السبت 27 ابريل 2024

الدبلوماسية العدائية


محمد الحمامصي

مقالات11-3-2024 | 22:47

محمد الحمامصي

دبلوماسيات الرهائن والذئب المحارب والسرية أبرزها: فواعل وأنماط دبلوماسية جديدة تحكمها المصالح الاقتصادية والسياسية

تحظى الدبلوماسية بأهمية بالغة في العلاقات الدولية؛ حيث تعتبر أداة أساسية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول، وعلى الرغم من أن الطرق التقليدية للدبلوماسية القائمة على التفاعلات الرسمية بين ممثلي الدول والحكومات تظل ذات أهمية كبيرة، فإن تعقد المصالح الاقتصادية والسياسية والثورة التكنولوجية الحالية، أدى إلى بروز فواعل جدد وأنماط ومداخل دبلوماسية لا يمكن تجاهل دورها الكبير في العمل الدبلوماسي، من الفواعل: المنظمات غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الحكومية الدولية، ومراكز الفكر والدراسات وجماعات الضغط وشركات العلاقات العامة ووسائل الإعلام الكبرى، ومن أنماط ومداخل الدبلوماسية الدبلوماسيات: القسرية، الذئب المحارب، الرهائن، السرية، اللقاحات، الروحية، الطاقة، الرقمية، الرياضية، المدن، المشاهير.

 

وهذه الدراسة "الدبلوماسية العدائية" للبااحث أحمد عبد القادر أحمد، والصادرة عن إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية بأبوظبي، ترصد وتتبع دور هذه الفواعل في البيئة الدبلوماسية الدولية، وتلقي الضوء على القضايا والأشكال المختلفة التي تشكل محورا لتفاعل هؤلاء الفاعلين، وإبراز الفرص والتحديات التي باتت تفرضها التحولات الجديدة في البيئة الدبلوماسية الدولية، لا سيما وأن الدول لم يعد لديها رفاهية تجنب الاشتباك مع التطورات الجديدة وما تفرضه من مخاطر وتحديات. حيث أن تعدد الفاعلين الدوليين وقدراتهم التأثيرية والتراجع الملحوظ في هيمنة الدولة على العلاقات الدولية، أدى إلى تراجع النظريات التقليدية في الدبلوماسية لصالح النظريات الحديثة التي تركز بشكل أساسي على تعدد الفاعلين المنخرطين فيما يسمى ب "البيئة الدبلوماسية" التي باتت أكثر تعقدا وتداخلا؛ حيث لم تعد الدبلوماسية تقتصر على وزارة الخارجية ودبلوماسييها، بل بات لهذه الفواعل أدوار كبرى في دبلوماسية.

يتوقف الباحث عند تعدد الفاعلين في البيئة الدبلوماسية انطلاقا من: أولا المنظمات غير الحكومية؛ لافتا إلى أن عددها في العالم قد ازداد بشكل ملحوظ؛ حيث ارتفع من 997 منظمة عام 1954 إلى ما يقارب 20925 منظمة عام 2005، بينما تشير التقديرات إلى أن العدد ربما وصل إلى 66425 منظمة في عام 2020. ثانيا الشركات دولية النشاط وتعتبر أحد الفواعل البارزين في البيئة الدبلوماسية الدولية المعاصرة. وهي مؤسسات تجارية تمارس نشاطاتها، وتمتلك أصول في دولة واحدة على الأقل غير موطنها الأصلي، وعددها أكثر من 53 ألف شركة، لديها أكثر من 450 ألف من الشركات الأجنبية التاربعة لها، بأصول عالمية تزيد عن 13 تريليون دولار أمريكي، ومبيعات تزيد عن 9.5 تريليون دولار. ثالثا المنظمات الحكومية الدولية، وقد نمت بشكل كبير في المائة عام الماضية، ففي عام 1909 كان هناك 37 منظمة حكومية دولية، وبحلول عام 1962 ارتفع هذا العدد إلى 136 منظمة، وفي عام 2006 بلغت تلك المنظمات حوالي 1963 منظمة، وارتفع هذا العدد إلى حوالي 7846 منظمة خلال عام 2021. رابعا شركات العلاقات العامة وجماعات الضغط، والتي تصاعدت في السنوات الأخيرة أهميتها في العلاقات الدولية، وتوجيه السياسات، الأمر الذي دفع الكثير من الدول لتوظيف تلك الشركات لتحقيق مصالحها. خامسا وسائل الإعلام والصحف العالمية الكبرى؛ تلعب وسائل الإعلام الكبرى مثل (سي إن إن، إيه بي سي نيوز، إن بي سي، بلومبيرج، فوكس نيوز، بي بي سي، دويتشه فيله، روسيا اليوم)، والصحف العالمية ذائعة الصيت مثل (واشنطن بوست، وول ستريت جورنال، التايمز، الفايننشال تايمز، الجارديان) وغيرها، دورا محوريا في السياسة العالمية اليوم، بما تملكه من قدرة هائلة على دفع السياسات وترويج السرديات وممارسة الضغط والتأثير على الدول والحكومات والشعوب، كما تقوم تلك المؤسسات الكبرى أحيانا بنشر تسريبات وتقارير استخباراتية معينة بهدف ممارسة الضغط والتأثير، مثلما حدث في ترويج بعض تلك المؤسسات تقارير استخباراتية حول "غزو" روسي وشيك لأوكرانيا، قبل إندلاع الحرب في فبراير 2022 مما ساهم في تأجيج الأزمة الأوكرانية وتعقيدها بشكل أكبر. سادسا مراكز الفكر والدراسات المؤثرة، والتي تقوم بدور كبير في التأثير على صناعة القرار، ويستعان بها في تحسين العالقات الدبلوماسية بين الدول، أو إبراز مكاسب تلك العلاقات بشكل علمي صارم.

