يأتي هذا العام عُرس مصر المعرفي التنويري؛ معرض القاهرة الدولي للكتاب يحمل شعارًا يعكس مكانة مصر وقدرها المعرفي، ودورها في تفعيل العقل الإنساني ،وصيانة فكره ومعارفه، والرقيّ بوجدانه ومشاعره ،فقالت مصر – ذات الموقع الفريد بين المشرق والمغرب الإسلامي، والمكانة الدينية والعلمية والثقافية – قولتها الحضارية " نصنع المعرفة .. نصون الكلمة "، ولا عجب في ذلك فهذه هي رسالة مصر التنويرية ورمز هويّتها عبر العصور .. فثقافتها الدائمة هي المعرفة، هي الكلمة الطيبة المستنيرة، هي الحضارة الراشدة الزاهية التي هي جماع معارف الأمة المتوارثة في تحوّلاتها الحياتية التي تعطي وجوبًا شرعيًا لثقافة شعب برهن أنه أهل للحكمة والمعرفة، وتؤكد فكر أمة وهبت الدنيا أقمارًا وعمالقة في الفكر والأدب والفنّ، واللغة والدين ..
والحقيقة إنّ ديمومة معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي أعلن هذا العام بأننا / في مصر " نصنع المعرفة .. نصون الكلمة "، إنما تؤكد كلّ ما سبق وأكثر، بل تؤكد هويّة أمتنا الثقافية الأصيلة، بخصوصيّتها الإنسانية الحضارية، بثوابتها الفكرية والمعرفية والإبداعية المائزة، برموزها أصالةً ومعاصرةً على اختلاف مشاربهم وعطاءاتهم – رفاعة الطهطاوي، علي مبارك ،محمد عبده، عبدالرحمن الرافعي، مصطفى صادق الرافعي، محمد حسين هيكل، محمد فريد وجدي ،أحمد أمين، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم ،محمود تيمور، أحمد لطفي السيد، المنفلوطي، أحمد حسن الزيات، طه حسين، عباس محمود العقاد، خالد محمد خالد،جمال حمدان، علي عبدالرازق ،زكي نجيب محمود، عبدالرحمن الشرقاوي ،محمود أمين العالم ،لطفي الخولي ،محمد مندور ،حسين مؤنس ،يحيى حقي ،إحسان عبدالقدوس، نجيب محفوظ ،يوسف إدريس، يوسف السباعي، حامد عمّار ،بنت الشاطئ، وسيد درويش، وعبدالوهاب، وأم كلثوم، وغيرهم كثير ممن عرفتهم مصر من أصحاب الفكر والرأي والإبداع العربي الأصيل، مِمّن سكنوا الوِجدان العربي، بل العالمي - لتأتي مصر اليوم في تحوّلها الحضاري بهذا الحضور المعرفي العالمي / معرض الكتاب – مُنطلقًا عُروبيًا دُوليًا، يُجدّد دماء أمّة ( اقرأ )، ويحفظ عليها هُويّتها، وهي التي ما زالت ( تصنع المعرفة ،وتصون الكلمة الطيبة )في هذا الوجود ..
ذلك أنّ حقيقة هذه الأمة ؛ أمة ( اقرأ ) بعالميةِ وخُلُودِ مُنْجزها العربي والإسلامي تؤكّد أنها خُلقت لِتهب الحياة فضاءات المعرفة التي وَسِعَت رحابة هذا الكون الفسيح، ومازال عطاؤها الإنساني موصولًا ممتدًا في رحم هذا الكون ،كامتداد هذا المحفل الثقافي /عُرس مصر الثقافي الذي مازال حاضرًا بقوّة وتوهج على أرض المحروسة بمراياه الصافية المُتجاورة المتحاورة على امتداد خارطة الوطن العربي، من خلال احتفائه هذا العام برموز حقّقت لمصر خصوصيتها الثقافية على جميع الصُّعُد العالمية، في مقدمتهم: الأثري المصري العالمي سليم حسن، والشاعر الإيطالي دانتي شاعر المتوسط، ونجيب محفوظ قيصر الرواية العربية، والكاتب والروائي الكبير يحيى حقي صاحب رائعة قنديل أم هاشم، والكاتب والمفكر السياسي صاحب (الأعمدة السبعة للشخصية المصرية) الدكتور ميلاد حنا الذي يحتفل المعرض بمئوية ميلاده هذا العام ،والفنان فؤاد المهندس، والأديب النابغة صاحب العبرات والنظرات مصطفى لطفي المنفلوطي، ورائد السيريالية الشعبية ابن حي القلعة الفنان التشكيلي حامد ندا أحد أعمدة الحركة الفنية التشكيلية المعاصرة.
