السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

حكايات من زمن المماليك (5)| الصديق القاتل

  • 25-2-2024 | 16:05
طباعة

تظل الصداقة قوية البنيان عميقة الجذور ما لم تعتريها الأنانية وينهش فيها الحسد، ويغتالها الغدر، فآفة مجتمع الأصدقاء التحاسد، وطاعون الصداقة الحقد، ومن أمراضها المميتة الصراع والتنافس، الذي يتدرج من صراع على المال والثروة، إلى صراع على المنصب والسلطة، أو أشياء أخرى، وقد يتطور الصراع والتنافس إلى صراع على الحياة  والبقاء.

الظاهر بيبرس وسيف الدين قطز، جمعتهما صداقة ممتدة الجذور منذ الصبا، فقد التقيا في أسر الرق، وألّفت بينهما الجندية، ثم صار قطز تحت إمرة أميره "عز الدين أيبك"، بينما صار بيبرس مملوكاً تحت إمرة "الأمير أقطاي"، وكانا متصادقين بتصادق قائديهما.

كانت نشأة قطز في بيت عز، فنشأ نشأة الأمراء، ولم يكن ذلك اسمه الذي لقبه به والده الأمير ممدود ابن عم جلال الدين خوارزم شاة سلطان الدولة الخوارزمية، بل هو الاسم الذي أطلقه عليه التتار، وتعني في اللغة التتارية "الكلب الشرس" لأنه قاومهم بشراسة عندما اختطفوه طفلاً بعد سقوط الدولة الخوارزمية على أيديهم وكان ذلك على الأرجح عام 628هـ.

أما بيبرس فنسبه غير المعروف، أو بالأحرى غير موثق، وتتضارب الآراء في تاريخ مولده، فالبعض يرى أنه ولد في عام 617هـ، والبعض الآخر يرى 620هـ، والبعض الثالث يرى 625هـ. وترجع أصوله، إلى قبائل القفجاق، التي كانت تسكن مناطق القوقاز والقرم شمال البحر الأسود (كازاخستان حالياً). وبيبرس، اسم تركي يتألف من شقين هما: "بي" أي أمير و"برس" أي فهد. ويذكر بعض المؤرخين أنه كان فتى يحفظ القرآن، سليل بيت ملكي، يتصف بالفطنة والوجه الحسن، ثم قدِّر له أن يقع في الرِّق. 

بِيع قطز مملوكًا إلى أحد أثرياء دمشق، ويكاد يكون في نفس التوقيت الزمني، وصل بيبرس إلى حماة في الشام في ثياب الرق، حيث بيع إلى الملك المنصور محمد أمير حماة لكنه لم يعجبه، وأرجعه إلى التاجر، الذي ذهب به إلى سوق الرقيق بدمشق، وهناك اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري، ومن هنا جاءت لقبه "البندقداري"، وتعني الموظف المكلف بحمل غرارة البندق خلف السلطان أو الأمير.

انتقل قطز إلى مصر وبِيع مملوكًا للملك الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوك الدولة الأيوبية، الذي عهد به إلى الأمير المملوكي عز الدين أيبك، فالتحق بمدرسة المماليك، وفيها تعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم حفظ القران الكريم ومبادئ الفقه الإسلامي، ثم فنون القتال من الرمي بالسهام والقتال بالسيوف، وركوب الخيل ووضع الخطط الحربية. وكذلك انتقل بيبرس بعد مصادرة ممتلكات سيده علاء الدين أيدكين إلى خدمة السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب بالقاهرة، الذي أعتقه، ومنحه الإمارة فصار أميراً، ولقّبه بـ"ركن الدين".

اشترك قطز وبيبرس في معركة المنصورة ضد الصليبيين في حملتهم السابعة، في رمضان من عام 647هـ/1249م، وتمكن المماليك بفضل الخطة التي وضعها بيبرس، وبمساعدة قطز، في هزيمة الصليبيين هزيمة منكرة وأسر ملكهم الفرنسي لويس التاسع وحبسه في دار القاضي ابن لقمان إلى أن تم دفع دية لفدائه ومن معه من الأسرى.

وعندما دَبَّ الخلاف بين عز الدين أيبك وفارس الدين أقطاي، قرر أيبك إنشاء فرقة من المماليك عرفوا فيما بعد بالمماليك المعزية نسبة إليه، وعين مملوكه قطز المعزي نائبًا للسلطنة في مصر، ولمَّا أحس أيبك بخطر الأمير أقطاي وخطر فرقته المماليك البحرية، خشي على حياته بعد أن وصلته أخبار عن عزم أقطاي اغتياله، فدبّر خطة لاغتيال أقطاي بمساعدة نائبه قطز وبعض مماليكه. واستدعى أيبك غريمه أقطاي للمثول أمامه في القلعة لاستشارته في بعض الأمور، وفي الميعاد المحدد حضر أقطاي إلى القلعة ومعه عدد من مماليكه، ودخل باب القلعة المؤدي لقاعة العواميد، وتم اغلاق الباب ومنعت المماليك البحرية من الدخول، وبسرعة انقض عليه الأمير قطز ومن معه من المماليك المعزية وقتلوه بالسيوف. وكان مقتل أقطاي، بداية حلقة من سلسلة طويلة من المؤامرات والدسائس الدامية بين المماليك لم تنته إلا مع انتهاء دولتهم.

