الأربعاء 1 مايو 2024

الروائي محمد صالح البحر وظمأ الكتابة في رمضان| خاص

الروائي محمد صالح البحر وظمأ الكتابة في رمضان (خاص)

ثقافة14-3-2024 | 15:06

دعاء برعي

القاص والروائي محمد صالح البحر، صاحب الأعمال التي تحفل برؤى جنوب مصر بما تحمله من طقوس وحكايات شعبية وأسطورية، والتي من بينها "نوافذ الضوء"، و"حتى يجد الأسود مَنْ يُحبه"، و"حقيبة الرسول"، عندما توجهت إليه بوابة "دار الهلال" لتسأله عن رمضان وعوالمه الخاصة بالنسبة إليه كمبدع، وعوالمه في جنوب مصر، ردت بما يشبه القصة في النسيج الفني والجمالي، لذا سوف نترك له المساحة دون أن نقطع سياق إبداعه.. يقول:

على قدم وساق يمضي الوقت حتى تظن أن المسافة بين العيد الصغير وظهور الهلال القادم، أصغر من شهر رمضان نفسه، فهل يقتلك مرور الوقت سريعًا؟! أم عجزك عن ملاحقته، وعدم قدرتك على فعل أي شيء، إلا أن تقف مندهشًا ببلاهة، ومشاهدًا بعجز، فيما تتحسس قدماك المرتجفتان آثار الطريق في الزمن، بخطى عمياء لبقرة معصوبة العينين، تدور في ساقية على رأس أرض لا تشبع، هل تخاف من شهر رمضان؟! وتظن أنه يخالف كل مزاعم التحرر التي تعودتْ عليها روح الرجل الذي نما بداخلك، وأن الناس لا يتغيرون فيه تمامًا، أو يُرَدّون إلى سيرتهم الأولى كأنهم يولدون من جديد، بل يلبسون أقنعة لا تناسبهم إلا لشهر واحد فقط، وربما تسقط قبل أن ينتهي، أم تخاف من الصوم؟! وتعتقد أنه يُعوقك عن فعل الكتابة، الفعل الوحيد في كل دنياك الماضية الذي عندما تكون في حضرته، تشعر أنك في حضرة روحك المفقودة بفعل قسوة الزمن.

الآن فقط تعثر على إجابتك المفقودة، فتعرف أنك تخاف نفسك، تخاف ألا تكون أنت في صوم بلا طقوس تدفعك للكتابة، وتخاف ألا تصوم فتفقد يقينك الوحيد في هذا العالم المظلم، وما بين الخوفين معلق أنتَ دائمًا على مشنقة من فراغ عظيم، لا تنزل عنها إلا عندما يغوص شهر رمضان متخطيًا أيامه الأولى، بحيث تعتاد روحك العطش، وقلة السجائر، وشحيح القهوة، وغياب القلم، تستكين إلى هدوء الفراغ من حولك، وتنقسم روحك إلى رجل وظله، عقل ظاهر ممتلئ بروحانيات تشبه جوهره القديم، الذي يهفو ليكون عليه دائمًا، وعقل باطن متخم بذكريات الكتابة التي تلمس فيها أصابعه أطراف الحقيقة، وما بين الخوفين، ما بين الرجل وظله، ثمة ذكرى تشبه صوت آذان المغرب في أذنيك، وامتلاء بطنك على مائدة الإفطار، ذكرى الاستثناء الوحيد الذي مارستَ فيه فعل الكتابة أثناء الصوم دون أن تشعر، أو تعرف كيف حدث ذلك، وأنتج روايتك الاستثنائية "حتى يجد الأسود منْ يُحبه"، الاستثناء الذي عشقته كما عشقتَ المرأة الوحيدة التي لم مرَّتْ على جسر حياتك من قبل، وأفلحتْ في الوصول إلى روحك، الاستثناء الذي وهبكَ الطمأنينة لمجيء شهر رمضان لثلاث سنوات متتالية، كأن الوقت قد كفَّ عن مروره المتسارع بداخلك، فهدأتْ روحك.

