الأحد 5 مايو 2024

هل تنبأ ميخائيل نعيمة بالثورة الفرنسية؟.. «حوار نادر» بمجلة الهلال

ميخائيل نعيمة

كنوزنا28-2-2024 | 15:42

بيمن خليل

يُعدّ الأديب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة من أبرز أدباء المهجر، إذ ينتمي إلى جيل قاد النهضة الفكرية والثقافية، وأحدث يقظة في الأدب دفعت نحو التجديد، لم يكن نعيمة مُجرد أديب، بل كان مفكرًا كتب بلغاتٍ متعددةٍ كالعربية والإنجليزية والروسية، كما تعمّق في النفس البشرية وتناول جميع أجناس الكتابة الأدبية، وُعرف عنه تميّزه في نثره، إذ جمع فيه بين الفكر المتنور والانفتاح على الحضارات الأخرى من جهة، وبين الالتزام بالهوية والانتماء للأمة العربية من جهةٍ أخرى، فهو نمطٌ من المفكرين لم يَعُد لهُ مثيلٌ في حياتنا الأدبية، إذ بروحانيته وتصوّفه يبدو فريدًا ووحيدًا.

 

وإن كان طه حسين بكتابه «في الأدب الجاهلي» قد أحدث ثورةً فكريةً، والعقاد مع المازني وعبد الرحمن شكري قد جدّدوا في الشعر العربي العصري، فإنّ ميخائيل نعيمة مع زملائه من أعضاء الرابطة القلمية - جبران ونسيب عريضة وعبد المسيح حداد - في المهجر قد حافظوا على "عروبة" الكلمة.

 

ونشرت مجلة "الهلال" حوارًا نادرًا مع الأديب الكبير ميخائيل نعيمة أجراه معه الكاتب أحمد أبو كف، عام 1967م، عن النقد والفن والتصوّف في حياة "نعيمة" الذي اشتُهرَ بـ "بناسك الشخروب" أو "الناسك" كما يُحبّذون أن يسمّونه هناك في موطنه لبنان.. وعلى الرغم من أنّ نعيمة أجرى هذا الحوار وهو في الثامنة والسبعين من عمره، إلّا أنّه كان لا يزال جمّ النشاط، متقد الذهن، عزيز الإنتاج، فهو علامةٌ من علامات لبنان البارزة.

 

نص الحوار:

 

*قلت لميخائيل نعيمة: قد لا يعرف بعض القراء إنك بدأت في مقتبل حياتك اتظم الشعر، وأصدرت ديوانا باسم "همس الجفون" ثم انقطعت عن نظم الشعر، فما حكايتك مع الشعر؟

تبدأ حكايتي مع الشعر بأول قصيدة نظمتها بالروسية في عام 1910 وكان عنوانها "النهر المتجمد" أوحاها إلى منظر نهر عرفته في الصيف فاذا هو يسير بارتياح بين الحقول والغابات.

وحينما جئت في الشتاء، وجدته وجها سطيحا يسير عليه الناس والعربات ولا تسمع له خريرا، وتحسب أنه زال من الوجود وتلك القصيدة عينها ترجمتها بعد سنوات إلى العربية في عام 1917، وضمها دیواني "همس الجفون".

والطريف في هذه القصيدة، أننى في آخرها أتوجه إلى روسيا التي عرفتها آنذاك، وأسألها متى تنفك من عقالها، كما سينفك ذلك النهر المتجمد، فيبصر العامل والفلاح أيام رغد وهناء. ثم أختتم القصيدة بقولي: "إنك لا تجيبين يا أمنا روسية .. تنامي إلى أن يأتيك يوم لابد منه" فكأنني تنبأت عن الثورة.. وأتفق بعد نصف قرن أن زرت روسيا السوفييتية، وأن عرف القوم مني عن وجود تلك القصيدة، فأخذوها ونشروها في عدة صحف، وعلقوا عليها كثيرا وبعد ذلك نظمت الشعر فترات متقطعة إبان وجودي في المهجر ثم انتقلت من العربية الى الإنجليزية، فنظمت فيها عدة قصائد، نشر بعضها في صحف بارزة كالنيويورك تايمز- وحينما عدت إلى الوطن، جمعت أشعاری العربية والإنجليزية، ونشرتها في مجموعة سميتها "همس الجفون".

 

*المعروف أنك سافرت إلى روسيا طالب علم قبل قيام ثورتها بعشر سنوات ولا شك أن هذه السفرة قد تركت في نفسك انطباعات هن المجتمع الروسي قبل الثورة؟

لقد كان في مستطاعي أيام دراستي في روسيا أن أحس الضغط الهائل الذي كان يتحمله الشعب، وأن أجزم جزما بأن تلك الحالة لن تدوم، أحسست روسيا في ذلك الوقت، كما لو كانت هرما هائلا يتحمل جميع أثقالها الذين هم في أسفل، أعني عامة الشعب ما بين فلاحين وعمال في المصانع والمناجم.. ولأنني كنت على اطلاع واسع بما يبثه الكتاب الروسي من أفكار ثورية، فقد بات في إمكاني أن أتأكد أن هذه الحالة لن تدوم، فلابد من انقلاب هائل، والذين يجهلون تاريخ روسيا، يجهلون أن محاولات عدة سبقت ثورة البلاشفة التي باتت اليوم معروفة بثورة أكتوبر.

 

*بصفتك أديبًا، هل يمكن أن توضح لنا بإيجاز دور الأدباء الروس في التمهيد، أو الإرهاص لهذه الثورة؟

أبتدئ بجوجول الذي اشتهر أول ما اشتهر بحكايات بسيطة أخذ يحكيها عن حالة الفلاحين حواليه، ثم بروايته الشهيرة التي اختتم بها حياته الأدبية، وهي "الأرواح الميتة". ففي هذه الرواية يمثل المؤلف أفظع التمثيل الحالة التي كانت سائدة في أيامه إذ كان يباع الفلاحون مع الأرض التي يعملون فيها، ولقد استطاع جوجول أن يصور جميع البشاعات النفسية التي تلازم نظاما كذلك النظام.. ثم أنتقل من جوجول إلى بوشكين الذي شحن شعره بالتفني بالحرية والذي انضم الى جمعيات ثورية سرية فكاد يكون ضحية ميوله الثورية ثم أذكر تكراسوف الشاعر الروسي الشعبي الذي وقف شعره على وصف المآسي والفواجع التي كان يعانيها الإنسان البسيط في روسيا.

ويأتی بعده كتاب كرسوا أدبهم لفكرة الثورة أمثال باكوبين وجيرتين: ناهيك بتولستوي، ودوستويفسكي، وما بعدهما جوركي، وهؤلاء بذروا الثورة في كل مؤلفاتهم.. ولأنني عشت في ذلك الجو، زمانا، فقد كان من السهل عليّ أن أرى حتمية الثورة، وإن لم يكن في مستطاعى أن أتنبأ عن زمانها وعن مداها، وعن الشكل الذي ستتخذه.

 

*لا شك أن هؤلاء الأدباء، كان لهم إلى جانب هذه القيم الثورية نظرات في الكون والحياة وأنت كأديب، بعد أن صقلتك التجربة، لك أيضًا نظرة تختص بك، فما هي نظرتك كمفكر من الشرق عاش حيث عاشوا هم؟

عند ما ابتدأت أفكر، وجدت نفسي أمام مشكلتين كبيرتين استعصى على فكري القاصر حلهما، وهما: مشكلة الشر، ومشكلة الموت.. والمشكلتان تفرضان فرضا وجود نقيضين لا يلتئمان، فالشر ونقيضه الخير في صراع أبدي، والموت ونقيضه الحياة في مراع لا ينتهي إلى غلبة أحد الطرفين. إلا أنني توصلت في النهاية إلى أن أرى الكون وحدة لا تتجزأ فهو متداخل بعضه فيه بعض إلى حد أنه يستحيل عليك أن تفصل أي جزء منه عن الآخر.

 

*هذه نظرة شمولية عن الكون؟

نعم، وهنا ابتدأت بذاتي فسألت نفسي: من أنا ؟ وعندما حاولت أن أجد لنفسي حدودا، وجدتني وكأني أحاول المستحيل إذ أنني متداخل في كل ما في الكون، مثلما كل ما في الكون متداخل فيه، ولأنني لا أعرف لهذا الكون بداية أو نهاية، فأنا لا أعرف لنفسى بداية أو نهاية.. وحيث تضيع البدايات والنهايات تضيع جميع المقاييس البشرية.