وليس هذا وحسب ، فيزدان المعرض إلى جانب الرموز السابقة بالعديد من الكتّاب والشعراء والنقاد المصريين والعرب ضيوف شرف هذا المحفل الحضاري الكبير، في مقدّمتهم :الشاعر الناقد والأكاديمي العراقي الدكتور علي جعفر العلّاق صاحب السيرة الذاتية الشهيرة ( إلى أين أيتها القصيدة ) ، والشاعرة العمانية عائشة السيفي أول امرأة شاعرة تُحقّق لقب وبردة ( أمير الشعراء ) في موسمه العاشر، والروائي الكويتي سعود السنعوسي الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية عام 2013م في دورتها السادسة عن روايته الشهيرة ( ساق البامبو )والتي لاقت كثيرًا من الدراسات النقدية لاهتمامها بموضوع العمالة الأجنبية في دول الخليج ، والشاعر العُماني زهران القاسمي، والمفكرة المصرية الحاصلة على جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي عام 2023م؛ الدكتورة يُمنى طريف الخولي أبرز أعمدة الحركة الفكرية العربية في المعاصرة، والتي أسهمت في نشر الثقافة العلمية وأصول التفكير العلمي والعقلاني بالعشرات من المقالات والبرامج التلفزيونية والمحاضرات العامة، صاحبة الفكر الفلسفي المستنير، والذي ظهر جليًا في كتابها الماتع ( فلسفة العلم في القرن العشرين ) الذي نشرته سلسلة عالم المعرفة، لإيمانها بأنّ ظاهرة العلم أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، وأعظمها تمثيلًا لحضور الإنسان – الموجود العاقل – في هذا الكون، وفي القرن العشرين تضاعفت مردودات العلم حتى بات الفاعل الحاسم في تشكيل العقل والواقع على السواء، وباتت فلسفة العلم أهم فروع الفلسفة في القرن العشرين، والمعبّرة عن طبيعة المدّ العقلي فيه.
ويأتي الشاعر الكبير ،الأكاديمي المصري؛ أستاذ علم الجمال بقسم الفلسفة بآداب حلوان الدكتور حسن طلب ضمن هذه الكوكبة من ضيوف شرف هذا المحفل الثقافي والحاصل مؤخرًا على جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية 2023م في دورتها الـ18، وذلك لتميزه في مجال الشعر العربي، وإسهامه الفاعل في تطور الأدب والثقافة على امتداد خارطة الوطن العربي ،فهو أحد المؤسسين لجماعة ( إضاءة ) للشعر عام 1977م، والذي شرّق وغرّب من أجله، وتغنى به في سماوات اليونان، والمغرب، وسوريا، والأردن ،وفرنسا ،والدنمارك ،وكولومبيا ،على منصات مؤتمرات هذه البلاد الأدبية والشعرية، الأمر الذي قاده نحو الحصول على العديد من الجوائز، فحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة في عام 1990م،ثمّ جائزة كافافيس اليونانية للشعر عام 1995م ، وجائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافي في عام 2006م، والتي جاءت مناصفة مع الشاعر العماني سيف الرحبي.
ولأنّ مصر قلب العروبة ودائرة الوجد العربي، نراها تجمع بين علمين لهما مكانتهما الخالدة في المكون الحضاري النقدي لأمتنا في المعاصرة، حيث يحتفي المعرض هذا العام من خلال جديده الذي يفعّله لأول مرة (مؤتمر اليوم الواحد) – بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، و(عاشقة الليل) الشاعرة العراقية نازك الملائكة، تأكيدًا على تأثير المصريين والعرب في الفكر الإنساني . حيث يُحمد لها تقدّمها في تجديد شكل القصيدة العربية في العصر الحديث من خلال ما يعرف بشعر ( التفعيلة ) التي أصبحت رائدة له بين شعراء العصر الحديث، بعد إبداع قصيدتها المشهورة ( الكوليرا ) عام 1947م ، ووضعت لذلك قوانين وأطرًا ،بُغية الحفاظ على عرش القصيدة العربية من الفوضوية التي كانت تُهدد أصالتها آنذاك.