كان بيبرس من أنصار أقطاي، ويعمل تحت إمرته، لم يجد مع مجموعة من رفاقه، وقد شعروا أنهم معرضون للتصفية، سوى الفرار إلى الشام، التي كان أميرها في عداوة مع أيبك، ولم يعد بيبرس إلى مصر إلا بعد مدة من حياة التنقل وعدم القرار، ما بين دمشق، والكرك، وغزة، وبعد مقتل عز الدين أيبك، وتحديداً عندما اجتاح المغول المشرق الإسلامي، فاتصل بيبرس بسلطان المماليك الجديد سيف الدين قطز، صديقه القديم، الذي دعاه للعودة وأقطعه قليوب وأنزله بدار الوزارة وعظّم شأنه لديه، وعيّنه قائداً للجيش، وفوّض إليه أمور المملكة كلها.

صفت سماء الود بينهما من الغيوم، والتقى الرفيقان بعد فرقة غير طويلة، على هدف واحد، وخطّطا معاً لمواجهة الخطر المغولي، الذي أسقط الخلافة الإسلامية في بغداد.

 قامت مقدمة الجيش تحت قيادة بيبرس بهجوم سريع، ثم تظاهرت بالانسحاب، فكرَّت وراءها قوات المغول دون أن تدري أنها ستقع في كمين محكم من بقية الجيش التي تختبئ بين التلال وفي الوديان المجاورة، فقد خرج قطز وبقية مشاة وفرسان الجيش وعملوا على تطويقهم ومحاصرتهم، ولم يمض وقت طويل حتى لحقت بهم الهزيمة.

أعقب هذا النصر الكبير في معركة عين جالوت سنة 658هـ، نصر آخر عندما تتبع الجيش المصري التتار في بيسان إلى الشمال من سهل عين جالوت في فلسطين، وواصل مطاردة فلولهم حتى وصل إلى دمشق وحرر الشام من خطرهم، ثم عاد إلى مصر.

وفي طريق العودة، وقرب الصالحية وعند قرية القرين في محافظة الشرقية، رأى الملك المظفر قطز أن يخرج وقتاً للنزهة والصيد، وخرج معه الأمراء، وأثناء التنزه دنا منه بيبرس متظاهراً برغبته أن يقبِّل يده، أو هكذا خيّل إلى قطز، وكان قد أنعم عليه بيبرس بجارية جميلة من سبايا التتار. وقيل إن بيبرس جاءه يتشفع في شيء فشفّعه فأخذ يده ليقبِّلها، فأمسكها وعلاه بيبرس بالسيف فخرَّ صريعاً، ثم حمل عليه بقية الأمراء بالسيوف.

ما يؤلم حقاً أن يكون بيبرس صاحب التدبير وله اليد العليا في قتل الملك المظفر قطز، أو أن يشترك في قتله، وأن تحدث هكذا غيلة وغدراً. ربما كان حقداً من بيبرس على صاحبه قطز، وطمعاً في السلطة، وربما كان حنقاً وغضباً من قطز، فقد قيل إن قطز بعدما انتصر على التتار في عين جالوت، كرَّ وراءهم لتحرير بقية مدن الشام منهم، فتحررت دمشق وحماة وحمص وأرسل بيبرس ليطرد التتار من حلب ويتسلمها ووعده بنيابتها، فلمّا طردهم منها وتسلمها المسلمون، استناب عليها علاء الدين ابن صاحب الموصل، وكان ذلك سبب الوحشة التي وقعت بينهما.

وربما أقدم بيبرس على قتل صاحبه ثاراً منه لاشتراكه في قتل أميره "أقطاي". وقيل إن قطز عندما طعنه بيبرس سأله عن سبب ذلك الفعل فأجابه بيبرس أنه شكَّ أنه يريد قتله كما قتل أميره فارس الدين أقطاي في قلعة الجبل، فأخبره قطز أنه كان سيتناول له عن السلطنة، وعفا عنه لأنه أراحه من غمِّ العيش بعد مقتل زوجته جلنار بنت جلال الدين السلجوقي، وأمر بتعيينه سلطاناً.

بعدما قتل قطز بقي ملقًا على الأرض مضرجًا بدمائه دون أن يجرؤ أحد على دفنه، إلى أن دفنه بعض غلمانه. وصار قبره يقصد للزيارة والتبرك والناس يترحمون عليه ويدعون على قاتله، فنقل الملك رفاته وأخفى عن العامة أثره، ولم يعرف خبره، ثم نقلت بعد ذلك إلى القرافة حيث دفن بالقرب من زاوية ابن عبود.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة