الأحد 28 ابريل 2024

التنافس محطة رأسمالية


د. ندى محمد كمال

مقالات9-3-2024 | 23:31

د. ندى محمد كمال

يطرح علينا الأستاذ الدكتور/ بهاء درويش أستاذ الفلسفة ونائب رئيس اللجنة الدولية لأخلاقيات البيولوجيا باليونسكو سؤالاً فلسفياً يدعونا إلى التأمل وإعادة النظر في حدود ممارسات الرأسمالية بمجتمعاتنا المعاصرة في مقال نشره الأسبوع الماضي جاء تحت عنوان "لمن نصفق ولمن يجب أن نصفق؟"
   يقود هذا السؤال إلى البحث في تداعيات السياسة الرأسمالية على أنشطة الحياة المختلفة، وقد تركز اتجاه السؤال هذه المرة حول الأثر الرأسمالي على مفهوم التنافس الرياضي بوصفه أحد المقومات الحيوية والدافعة لأسمى القيم الإنسانية مثل التعاون، العدالة، روح الانتماء، قبول الآخر، وحكمة اتخاذ القرار. طرحت تلك المحطة المعاصرة التي تتلاقى فيها سياسة اقتصادية مع الجهد البشري خارج نطاق التصنيع نموذجاً متطوراً لمفهوم التنافس رايته النفوذ المالي.
   خلال الآونة الأخيرة تعطي فلسفة التنافس الرياضي مؤشرات صريحة بتعمق سلطة المال داخل عمل المؤسسات الرياضية بشكل كلي، الأمر الذي أثر في روح المنافسة الشريفة والمستندة على مجموع القيم الأخلاقية الثابتة لمبدأ الاستحقاق بالفوز وكذلك قواعد التفكير والعمل الجماعي.
    والذي أتصوره هنا أن مجتمعاتنا اليوم أمام شكل جديد من سياسة الخصخصة التي تبنتها السياسة النيوليبرالية- الرأسمالية  سابقاً خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي بقيادة التاتشرية، حيث هدفت النيوليبرالية إلى تفكيك الاندماجات ومفهوم السلطة الواحدة للأسواق لتؤسس بذلك السوق الحرة: تلك الاستراتيجية التي تهدف إلى منح المؤسسات مساحة أكبر لحرية التعاملات بعيداً عن مراقبة الدولة المستمرة وبشكل كامل على جميع القطاعات ... الأمر ذاته يتكرر مع سياسة السوق الرياضي حيث الخصخصة الرياضية وخلق شكل جديد من التنافس أساسه النقود والتحرر النسبي من حوكمة قوانين اللعبة ومبدأ التكافؤ العادل لفرص الاستحقاق بالفوز.
   فأصبحت المنافسات الرياضية عامة والمنافسة في لعبة كرة القدم خاصة وفقاً لطرح مُفكِرُنا خاضعة وبقوة لسلطة الرأسمالية وذلك حين تحول أفراد اللعبة إلى سلع خاضعة لسلطة العرض والطلب، هذا النمط المادي والنفعي من التنافس الرياضي هو امتداد للأجندة النيوليبرالية، فكما كان الهدف الُمعلن لسياسة النيوليبرالية تخطي التضخم بواسطة تحرير الأسواق ... فإن الرأسمالية اليوم تقدم منافسة نقدية/ مالية متحررة داخل القطاع الرياضي حتى تحولت المنافسة الرياضية إلى حالة اقتصادية تتأثر بالموجات والتطورات العالمية للاقتصاد.
   نلحظ امتداد أثر تلك الأجندة الرأسمالية أيضاً على مسألة التأسيس لسوق التعاقدات الرياضية، هذا السوق المرتكز على مهارات الربح النقدي كوسيط لحركة المعاملات الرياضية بين المنظومات المختلفة والفرق المتنوعة بدلاً من نزاهة اللعبة والمهارات الفنية والبُعد الجمالي لقيمة المنافسة الرياضية الشريفة، هنا نجد أن هذا السوق الرأسمالي الجديد يحقق سياسة تعميم الربح بالحصول على أفضل اللاعبين بأغلى ثمن، كما يهدف إلى تعميم التصفيق للمال وليس للمهارة والإبداع، وبالتالي فقد جعل قدرة المنافسة النزيهة محدودة ومقيدة لعدم اتزان التوزيع العادل للإمكانات المادية والفنية بكافة المؤسسات الرياضية، الأمر الذي أدى إلى حدوث خلل بمبدأ الاستحقاق بالفوز وذلك بفضل الحماية الرأسمالية.
   في هذا الإطار تتشابك فلسفة الحق الرأسمالية مع الأساس الأخلاقي والحقوقي الذي طرحه إيمانويل كانط خلال القرن الثامن والتاسع عشر حين أكد على أن المصدر الرئيس للحق هو النشاط البشري كغاية وليس كوسيلة، الأمر الذي يعزز المسؤولية الأخلاقية والعدالة، وبالتالي تصبح الإرادة الفردية الخاضعة للقانون باستمرار هي الإرادة المشروعة ... فخضوع الذات للقانون هو خضوعها لنفسها، لكن مشروع فلسفة الحق الكانطي قد يكون مشروعاً خيالياً مقابل السياسة النيوليبرالية التي ترى أن فكرة الحق مسألة معقدة ومتغيرة.
   إن النشاط البشري كغاية وليس بوصفه وسيلة لم يعد هدفاً داخل الإطار المعاصر لرأسمالية المنافسة الرياضية خاصة بعد أن اغتربت الذات المتنافسة عن ماهيتها ومنحت سلطة المال مساحات أكبر لتشكيل هويتها، اليوم أصبح النشاط البشري هو الوسيلة لغاية أوسع حيث تحقق الربح المادي "المالي" الأمر الذي دعاني إلى القول بأننا نعيش في وهم التنافس.
  حقيقة إن عمق مضمون (لمن يجب أن نصفق؟) لا يلمس فقط فكرة التنافس الرياضي وإنما مفهوم المنافسة إجمالاً وصلتها بالرأسمالية سواء كانت المنافسة في التقدم – المنافسة في الحماية الاجتماعية والأخلاقية – المنافسة الفنية والثقافية – المنافسة المهنية، وغيرهم....
    لذلك يجب علينا سؤال أنفسنا:
هل نمتلك معايير قيمية واضحة لمفهوم المنافسة في حياتنا اليومية، هل توجد ثوابت لفكرة المنافسة؟ إلى أي مدى توجه مبادئنا الأخلاقية ممارستنا التنافسية؟ هل ما زالت تتسم شروط المنافسة الحقة بمبدأ العدالة؟
 "قد تكون مسألة التنافس الرياضي مثالاً واضحاً لواقع يحتاج إلى إعادة الهيكلة القيمية وإعادة نظرنا لمن يجب أن نصفق".

*د. ندى محمد كمال 
مدرس الفلسفة السياسية بكلية الآداب – جامعة قناة السويس

Dr.Randa
Dr.Radwa