كنتَ متدثرًا بخوفك القديم من الفراغ الإبداعي، ترقب انبثاق هلال الصوم في السماء بعيون متلصصة، وتتمنى أن يبطئ الوقت من تسارعه المحموم، حتى تنتهي من الكتابة، لكنك تذكرتَ تجربة السفر التي سبقته بشهرين، وكنتَ ممتلئًا بذات الخوف من تعثر القلم، وصعوبة العودة إلى أجواء الرواية، حتى وهبك السفر تجربة أضافتْ إلى رؤيتك الروائية عمقًا لم تكن لتمتلكه قبل أن تهبط قدماك أرض مدينة "مرسى علم"، وتلتقط أذناك وشيش البحر الممتزج بحكايات الناس، وتاريخهم المحصور بين صمت الجبل وملوحة الماء، هكذا هبط على وعيك السؤال المباغت، لماذا لا تكون تجربة الصوم كتجربة السفر؟!

ربما لم تُجب على روحك بشكل قاطع، لكن حب المغامرة حملكَ على جناحيه، فواصلتَ الطيران على سطور الورق، وتبدلتْ دهشتك من رصد القدرة على تخطي خوفك القديم من فراغ الكتابة أثناء الصوم، إلى تجاهل الإجابة عن السؤال المكرر للحظة الإبداع، كيف تأتي المعاني بكل هذا اليُسر، الذي لم يطرق روحك من قبل أثناء العطش؟! امتلأتْ روحك بالخِفَّة، وحَلَّقتْ بإصرار الرغبة العارمة للوصول إلى نقطة النهاية، وكان الاستثناء مثيرًا بحق، حتى أن الوقت. من منتصف الليل إلى آذان الفجرـ تحوّل إلى ساحة بيضاء تنتظر كلماتك عليها، بدوتَ فحلًا كأن شابًا عشرينيًا قد تَلَّبَسَ روحك، وراح يواجه الحياة بصدره المفتوح، يعتلي "صخرة العشاق" ليرسم من تحتها مدينته الخاصة، المدينة التي شهدت هزائم المحبين، وجَسَّدتْ دموعهم سُحبًا تشبه الأرغفة الطازجة في سمائها، وأنتَ ترقبهم بذات العشق. كأنكَ واحد منهم. وهم يقتاتون عليها، حتى حملتهم الأسطورة على جناحيها، فتحولوا إلى ملائكة يحرسون المدينة من الكُره، ويُكملون قصص الحب التي يزرعها القادمون من بعدهم على شاطئها.

الآن تنظر إلى عمق الطريق من خلفكَ، كأنك تنظر إلى ماضٍ عمره نصف قرن، ويزيد، وتسأل نفسك، كم من الوقت يحتاجه رجل مثلي، ليُدرك أن الرجل وظله ليسا كائنين منفصلين عن بعضهما؟! وكم بلغ حجم اليقين الذي ملأ روحك لتؤمن أن الرجل وظله كيان واحد؟! لا ظل بلا رجل يُجسده فوق الأرض، ولا رجل بلا ظل طالما انتصب طوله في الضوء، وكان الضوء الساقط عليكما كأنما روح عظيمة تهبكما الحياة من السماء.

الآن تنظر إلى عمق الطريق من خلفك، وتسأل نفسك، أين ذهب ذلك الطفل الذي كان يصنع الزينة قبل ظهور الهلال بأسبوع كامل استعدادًا لقدوم شهر رمضان؟! ثم تُمعن في نظرك باتجاهه، حتى تلمس أناملك روحه وهي تهفو اشتياقًا إلى الصوم، وترى عيناك جسده وهو يجتهد في الصلاة وقيام الليل، وتسمع أذناك صوته الحلو وهو يرتل القرآن حتى نهايته لأكثر من مرة، تتذكر انتصارات الدورة الرمضانية، وجلسات السمر في المقاهي، وبراءة الصداقات الأولى على مصاطب البيوت الطينية، تنظر بإمعان المستغرِق كأنك تكتب رواية جديدة، وتهيم بلا وعي كأنك عاشق ذهب عقله، فتنسى تمامًا أنك تسير في شارع مزدحم، ببلد مزدحم، بعالم أكثر ازدحامًا وضجيجًا مما كان عليه عالمكَ الأول، وكلما اصطدم أحدهم بكتفكَ، ووليتَ وجهك إليه معتذرًا، وجدته يسألك بسخرية:

أين ذهب الطفل الذي كان يعد الأيام ليفرح بظهور الهلال؟!

فتُجيبه مبتسمًا، ومطمئنًا، كأنكَ ترى اليقين بين يديك:

كبرتْ روحه، وصار الهلال يخرج من أعماقها.

Dr.Randa
Dr.Radwa