 

ويرصد ويتتبع الباحث مختلف الأنماط والمداخل الدبلوماسية الفاعلة على الساحة الدولية الآن ومن بينها دبلوماسية المشاهير، حيث يوضح أن المشاهير مثل كبار الفنانين والمطربين والشعراء البارزين ارتبطوا بعلاقة طويلة بعالم الدبلوماسية، بيد أن العولمة وتطور وتشابك القضايا الدولية والتراجع المستمر في حدود التمايز بين الدول بالإضافة إلى الزيادة الكبيرة في أعداد المشاهير وتطور وسائل الاتصالات والإعلام، كلها عوامل أدت إلى تغير طبيعة وأدوار المشاهير؛ حيث أصبحوا لاعبين أساسيين على الصعيد الدولي، وفي هذا الإطار برز إلى الواجهة في السنوات الماضية شخصيات مشهورة عالميا مثل نجم موسيقى الروك الأيرلندي؛ بول ديفيد هيوسون كأحد أبطال مكافحة الفقر في أفريقيا؛ حيث يدعو إلى تقديم الدعم وتوفير التعليم وإسقاط الديون عن القارة الأفريقية. وقد تزايد نفوذه حتى أنه حضر عدة قمم لمجموعة الثماني الكبرى. وحاليا لا يمكن تجاهل أدوار مشاهير، مثل: أنجلينا جولي، وجورج كلوني، وريتشارد جير، وبراد بيت؛ هؤلاء لذين يدعمون قضايا حل الصراعات والحكومة وتوسيع برامج التنمية، والحد من الفقر العالمي بالإضافة إلى إلغاء الديون ومكافحة الأمراض والأوبئة المعدية، وجذب الانتباه تجاه القضايا الدولية.

 

ومن بين الأنماط والمداخل الدبلوماسية ما يطلق عليه دبلوماسية ”الذئب المحارب والتي تبنتها الصين وروسيا، وهي وفقا للباحث "ذات الطابع الهجومي"، يقول "أظهر الدبلوماسيون الصينيون لغة حادة ضد أمريكا وأستراليا والعديد من الدول الأخرى، واعتبر البعض أن هذا الأسلوب يعزز انتقال الدبلوماسية الصينية من المواقف المحافظة والسلبية فيما يعرف ب "دبلوماسية الظل"، وهي الدبلوماسية التي تبناها الزعيم الصيني الراحل "دنج شياوبينج". وقد ظهر ذلك بشكل واضح في طريقة تعامل المسؤولين والدبلوماسيين الصينين مع الانتقادات التي وجهت لبلادهم فيما يتعلق بطرق تعاملها مع وباء كورونا، الذي ظهر لأول مرة في مدينة ووهان الصينية، في ديسمبر من عام 2019. ويبدو أن تبني بعض الدبلوماسيين الصينين لهذا النوع من الدبلوماسية، والتي توصف في أحيان كثيرة بـ "العدوانية"، يعود إلى أن الصينيين أصبحوا أكثر ثقة في أنفسهم وأكثر حزما في سياساتهم الخارجية؛ حيث تعتبر دبلوماسية الذئب المحارب امتدادا طبيعيا للقومية الصينية المتصاعدة".

