضمن هذا المبنى شباك كبير نبيل كان قد حُمِل من بغداد بعد سقوط الخلافة العباسية ليستقر فيها ولا يزال يحمل شيئاً من بريق الخلافة الغابر. هذه الخانقاة الصامتة الساكنة الآن كانت تعج بالبشر من المصلين والطلاب العلم والفقراء والمتصوفين، وكان الحديث النبوي يُدرَّس تحت قبتها الشاهقة، وكان القرآن يتردد بين جدرانها ويُتلى فيها دون انقطاع ليل نهار، وكانت تضم مطبخاً يوزع اللحم والخبز والحلوى كل يوم على الصوفية والفقراء المقيمين بها.
هذه الخانقاة ذات المنارة الفريدة، هي ما تبقى من تاريخ أحد سلاطين المماليك، الذي لم يطل به المقام على مقعد السلطنة في مصر سوي أحد عشر شهراً وأيام قليلة، هو السلطان ركن الدين بيبرس الجاشنكير.
في عصر لم يكن يأمن المرء فيه على رأسه من أقرب الأصدقاء له، حتى الطعام الذي يقدم له لا يدري أكان مسموماً أم لا، ظهر على سطحه الملتهب مملوك من أصل شركسي، كان جميل الصورة، أبيض البشرة، أشقر اللحية، أشهل العينين تخالط الزرقة سوادهما، اشتراه الملك المنصور قلاوون، ولم يمكث طويلا بعد أن تدرب على الفروسية والقتال حتى أصبح أميراً، بل ومصدر ثقة الملك نفسه، فاختاره ليكون في وظيفة "جاشنكير" وهي الوظيفة التي أبى التاريخ أن يخلعها عنه حتى بعدما صار قائد عسكر السلطان، بل وعندما صار السلطان نفسه، فلازمته طوال حياته وطوال التاريخ، وعرف بها، وهو المملوك بيبرس الجاشنكير. والجاشنكير كلمة ذات أصل فارسي مشتقة من كلمة "چاشني" وتعني تواب، وهي وظيفة في الدولة المملوكية كان صاحبها يتذوق طعام السلطان للتأكد من أنه غير مسموم.
بعد وفاة السلطان قلاوون خدم بيبرس الجاشنكير كلا من ابنيه السلطان الأشرف خليل، والسلطان الناصر محمد. وفي فترة حكم الناصر محمد بن قلاوون الثانية في المدة من 1299-1309م، تقلد منصب الاستادار، أي رئيس الخدم السلطاني، ثم قائد عسكري، واستطاع أن يخمد تمرداً قام به عرب البحيرة بعدما أوشك أن يكون فتنة كبيرة، ثم رُقّي أتابكاً للجيش، أي قائداً الجيش، وهو منصب كبير ، يعد صاحبه الرجل الثالث في الدولة بعد السلطان ونائبه. ثم ساهم مع الملك الناصر محمد بن قلاوون في الانتصار الكبير على قائد المغول "غازان"، أحد أولاد هولاكو، الذي خرَّب بغداد عند مرج راهط 709هـ. لكنه تحالف مع نائب السلطان على السلطان، وضيّقا عليه، فأصبحت الدولة تحت سيطرتهما، وأدرك السلطان الصغير السن أن ارادته مسلوبة، وأنه سلطان بلا سلطة، فخرج بصحبة أمرائه وأولاده ونسائه متظاهراً أنه إنما خرج للحج، حتى إذا وصل إلى العقبة، أبلغ أمرائه بأنه رغب عن الملك واختار الإقامة في الكرك، وأنه قد خلع نفسه من السلطنة، وللمماليك حرية اختيار سلطان عليهم.
تشاور أمراء المماليك فيما بينهم على من يولونه السلطنة، وكانت الكلمة يومئذ مجتمعة على نائب السلطنة "سلار، إلا أنه امتنع عنها، فاختار الأمراء قائد الجيش بيبرس الجاشنكير على أن يكون "سلار" نائباً له، وتحالفوا على السمع والطاعة لبعضهم. فحضر الخليفة العباسي المستكفي بالله والقضاة الأربعة، وتمت البيعة للجاشنكير وتلقب بالملك المُظَفّر ولبس خلعة السلطنة، وشق موكبه القاهرة في أُهبَّة. وتزينت له المدينة وكان يوماً مشهوداً.
لم تدم أيام الاحتفالات والابتهاج طويلاً، فما هي إلا أيام قلائل حتى راحت السكرة وجاءت الفكرة، فقد وردت الأنباء بأن ملك قبرص قد اتفق مع بعض ملوك الصليبيين على غزو دمياط، ثم وردت أنباء أخبار أخرى بتأهب المغول للهجوم على الشام. وداخلياً توقف النيل عن الوفاء فانخفض منسوب النيل، وشحت الغلال، وارتفعت أسعار القوت في الأسواق وفشا الوباء.
تشاءم المصريون من وجود بيبرس الجاشنكير على رأس السلطة في مصر، وألفوا أغنيات للسخرية منه وصاروا يرددونها في الشوارع حتى أنه أمر بالقبض على جماعة من العوام نحو ثلاثمائة إنسان، قطع ألسنة جماعة منهم، وضربوا الباقي بالمقارع، وشهروا بهم على جمال في أنحاء القاهرة ليكونوا عبرة لغيرهم. واستخدم عنف مفرط ضد العامة والتجار وحتى الأمراء.