فلا قبل ولا بعد ، ولاهنا ، ولا هناك ، بل وجود بغير حدودـ عند هذه الفكرة الشمولية كما ذكرت - وجدت أن  لا مناص لي من التسليم ، بأن في الكون قوة تستمر إلى ما لا نهاية، وإنها غير محسومة وأن هي الخلفية لذاتها أشكالا محسوسة، فالمحسوسات جميعها تتبطن عن شيء غير محسوس، وذلك الشيء هو حقيقتها التي لا تتغير ولا تتبدل في حين أن أشكالها الحسية معرض  للتغير والتبدل، فلا ثبات لها، ولا وحقيقة لها في ذاتها.

منذئذ أيقنت أن الازدواجية التي نراها في حياتنا اليومية ليست سوى مرحلة تؤدي بنا إلى الأحادية التي لا ازدواج فيها، فهي فوق الخير والشر، وخارج نطاق الزمان والمكان، وما علينا إلا أن نعيها وعيا كاملاً إذا نحن شئنا أن نتخلص من ألاعيب الازدواجية ، وأوجاعها، وآلامها.

 

*أفهم من ذلك أنك تؤمن بالتناسخ.. فهل الازدواجية تؤدي إلى الأحادية؟

حسبي أن أعرف أنني غير قابل للاضمحلال، ليصبح في إمكاني أن أتقبل الازدواجية دون أن أعطيها من حياتي أكثر مما تستحق من الاهتمام، فما هي غير مرحلة في طريقي إلى الأحادية، أو إلى وعي نفسي وعيا كونيا لا فرديا.

 

*يبدو من كلامك هذا أن لك تفكيرا خاصا أعني شديد الخصوصية في طبيعة الإنسان وجوهره، فهل تزيدنا إيضاحًا؟

إنما الإنسان كما نعرفه ناسوت ولاهوت، اللاهوت هو الحقيقة الأزلية والناسوت ليس سوى الغلاف المحسوس بتلك الحقيقة، وهي لن تظهر في أبهى روعتها إلا إذا زال الغلاف عنها، وذلك يعني أن الإنسان يحقق الآلة في نفسه إلا إذ هو تخلص من الإنسان الذي يحجب عنه الآلة.

 

*وكيف يتم ذلك؟

الوعي الكامل الذي تكلمت عنه، أي وعىي الإنسان نفسه أنها منزها من التقلبات، لا يمكن أن يتم خلال عمر واحد، فالعمر الواحد مهما طال لا يتسع لاستيعاب أي علم من العلوم البشرية المعروفة اليوم.. فكيف بالعلم الأكبر، وهو العلم الذي يؤدي إلى معرفة الله في الإنسان ذلك العلم الذي لابد له ببساط أوسع بكثير وأطول بكثير من سنوات معدودات. وهل يمكن للإله، والأبديات في قبضة يده، أن يكون بخيلا إلى حد ألا يفسح للإنسان مجالا لمعرفته إلا بضع سنين، كما لو كانت معرفته قريبة التناول كمعرفة الهجاء والحساب مثلا!.

 

*إذن فلابد من التناسخ في رأيك، لكي يوجد وعي الإنسان المنزه؟

هناك أمور محيرة تفرض عقيدة "التناسخ".. منها فكرة العدل الرباني، إذ كيف لله، وهو عنوان العدالة أن يهب البعض الكثير الكثير، وأن يبخل على الآخر حتى بالقليل القليل، فالتفاوت في حدود الناس هو احتجاج صارخ ضد العدالة الربانية.

ثم هناك صلات الناس بعضهم ببعض.. فهذه تنبت وتتأصل، كما لو كانت مصادفات لا أكثر.. في حين أننا نعيش في عالم منظم أروع التنظيم - فلا مجال فيه لأي مصادفات، بل هو خاضع في كل شئونه لنظام صارم لا يتغير، ولا يتحور.. ولعل أبرز ما في هذا النظام، هو نظام الأسباب والنتائج.

وإذن فصلاتنا لا تنبت اعتباطا.. بل تخضع لذلك النظام، وكذلك جميع ما ينتابنا من خير وشر.. فنحن مسئولون عن كل ما يحدث لنا، وهذه المسئولية ترفع عن عاتق الإله الكامل مسئولية التفاوت وحظوظ الناس وترد إليه العدل الذي تتخيله ملازما له.