ولا عجب في أن تُقيم القاهرة للعميد مؤتمرًا في هذا المحفل الدولي، وهو الرجل الجريء العقل، المفطور على المناجزة والتّحدّي،والمثابرة والمرابطة، والذي أراد لأمّته انفتاحًا على الآخر/ الغرب رافضًا التبعية، وأعمل فكره كثيرًا حينما أراد للشخصية العربية الاستنارة لا الغياب أو التقليد الأعمى، وللعقل العربي أن يكون موجودًا وفاعلًا لا أنْ يكون تصادميًا رجعيًا مُنعزلًا، وذلك من خلال عطاءاته الفكرية والثقافية، ومعاركه الحضارية والنقدية، واحتفائه بتراثه الإسلامي والعربي ليُثبت أنه نِدٌّ للغرب، وشريكٌ في الحضارة الإنسانية .وغيرها كثير من المقاربات الفكرية والنقدية والثقافية التي ظهر فيها العميد قويًا فتيًا ،يتحدّى ببصيرته المِحن وقيود محبسه، حتى استطاع نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث من دائرته الضيّقة التي كان عليها إلى أوسع وأرحب بكثير، فأضاء العالم من حوله بزخم من العطاء الإنساني المختلف في طرحه، المتوحّد في صوته ( الطحسني ) ، فكان العميد ،والرائد ،والمبدع ،والكاتب، والمفكر، والمثقف ،والوزير، والأستاذ الأكاديمي،وكلها فضاءات جعلت منه أبرز رموز الثقافة العربية والإسلامية في القرن العشرين ،لتترجم تلك الفضاءات المعرفية اليوم وللأجيال المتعاقبة ثقافة هذا الشعب المُبدع، وفكره المستنير، ولتعلم الدنيا أنّ مصر على مرّ العصور (تصنع المعرفة، وتصون الكلمة) .
بينما الحضور اللافت في هذه التظاهرة الثقافية، هو ذلك الاحتفاء بعلمين مصريين تركا نتاجًا معرفيًا إنسانيًا أصبح كل منهما رائدًا في بابه ، وهما يستحقان تلك الحفاوة . فجاءت الشخصية الأولى ( عميد الأثريين المصريين ) شخصية العام للمعرض في دورته الحالية الـخامسة والخمسين، بعد إعلان اللجنة العليا المنظمة اختيار هذا العالم الأثري الكبير الدكتور سليم حسن شخصية المعرض الرئيسة . فالرجل صاحب أكبر مشروع حضاري في العصر الحديث؛ (موسوعة مصر القديمة ) التي جاءت في ثمانية عشر مجلدًا، ليكون أوّلَ عالم مصريات يضع موسوعةً كاملة متكاملة في أبوابها بمفرده، تهدي الباحثين في شتّى مناحي الحياة في مصر القديمة عبر عصورها، وتُلقي الضوء على تاريخ حضارتنا المصرية القديمة، لتكون كما وصفها مختار السويفي في تقديمه لها " أعظم موسوعة في التاريخ المصري القديم، وتاريخ الحضارة المصرية القديمة " ..
أمّا الشخصية الثانية ؛شخصية معرض الطفل ،أبرزرواد أدب الأطفال في العصر الحديث في وطننا العربي ؛الأديب المبدع ( يعقوب الشاروني ) الذي رحل عن دنيانا في الثالث والعشرين من نوفمبر من العام المنصرم 2023م، بعد حياة حافلة بالإبداع والعطاء الذي سوف يظل حاضرًا في الوجدان العربي، حاضرًا في الدرس الأدبي في مجال دراسات أدب الطفولة على امتداد خارطة الوطن العربي، وهو الذي شهد له كبار الكتّاب والنقاد في العصر الحديث،أ مثال توفيق الحكيم الذي رشّحه عام 1963م لمنحة التفرغ للكتابة الأدبية ، قائلًا :" أزكّي هذا الطلب بكل قوّة لما أعرفه عن السيد يعقوب الشاروني من موهبة تجلّت في مسرحية (أبطال بلدنا )التي ظفرت بالجائزة الأولى في مسابقة المجلس الأعلى للفنون والآداب " .وفي تقرير اللجنة التي منحته جائزة أحسن كاتب أطفال سنة 1981م ، قالت الدكتورة سهير القلماوي : "إنّ أسلوب الأستاذ يعقوب الشاروني بالنسبة لما يجب أن يكون للأطفال ، قد حقّق آفاقًا بعيدة المدى، سهولةً وبساطةً وتعليمًا، إنه أسلوب واضح المعالم، مُستجيب لكل ما نطمع فيه من حيث اللغة التي نخاطب بها الأطفال " وما تُوحيه من براءة وصفاء وسعادة، فجاءت كتاباته للطفل معانقة طفولة الكتابة التي تجسد قيم الطفولة في مستواها المطلق بعد استحضار الطفولة التي عاشاها في تحوّلاته الحياتية حتى أصبح أبرز كتّاب أدب الطفل، بل رائده الذي أخلص لذلك الجنس الأدبي، فصنع معرفته بحرفية أدبية متميزة ،وصان كلمته التي أُعجب بها القاصي والداني ، وبُهر بها المجلس القومي للطفولة والأمومة الذي يقّدم في هذا المحفل الثقافي الدولي من خلال مبادرة ( دوي ) العديد من الفعاليات والأنشطة المختلفة لتمكين الطفل من قراءة ما كُتب له، وما أُعِدّ من أجله في جناحه الخاص بالمعرض هذا العام ( جناح الطفل ) والقاعات المخصصة لأنشطته الترفيهية والتعليمية، والتوعوية التي تضمن حقوق الطفل ..