وأمتد الأمر إلى المماليك، فصاروا إلى فريقين، فريق موال للسلطان القائم الجاشنكير، وفريق موال للسلطان السابق الناصر محمد وكاتبوه بالعودة، ففرَّ كثير من الموالين للناصر محمد إليه في الكرك، وبدا أن الأمور أوشكت أن تخرج عن سيطرة المُظَفّر،
فأرسل إلى الملك الناصر أميرين بكتاب مضمونه التهديد بنفيه من الكرك إلى القسطنطينية وتوعده بكل سوء. وبعث إليه ليأخذ خيوله ومماليكه، وطالبه بإعادة المال الذي أخذه من مصر إلى الكرك، وأمره أن لا يبقى عنده سوى عشرة مماليك مهدداً إياه بانه ان لم يفعل ذلك فلسوف يرسل اليه العسكر لتخرب الكرك عليه، فحنق الناصر، وكتب الناصر لنواب إمارات الشام يستعطهم ويثيرهم ضد بيبرس. فلما وصلتهم الرسائل أخذتهم الحميّة للدفاع عن ابن استاذهم، وأعلنوه سلطاناً وخطب له على المنابر بدمشق. وعندما وصلت الأخبار إلى القاهرة بقرب قدوم الملك الناصر راحت العامة تسب بيبرس في الشوارع فكان رده عليهم مشوب بالعنف المفرط مما زاد من مقتهم له وثورتهم عليه.
وإزاء وتيرة الأحداث المتصاعدة المتسرعة، والظروف التي أعطت للمظفر ظهرها، أسقط في يد بيبرس وعلم قرب زوال أمره، فاستشار أمرائه فأشاروا عليه بخلع نفسه من المُلك، وأن يستعطف الملك الناصر أن يُنعم عليه بمكان يتوجه إليه هو وعياله، و كتب إشهاداً بذلك أرسله مع أميرين من أمراء المماليك إلى الناصر ، الذي قبل تنازله عن العرش وبعث له بالأمان، لكنه كان قد دخل إلى خزائن السلطنة وأخذ منها ما قدر عليه من مال وسلاح وجواهر، وعين معه سبعمائة من مماليكه فأخرج لهم الخيول من الاصطبل السلطاني، وخرجوا من القلعة من تحت سترا الظلام.
فلما أصبح الصباح، شاع الخبر بين الناس بهروب الملك المُظَفّر، ودخل "سلار"، نائب السلطان وختم على خزائن المال، والاصطبلات السلطانية، وأرسل يكاتب الملك الناصر بما وقع من أمر بيبرس الجاشنكير .
فرَّ بيبرس الجاشنكير إلى بلدة أطفح بصعيد مصر ثم إلى مدينة أخميم عازما الهروب إلى برقة إلا أن أكثر مرافقيه تخلوا عنه وفارقوه في أخميم وعادوا إلى القاهرة فقرر عدم الذهاب إلى برقة، ولما وصل الملك الناصر إلى قلعة الجبل وجلس على تخت السلطنة لثالث مرة وزينت له القاهرة، أرسل من يستخلص منه الأموال التي استولى عليها من الخزائن، والخيول التي أخذها من الاصطبلات السلطانية، والمماليك التي كانت معه، ويبلغه بالذهاب إلى الكرك، ويقيم بها، وسوف يرتب له ما يكفيه، فقال الملك المُظَفّر: السمع والطاعة. ويبدو أنه فخ من فخاخ المماليك، فما لبث أن رحل بيبرس إلى السويس، حتى قُبض عليه، وأُحضر إلى القلعة وأودع وسُجن البرج الكبير بها. و مثل بين يدي الناصر مقيداً بالحديد، وبَّخه، وذكر له ما كان منه في حقه، وعدَّد له ذنوبه فأقرَّ بها بيبرس وطلب العفو ولكن الناصر أمر بإحضار المشاعلي (عشماوي)، وأمره بخنق بيبرس أمامه، وجلس يشاهد خروج آخر أنفاسه دون أن يستجيب لاعتذاراته وتوسلاته ثم غسل ودفن في القرافة خلف القلعة. ولم تنفعه سلطة سعى إليها، ثم اضطر إلى التخلي عنها، ولا الأموال التي سلبها من خزائن مصر، ولا نائب السلطان الذي تحالف معه، ولا مماليكه الذين تخلوا عنه حين وقعت الواقعة، ومالت الكفة عليه، كما لم تفده ألقابه التي حملتها النقود التي ضربت في عهده، فلم يأخذ من ألقابه: الملك المُظَفّر، وركن الدنيا والدين، وأبو الفتح، وقسيم أمير المؤمنين، لم يأخذ منها شيئاً ولم يكن منها جدوى.
وهكذا انطوت صفحته على قصرها، ولم يبقى ما يذكرنا به سوى خانقاته الوحيدة من أعمال البرّ له، وكان قد أمر السلطان الناصر محمد بغلقها بعد موته، وبمحو اسمه من عليها، لكن التاريخ كان منصفاً له في هذا الأمر فعاد اسمه إليها، وبقيت شاهدةً له .. وربما عليه.