 

*في هذه الحالة لابد أن يتكون إنسانك من خلال أجيال عدة؟

في ضوء هذه النظرية يغدو من المعقول أن يولد الناس، ثم يموتوا كرة بعد كرة، إلى أن تتهيأ لهم معرفة النظام الذي يسير جميع الأكوان، فينصاعون له بملء ارادتهم، وهكذا يتخلصون من أوجاعهم، ومن فرديتهم ويتحدون بذاتهم الكبرى التي لا وجود إلا لها وفيها.

والإنسان كيان معقد جدا، لكنه يملك المفاتيح إلى كل عقدة في نفسه وهو منذ أن كان، ما برح يشتاق إلى المعرفة التي تمكنه من السيطرة على كل ما يسيطر عليه الآن، وهذا الشوق هو دليله على أنه يملك القدرة على تحقيق ما يشتاقه.. فما عليه إلا أن يسعى، وأن يجاهد، وأن يتطلع أبدا إلى الأبعد، عالما أن ما هو فيه الآن ليس سوى درجة في السلم الذي يؤدي به إلى المعرفة التي يشتاقها.

 

*هذه فلسفة تفاؤلية طويلة النفس، لكن الناس ليسوا فس مستوى واحد للتفتح النفسي والروحي، وهذا سيطيل الطريق إلى الخلاص؟

الخلاص لن يأتيهم دفعة واحدة، فهم كالغابة، فيها الشر الباسق والأدغال الملتصقة بالأرض، والطفيليات التي تعيش على غيرها من الأشجار، والمتسلقات. فالذين أدركوا الخلاص هم القلة وهم الحداة الذين تسير على هديهم القافلة البشرية. هؤلاء يضعون للناس الأهداف البعيدة عالمين أن الناس لن يتركوها بقفزة واحدة، بل لابد لهم من سير طويل ومضن ومن تعثر هنا وهناك ..

إلا أنني واثق من أن جميع الناس سيدركون الهدف يوما.. فليس في نظري من هم معدون إلى الهلاك الأبدى. إذ أن الشعلة الإلهية التي فيهم لا يمكن أن تخبو وأن تنطفئ مهما طال الزمان، فهي كالنار، كامنة في الخطية لابد أن يأتيها يوم تلتهم فيه الحطبة، وتبرز إلى الوجود بكامل بهائها.. وهنا يكمن سر تفاؤلي بالإنسان وبمستقبله.

 

*وعلى ذكر الإنسان، هناك شيء يتصل به وهو الوقت، قرأت أنك تقول أن الوقت عندي ليس من ذهب، بخلاف ما تعارفنا عليه، فكيف توضح ذلك؟

الوقت من ذهب في نظر الذين يعتبرون أن غاية الإنسان من وجوده هي جمع أكبر كمية ممكنة من الذهب.. أما عندي فقيمة التراب قد تعلو أحيانا على قيمة الذهب. ولا قيمة للأشياء في ذاتها، بل قيمتها في طريقة استعمالها. فالثروة المادية عبء وأي عبء علی أصحابها. والوقت الذي ينفقونه في جمعها وقت مهدور. أما الوقت الذي تنفقه في تخفيف متاعب الناس وأوجاعهم فوزنه فوق وزن الذهب بكثير. هذا يبقى، وذلك يزول، هذا جناح وذلك غل في العنق.

وأنه لمن المؤسف جدا أن ترى الناس قد جعلوا أثمان لكل شيء حتى للإنسان الذي لا يثمن بأي شيء، وأن أكسب إنسانا لخير عندي بكثير من أن أكسب ثروة، وأن أخسر ثروة لأهون عليّ بكثير من أن أخسر إنسانًا.

 

*المعروف أن الغالب على الغرب بصفة عامة الفلسفتان المادية والوجودية، فهل ينفرد الشرق بفلسفة خاصة.. أقصد فلسفة روحية طالما عرف بها؟

أسمع، أما أن يكون العالم الذي نعيش فيه عالما منظما، أو عالما فوضويا، فإن كان فوضويا، فلا قيمة لأي شيء نعمله أو تفكر فيه، وإن كان منظما فواجبنا إذا ذاك أن نهتدي إلى نظامه لنسايره فنسعد، ولا نخالفه فنشقى، وإذا ذاك فقيمة أي فلسفة تقاس في نظري بمقدار ما تهديني إلى ذلك النظام، وإلى الطريق الذي يجب على سلوكه، لأسعد بالنظام ومسايرته، بدلا من أن أشقی به وبمعاندته.

