الإثنين 29 ابريل 2024

رؤى فلسفية| «رينيه ديكارت».. ومشروعه الفلسفي (3 – 5)

مقالات13-2-2024 | 14:23

أنهينا مقالنا السابق، بالتساؤل ما هي الأسس التي اتخذها ديكارت لتشييد مذهبه، جعلته يظهر في صورة فلسفة جديدة ومغايرة لكل الفلسفات السابقة له؟ وهدفنا من هذا التساؤل بيان الطريق، أو المنهج الذي سلكه فيلسوفنا للوصول إلى المعرفة الحقيقية والصادقة، وليس المعرفة المرضية لنفسه وعقله. وهنا نضع ادينا على أهم وأبلغ جزء ليس فقط بفلسفة ديكارت، ولكن في الفكر الفلسفي بأكمله، ومقصدنا هنا الهدف من فعل التفلسف ليس الوصول إلى حل أو معرفة مرضية، بقدر ما هو الوصول إلى معرفة حقيقية لها أسس وقوانين وقواعد، بعيدة كل البعد عن عبث الهوى.

عزيزي القارئ فلكي يكون لفلسفة ديكارت أساس راسخ، عقد العزم على أن يشك في كل شيء يستطيع الشك فيه، وهو يبدأ بالشك في الحواس، ويتسأل: هل في وسعي؟ أن أشك في أنني جالس هنا على مثابة النار مرتدياً عباءتي؟ نعم، لأنني حلمت أحياناً أنني كنت هنا بينما كنت في الواقع عاريًا في فراشي. يقول ديكارت في هذا الصدد: «ينبغي لنا، كي نقيم العلوم علي قواعد ثابتة، أن نرفض كل آرائنا القديمة، ولو مرة واحدة في حياتنا».

إذن الشك ليس مقصودًا هنا لنفسه، بل لامتحان معارفنا وقوانا العارفة، ولسنا بحاجة كذلك إلى استعراض تلك الآراء واحدًا تلو الآخر، بل يكفي أن نستعرض المبادئ، فإن هدم الأساس يجر وراءه كل البناء. كما استخدم ديكارت هنا تشبيهًا شهيرًا آخر، حيث يشبه العقل الإنساني بسلة مليئة بالتفاح أي بالمعارف من أنواع وأشكال مختلفة. ولما كنت على يقين من أن بعضًا من التفاح معطوب، فسيكون على أن اخرج من السلة كل ما أشك في أنه معطوب كي لا يفسد الباقي. ولكن كيف كانت معالم طريق الشك مع ديكارت؟

أ- الشك في الحواس:

بدأ ديكارت بالشك في الإدراك الحسي، أي أن كل معرفة تصل إلى عقولنا عن طريق الحواس الخمس، وإن كان الادراك الحسي – أو ما نطلق عليه «الحس المشترك «Common Senseموضع ثقة تامة عند الرجل العادي فإنه مشكوك فيه تماماً عند الفلاسفة من الاتجاه العقلاني أو المثالي. أي انه أستبعد «شهادة الحواس».

ب- الشك في العقل:

ثم أستبعد ديكارت شهادة العقل نفسه لأن بعض الناس قد يخطئون في الاستدلال ولو في أبسط قضايا الهندسة، وأفترض أن هناك «شيطان ماكر» مخادع يعبث بعقلي، فيريني الباطل حقاً والحق باطلًا، ويجعلني أخطئ على الرغم من يقين نفسي، وهكذا أستبعد "ديكارت" شهادة الحواس، بل شهادة العقل.

الشك الديكارتي إذن هو وسيلة لتطهير العقل وتصفيته، وهو مبدأ الحقيقة، ومنبه الفلسفة من أخطائها، ويقف العقل عند حده، ويرشده إلى مواطن نقصه. والسؤال الآن، هل كان الشك هو المنهج الذي سلكه ديكارت لبناء فلسفته، أم أن كان اللبنة الأولى في هذا البناء؟

صديقي القارئ تميز القرن السابع عشر بميزة مهمة – وهو العصر الذي عاش فيه ديكارت – وهي عناية المفكرين بمسألة المنهج أو الطريقة الواجب إتباعها في البحوث العقلية، وقد رأي ديكارت أن البحث في المنهج هو أهم المشكلات وأولاها بالعناية في مهمة الفيلسوف، حيث أراد أن يجعل بداية إصلاحه الفكري الظفر بطريقة قويمة للحصول على المعرفة الحقة، بواسطة النور الفطري المبثوث فينا جميعاً وهو نور العقل.

يعتمد منهج ديكارت على البدء بالحقائق الواضحة البديهية، وعلى تحليل الظاهرة المركبة إلى عناصر بسيطة حتى يمكن للعقل فهمها بوضوح، ولقد أدي هذا المنهج بالفعل إلى إنجازات كبيرة وإلي زيادة سلطة الإنسان. أخذ فيلسوفنا يفضل الطريقة التحليلية التي تبين الوسائل الصحيحة لاستنباط شيئًا ما، استنباطا منهجيًا، وكان البرهان التأليفي الذي أستعمله «اقليدس» يجبرنا على التصديق دون أن يرضي عقولنا التي تبحث معه عن الحقيقة.

كما أشاد «جان فال» الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي، بمنهج ديكارت الذي مكنه من صنع وبناء فلسفته، قائلًا: «كان ديكارت صاحب منهج يسمح لنا بالوصول إلي العلم العام للنظام والقياس.. منهج لم تكن الرياضيات إلا غلافه فحسب. وهذا المنهج مؤلف من حدس بالطبائع البسيطة، ومن الاستنباطات التي ليست إلا حدوسًا متتابعة، على حين أن الإحصاء يمهد للحدس والاستنباط ويدعمهما». والسؤال الآن، كيف استخدم ديكارت الحدس والاستنباط، يسمح له من صنع هذا المنهج الذي أثنى عليه جان فال وغير من الفلاسفة والباحثين، ومن ثم لإقامة فلسفته؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون موضوع مقالنا القادم.

Dr.Randa
Dr.Radwa