 

ومن الذئب المحارب إلى دبلوماسية الرهائن التي تلجأ إليها الكثير من الدول في مقدمتها أيضا إيران والصين، ويوضح الباحث أنه "في خضم جولات مفاوضات فيينا الأخيرة حول البرنامج النووي الإيراني، برز إلى الواجهة مرة أخرى مفاوضات موازية بين أمريكا وإيران حول تبادل السجناء؛ حيث يمكن أن يؤدي أي حلحلة في ملف السجناء إلى رفع بعض العقوبات عن طهران. وفي هذا الإطار، أشارت بعض التقارير إلى أن البلدين توصلا إلى اتفاق لتبادل السجناء في مايو 2021 مقابل إفراج أمريكا عن سبع مليارات من أموال النفط الإيرانية المجمدة في دول أخرى بموجب العقوبات على طهران، ويطلق على هذا النوع من الدبلوماسية مسمى "دبلوماسية الرهائن " وعادة ما يتم اتهام بعض الدول مثل الصين وإيران باستخدام هذا النوع من الدبلوماسية مع الغرب، بهدف فتح الباب للمساومة مع الحكومات الغربية، ففي 18 أكتوبر 2020، أفادت صحيفة وول ستريت جورنال بأن الصين حذرت أمريكا عبر سفارتها في بكين، من أنها سترد على محاكمة العديد من العلماء الصينيين في الولايات المتحدة، ربما من خلال احتجاز مواطنين أمريكيين في الصين. ويذكر أن الصين قامت في عام 2018 باحتجاز مواطنين كنديين منهم الدبلوماسي السابق مايكل كوفريج ورجل الأعمال مايكل سبافور، وذلك بعد أيام فقط من اعتقال كندا للمدير المالي لشركة هواوي الصينية امتثالا لطلب تسليم أمريكي، كما قامت إيران باحتجاز العديد من المواطنين الأمريكيين والغربيين في إيران بتهم تجسس، وغالبا ما يتم الإفراج عن هؤلاء المعتقلين بموجب صفقات مع الدول الغربية.

 

ويضيف "بالرغم من اعتبار البعض "دبلوماسية الرهائن" أو الاعتقال التعسفي لألشخاص أمرا غير مقبول وقد يهدد بتوتير العلاقات بين الدول، فإنه يلاحظ استخدامها بشكل متكرر بين الدول ذات العلاقة السيئة والمتوترة بالفعل؛ بهدف كسب أوراق نفوذ وضغط على الطرف الآخر. ولا تعد دبلوماسية الرهائن أمرا حديثا في العلاقات الدولية فقد سبق وأن احتجزت إيران 52 دبلوماسيا أمريكيا عام 1979 لمدة 444 يوما، بيد أن الجديد أن هذا النوع من الدبلوماسية أصبح شبه معتاد في السياسة الخارجية بالرغم من الإدانات والانتقادات التي توجه إليه.

 

وامتدادا لكل من "دبلوماسية الرهائن و الذئب المحارب" تأتي "الدبلوماسية السرية" والتي يطلق عليها أحيانا "دبلوماسية القنوات الخلفية" ومن خلالها اعتمدت إدارة الرئيس ”أوباما“ بشكل كبير على هذا النمط من الدبلوماسية في التوصل التفاقية بشأن التغير المناخي مع بكين، وفي التمهيد للاتفاق النووي مع إيران عام 2015 وكذلك في تطبيع العلاقات مع كوبا في عام 2015؛ حيث استمرت المفاوضات السرية بين الطرفين لمدة 18 شهرا لتنهي نصف قرن من العداء والتوتر في العلاقات بين الطرفين. وكذلك تتبنى إدارة الرئيس الأمريكي الحالي؛ جو بايدن، نمط ”الدبلوماسية السرية“ لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما دفع عدد من الأعضاء الجمهوريين في الكونجرس لإرسال رسالة إلى الإدارة الأمريكية، يوم 27 أبريل 2022 من أجل تعليق المحادثات السرية مع إيران، وإطلاع الكونجرس والشعب الأمريكي - بشكل علني - على القضايا المطروحة في تلك المحادثات، والتنازلات التي قدمتها الإدارة األمريكية، وجهود الإدارة في منع إيران من الوصول للسلاح النووي، معتبرين أن تقديم إحاطات سرية فقط إلى الكونجرس لم يعد مقبولا. وقد كشفت صحيفة ”بوليتيكو“ من أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق؛ باراك أوباما، قدمت تنازلات سرية مختلفة للإيرانيين سعيا للحصول على موافقة طهران على الصفقة النووية لعام 2015 وقد تضمن ذلك إطلاق سراح 7 إيرانيين كانوا متهمين بتهديد الأمن القومي الأمريكي؛ حيث قامت الإدارة بالتقليل من خطورة الأشخاص الذين تم الإفراج عنهم، بالإضافة إلى إسقاط الدعاوى القضائية ومذكرات التوقيف الدولية بحق 14 آخرين، وغيرها من التنازلات غير المعلنة.