لقد درجنا على القول بأن الشرق روحي، والغرب مادي، وإذا كان لذلك من معنى، فمعناه أن الشرق يؤمن بأن جوهر الحياة روح لا مادة وأن الغرب يرى العكس.

والواقع هو أن روحانية الشرق باتت أكثر مادية من مادية الغرب.. إلا أن هذا التنكر من قبل الشرقيين بروحانيتهم، لا ينفى وجود الروح التي آمنوا بها من زمان.. وكل ما في الأمر أن هذه المدنية الغربية قد طفت عليهم في الوقت الحاضر، فكادت تسلخهم عن إيمانهم بحقيقة الوجود التي هي روح لا مادة، ولكنهم من بعد انجرافهم مع هذه المدنية الغربية هذا الانجراف سيعودون حتما إلى جذورهم الشرقية، سيعودون يفتشون في المادة عن الروح إلا أن ذلك أن يأتي إلا من بعد أن يشبعوا من المدنية الغربية حتى التخمة وعندي أن هذا العالم الذي يتخبط اليوم في خضم من المشكلات وفي دياجير من الظلمات أن ينتشله مما هو فيه إلا صوت من الشرق، أما متى يكون ذلك، فعلمه عند الله.

 

*انتقل إليك أنت شخصيا، فأقول: لقد حعلت من نفسك ناقدًا في فترة من حياتك فكتبت سلسلة من المقالات جمعتها في كتابك "الغربال" فلم اتجهت للنقد؟

بدأت حياتي الأدبية ناقدا، لأنه كان يضايقني جدا أن أرى الجمود يسيطر على الأدب العربي - في بداية القرن - حتى لا تكاد تكون صلة بينه وبين الحياة التي يحياها الناس والأدباء انفسهم. فكأنما الأدب صناعة لا أكثر، وغير مطلوب منه أن يدخل قلب القارئ ونفسه ليفتح آفاقا جديدة وقوى جديدة يطل منها على الحياة.

لقد كان الأدب في الغالب أدب صناعة وأدب ألفاظ وأدب تعلق. ولأنني أقدس الكلمة، وأعتبرها أكثر من صناعة، ثرت على الذين جعلوا منه اداة للتسلية والتفكهة لا أكثر.

لقد كان عليّ أن أشق طريقي وسط أدغال كثيفة من الدجل والتزوير وألتصف بجمال الكلمة وجلالها، فكان من ذلك مجموعة مقالات نشرت بالقاهرة، ضمها "الغربال". وقد أدى "الغربال" رسالته، فساعد في توجيه الأدب العربي توجيها، وخلق صلة بين الأدب والحياة.

 

*ولكن لماذا انصرفت عن النقد بعد ذلك؟

بعد أن شعرت بأن النهضة الأدبية سائرة في طريقها الجديد، وأن لا خوف عليها من الانتكاس، والعودة إلى زمان الانحطاط، طلقت النقد، واتجهت بكل تفكيري إلى الإنسان ومعنى وجوده والطريق الذي يجمل به سلوكه لتحقيق وجوده . وذلك يعني أني انتقلت من النقد في معناه المحصور إلى النقد في معناه الأوسع.

ومن ثم فصدرى اليوم لا يضيق - كما كان في السابق - بأشياء كثيرة قد تزعجني إلى حين ، ولكنني أعتبرها بعضا من النظام الكوني ، فلا أعترض عليها ، وكثيرا ما أنظر حولي، فأرى أن الأرض لا يضيق صدرها بالوردة والعوسجة تنبتان جنبا إلى جنب، ولا يضيق صدر الهواء بالنسر والخفاش ولا صدر البحر بالجدول الصافي وبالنهر العكر، وهذه الرحابة في نظرتي إلى الكون جعلتني أقلع من النقد، تاركا أمره لغربال الزمان الذي لا يبقى فيه على المدى الطويل، إلا ما هو صالح للبقاء وإلا ما هو يدفع بالقافلة البشرية دائما إلى الأمام ، ولو بدا لنا سيرها بطيئا جدا.

 

*إذا كنت قد تركت النقد، بعد أن جعلت من نفسك معلما وموجها، فما هو دورك الذي لعبته بعد ذلك؟

أنني أسعى بتوجيه نفسي في معارك الحياة، بدلا من أن أسعى إلى توجيه الأدباء في معارك الأدب، وعلى قدر ما أوجه نفسي أحاول أن أوجه غيري، غير آبه بما أحققه من نجاح، أو بما ينالني من فشل، فما إلا أن أعمل بوحي نفسي لوحي نفوس كثيرة تتصل بنفسي، دون أن أراها ودون أن أعرف ما هي وأين هي!.