ولا شك أنّ الطفل قد نال اهتمامًا كبيرًا هذه الدورة من عمر معرض الكتاب، والتي جاءت متميزة وفارقة في تاريخ المعرض،الذي حفل باهتمام قياداته الثقافية بشخصيات لها مكانتها في التاريخ الإنساني بما أسهمت به في بناء فكر أجيال اعتزت بهويتها، وحرصت على خصوصيتها وتواجدها على الصعيد الدولي ، وقد تُرجم ذلك السعي الحثيث من وزارة الثقافة إلى وجود (مملكة النرويج ) هذا العام ( ضيف شرف ) هذا العُرس الثقافي المصري الدولي ، والذي يمثل خطوة جادة نحو التخاطب مع ثقافة شمال أوروبا من خلال تمثيل ملكي، حيث تشارك القراء والزوّار للمعرض هذا العام الأميرة ( ميته ماريت ) قرينة ولي العهد النرويجي، وهذا التناغم مع الآخر الذي أتى إلينا ليتعرّف على ثقافتنا وفكرنا وطبيعة الشخصية المصرية سوف يتيح آفاقًا رحبة للتبادل الثقافي والإبداعي بين البلدين، وهذا يُحمد لوزارة الثقافة التي تحرص على ما أسمته الدكتور نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة بالعدالة الثقافية في الداخل، والانفتاح على الثقافات الإنسانية.
إنّ معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يُعدّ من أكبر معارض الكتاب في الشرق الأوسط بل ثاني أكبر معرض دولي بعد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، أراه حياةً وأسلوبًا للحياة الحقّة وسلوكًا معرفيًا، وليس ترفًا ومرحًا، حيث يبدو المشهد الثقافي لزائره مرايا صافية متجاورة متحاورة لقاماتنا في كل القضايا الفكرية والثقافية والعلمية والدينية والاجتماعية والوطنية مُشعّة تلك المرايا بأنوار إبداع عربي أصيل يسمو بالذائقة العربية، وبالوِجدان الإنساني لمبدعي مصر ؛ تلك (القوة الناعمة) التي تتّسق مع رؤية الجمهورية الجديدة ط، ونشر المعرفة الإنسانية التي تؤكد مكانة مصر وريادتها الثقافية والحضارية، وتكشف النقاب عن عناقيد المعرفة والبيان ،ومعدن هذه الأمة التي: تقرأ ، وتُبدع ، وتُفكّر ، وتُحاور .
وإن أردنا كبد الحقيقة ،قُلنا :إنّ معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام، والذي أخذ على عاتقه ( صناعة المعرفة ،وصون الكلمة .. ثقافةً وفكرًا وإبداعًا )، إنما يؤكد خُلُود المُعطى الفكري العربي الحضاري، وديمومة الإبداع العربي الأصيل لِأُمّةٍ كُتِبَ لِمُنجزها المعرفي – ثقافتها، وفكرها، وحواراتها العقلية، وعطاءاتها الوِجدانية الإنسانية الكونية قَصبُ السبق على امتداد خارطة العطاء المعرفي العالمي حتى اليوم، وفي الوقت ذاته يأتي صفعةً حضاريةً في وجه حملات التغريب والاستلاب التي تتعرّض لها الأمة بين الفينة والفينة .
تحيّة للعقل المصري الأبي ؛الحاضر أبدًا في المشهدين العربي والأفريقي، بل العالمي، رغم الظروف والمحن التي تُحاك ضدّه، تحية لمصر المعطاء يوم عُرسها الثقافي السنوي/ معرض القاهرة الدولي للكتاب، وأعلامها رواد الكلمة المبدعة والفكر المستنير ،الذين آمنوا بفرضية المعرفة، وجدّدوا بها فضاءات الدنيا، فوهبوا الحياة: الجلال والجمال، والحكمة وفصل الخطاب.