 

ويرى الباحث أن أهمية "الدبلوماسية السرية" في المفاوضات مع الجماعات الإرهابية لا سيما في أوقات الأزمات مثل حالات اختطاف الطائرات واحتجاز رهائن؛ حيث يمكن أن تساعد "السرية" في تسهيل عمليات دفع الفدية والتعامل مع المجموعات الإرهابية التي لا ترغب الجهات الحكومية في الظهور بأنها متورطة في التعامل معها. من ناحية أخرى، فإن المفاوضات "العلنية" في هكذا حالات قد لا يمكن الدفاع عنها أخلاقيا، وقد يفهم بأنها مكافأة للجماعات الإرهابية، الأمر الذي يشجع مجموعات أخرى على تبني تكتيكات مماثلة. وفي هذا الإطار تشير بعض التقديرات بأن تنظيم ”داعش“ حصل على عشرات الملايين من الدولارات من الدول الأوروبية والتي شكلت ما بين 3 ـ 5% من دخل التنظيم خلال الفترة ما بين عامي 2013 – 2014.

 

وتعد الدبلوماسية القسرية أحد أخطر الدبلوماسيات، حيث وفقا للباحث تعني "التلويح باستخدام القوة لدعم المفاوضات الدبلوماسية، ويشمل ذلك التهديدات العسكرية وإمكانية فرض العقوبات الاقتصادية، والهجمات السيبرانية، وشن حملات إعلامية، ودعم المعارضة الداخلية، وذلك بهدف دفع الدولة المستهدفة إلى تغيير سلوكها. ويقول الباحث أن الدبلوماسية القسرية شاع استخدامها بشكل واسع في السنوات الأخيرة؛ حيث عادة ما تتهم الدول الغربية الحزب الشيوعي الصيني باستخدام مجموعة واسعة من تكتيكات الدبلوماسية القسرية ضد الحكومات والشركات سواء بشكل فردي أو جماعي، ويشمل ذلك تدابير اقتصادية مثل (القيود التجارية والقيود على الاستثمار وحظر السياحة والمقاطعة الشعبية، وممارسة ضغوط على شركات معينة). كما تشمل التدابير غير الاقتصادية (القيود على السفر، والاحتجاز التعسفي، والإعدامات بالإضافة إلى التهديدات التي تصدرها الدولة بشكل مباشر) وبحسب بعض الدراسات فإن هناك تزايد مطرد في استخدام تلك التكتيكات من جانب الصين في السنوات الأخيرة.

ويلفت إلى اتهامات متبادلة بين الصين وأمريكا تظهر الأهمية الكبيرة التي باتت تحظى بها "الدبلوماسية القسرية" في العلاقات الدولية، وهو ما تجلى بشكل واضح عقب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا؛ فبالرغم من الاتهامات السابقة لروسيا بممارسة "الدبلوماسية القسري" تجاه أوكرانيا عن طريق حشد عشرات الآلاف من القوات والمعدات بالقرب من حدود الأخيرة، إلا أن فرض أمريكا وحلفائها عقوبات غير مسبوقة على موسكو عقب الحرب دفع البعض لاتهام واشنطن بممارسة "الدبلوماسية القسرية"، لا سيما مع سعيها لحشد المجتمع الدولي ضد موسكو، والضغط على العديد من الدول لاتخاذ مواقف قوية ضد روسيا.

Dr.Randa
Dr.Radwa