 

*لكنك لم ترسم لي صورة الناقد الحق، خاصة، وأن في عالمنا العربي تدور اليوم رحى معارك نقدية؟

تريدني أن أحصر كلامي في النقد، والنقد مهمة شاقة إلا على الذين وهبتهم الطبيعة حسا مرهفا بالجمال، إن في الشكل، وإن في اللون، وإن في الايقاع. والكلمة وحدها التي هي أداة الأدب الأولى تستطيع أن تجمع بين جميع الفنون من هندسة، وتصوير، وموسيقى، وحركة، وما إلى ذلك .

فالناقد الذي لا يحس بجميع هذه الجوانب العميقة في الكلمة لا يستطيع أن يكون ناقدا، والنقد لا قيمة له إلا إذا كان خلقا.

 فلا يكفي أن نبين معایب المنقود ومحاسنه، بل لابد للناقد أن يرسم للأدب نهجا يسير عليه.. ولكي يكون له ذلك، لابد له من ثقافة واسعة جدا، ومن ذوق مرهف، وخيال وثاب، وفكر نفاذ، ومقدرة خارقة على التعليل. وهذه الصفات يندر أن تجتمع في عدد كبير من الناس، لذلك قل عدد الناقدين الذين هم بحق خلاقون فلا عجب إذ ذاك أن تمر بنا فترات من الزمن يكثر فيها المتطفلون على النقد ويقل النقادون الأصيلون. إلا أن الزمان لا يتوقف.

ففترة من القحط لابد أن تعقبها فترة من الخصب.. لذلك لا أرى أي مبرد لشكوانا من قلة الناقدين.. فلعل المعارك النقدية تتمخض عن ناقد يغزو اسمه جميع الأقطار العربية، ويغدو نبراسا يستضيء بنوره عدد كبير من الأدباء.

 

*أرجو أن تبين بصراحة، رأيك في انتاج الأدباء العرب الذين زاد احتكاكهم بالغرب، وهل تقرأ لهم؟

كان من احتكاكنا بالغرب منذ مطلع القرن الحاضر، وحتى أيامنا هذه أن تلقح الأدب العربي بأنماط لا عهد له بها من قبل، كالقصة، والرواية والمسرحية والقصيدة الطويلة؛ النفس التي تدعوها ملحمة، وكان علينا في هذه الفترة القصيرة من الزمن أن نطور هذه الأنماط الجديدة لتبلغ بها مستوى بلغته في الغرب بعد سنين طويلة من التجربة والاختبار.. فعملنا إذ ذاك كان عملا شاقا، وعلينا أن تغتبط بالنتيجة التي بلغناها في هذه المدة القصيرة.. إذ بات لنا من يحسن كتابة الأقصوصة والرواية والمسرحية والملحمة.. وبات بعض نتاجنا حريا بأن يترجم إلى لغات أجنبية، وأن ينال شيئا من التقدير.

 

*وما رأيك في الشعر الحديث؟!

الشعر الحديث، جاءنا وكأنه طفرة تحاول أن تطمس معالمنا الشعرية القديمة، إلا أنها  رغم تطرقها - طفرة مباركة - فهي دليل الحيوية فينا، لأنها تفتش عن شيء جديد، والتجديد من سنة الحياة.. هذا مع العلم أن الكثير في شرقنا العربي يمتعض من هذه الثورة، ويخشى على تراثنا القديم، وذلك خوف في غير محله فالجميل من القديم سيبقى جميلا، والقبيح من الجديد سيبقي قبيحا.

 

*أرى أنك تؤمن بالتجديد في الشعر، فهل يمتد إيمانك هذا إلى سائر الفنون الجميلة، ولا سيما التشكيلي منها؟

في اعتقادي أن المدرسة التي تدعوها الكلاسيكية في الفن التشكيلي لا تزال في القمة، كما نرى تماثيل فيدياس الإغريقي، وفي عصر النهضة  نجد رفاييل، وميكلانجلو، ودافنشي، ورمبرانت، وروبتز، وفيلاسكويز هؤلاء يمثلون القمة في الفن والنزعات التي ظهرت فيما بعد لیست سوی نظرات تعيش على هامش هؤلاء العباقرة.

 

*وماذا تقول عن التجديد في الفن؟

إذا استثنيت من ممثلي هذا الفن رجلا مثل بيكاسو تجد أكثر الدين يمارسونه مقلدين، أكثر منهم خلاقين ولا شك أن بيكاسو فنان أصيل، لو شاء أن يرسم أو ينحت كما فعل الكلاسيكيون لما قصر عنهم في شيء. ولكنه رجل فتقت له الفكرة بأن يمثل المحسوسات، لا كما تراها العين المجردة، بل كما تراها العين الباطنية. وله في ذلك ما يبرره. فهو فنان أصيل لكن مقلديه أمعنوا في التجربة حتى بات الفن عندهم شكلا من تشويه المحسوسات تحت ستار أن هذا التشويه يؤدي المعنى الباطني من خلال الشكل الخارجي.

 

*هل هذه نظرتك الخاصة للتجريد ؟

أنا أوثر للفن أن يمثل لي الأشياء كما أتناولها بحواسي إلا أن يعطل الأشياء، ويعطل معها حواسي فحسبي من حواسي ما أعانيه منها. ولكنني أريد من الفن ألا يكتفي بتمثيل الأشياء كما هي، بل يدلني من ورائها على حقيقتها غير المحسوسة وعليه إذا هو لم يستطع أن يجمل القبيح ألا يقبح الجميل! . وليترك لي قضية تجريده من ظواهره، والغوص إلى باطنه.

أنني أصر على القول بأن الطبيعة هي الفنان الأكبر. وأن علينا عندما نتمثل بها، أو نمثلها في لوحاتنا، أن تنفذ من أكسيتها الخارجية إلى معانيها الباطنية. فتحن إذا شوهنا جمال الأشياء، شوهنا جمال روحها كذلك ومن حولنا قباحات كثيرة، فلا يجمل بنا أن نشوه ما يبدو لنا جميلا، منتهى الجمال. ولا هم لي ماذا يسمون ذلك التشويه، أو كيف يفلسفونه فان فلسفة البشاعة ليست سوى بشاعة.

 

*سؤال عن جبران وهو "رفيق أحلامك" وصديق أفكارك، وشقيق روحك كما وصفته في كتابك عنه . كيف يتفق هذا مع الهجوم الذي شن عليك، بدعوى أنك صورته في مراحلك الثلاث "سبعون" بأنه عاش حياته مترنحا بين طلبات اللحم والعظم والدم..  في حين صورت نفسك قديسا؟

جبران كما كتبت، ولا تعليق لي على ما كتبت

 

*سؤال شخصي: ما رأيك في الحب بعد الذي سمعته منك عن الإزدواجية والأحادية؟

الحب.. ولا أعني به حب الرجل للمرأة فقط.. هو المفتاح لكل أسرار الوجود، فبالحب تتماسك جميع الكائنات، وبه تحيا، وبدونه لا معنى لوجودها، ونحن متى عرفنا ذلك الحب، عرفنا الله وتعرينا أمامه ولي فصل في كتاب "مرداد" من الحب أبدؤه هكذا: "وأنكم تحيون لتعرفوا المحبة، وأنكم تحيون لتعرفوا الحياة، فبغير المحبة لن نفهم الحياة، وبغير الحياة لن نفهم المحبة.. فكأنهما واحد".

 

*في هذا الكتاب نفسه "مرداد" - تقول إن الزواج مقبرة الحب، فهل الزواج عندك معناه ازدواجية أيضا؟

الحب قوة أبدية، وباقية ما بقى الزمان.. أما اللحم والعظم فللفناء لذلك، إذا أضاع الحب نفسه فيما تثيره شهوات اللحم والدم، فقد تخلى عن قوته، وأصبح عرضة للانحلال، بانحلال اللحم والعظم.

 

*ألا يعني هذا أنك لا تؤمن بالزواج؟

هذا لا يعني أن في استطاعة البشر، كما هم اليوم، أن يحيوا حياة حب صاف. ويعنى أنهم ماداموا يخضعون حبهم لسلطان اللحم والدم، دامت الحسرات والأوجاع تترصدهم عند كل عطفة من الطريق. فعليهم أن يختاروا بين الحب الصافي، الذي هو غبطة صافية، والحب الممزوج بشهوات اللحم والدم: الذي يحمل معه الكثير من الأوجاع والآلام، والمرارة، وخيبة الأمل!.