السبت 4 مايو 2024

نجل صلاح جاهين يكشف عن «صاحب الرباعيات» الأب في مقال نادر لـ«الهلال»

صلاح جاهين

كنوزنا21-4-2024 | 12:33

في عالم الشعر والأدب، خلد اسمه ونسج من رسوماته وكلماته لوحات تعبر عن آمال الناس وأحزانهم، أنه صلاح جاهين، الشاعر والفنان والمُلقب بـ"فيلسوف البسطاء" و"رسام السعادة"، يُعد أيقونة فذّة في الشعر العامي المصري، فهو فنان متكامل خلق من الكاريكاتير عوالم تهاجي الواقع بسخرية ورسم من خلال رباعياته حقائق ظلت متوارية خلف ظواهر الحياة، ولكن، خلف جدران البيت، ومع الأبناء، من هو صلاح جاهين؟

على صفحات مجلة "الهلال" عام 2004، كتب بهاء جاهين ابن الشاعر الراحل مقالًا بعنوان "بعض ما تعلمته من صلاح جاهين"، كشف من خلاله علاقته بأبيه، تلك العلاقة التي تميزت بالتفرد، والتعاليم الغنية بالقيمة، كما أبرز كيف كان والده، الأب المشهور، نموذجًا يحتذى به في فهم الأبوة ووعيه بأن كل جيل يكون له خصوصيته الثقافية.

 

استهل بهاء جاهين مقاله:

بنوّتي لصلاح جاهين ليست عادية، فأنا لست ابنه بالجينات فقط، ولكني ابنه الشعري أيضًا.. وإذا كانت بنوتي الشعرية لصلاح جاهين يشاركني فيها الكثيرون - ممن تتلمذوا على يديه من خلال قراءتهم لقصائده - فإني أفخر بأني كنت الصبي الوحيد في ورشة أسطاها صلاح جاهين، إذ أسعدني زماني بأن أنشأ في بيت هو سيده، فمنذ قصائدي الأولى ويده الخبيرة الحانية توجهني وتكشف لي الصنعة عمليًا وشفهيًا.

 

جيل يسلم جيل

وصلاح جاهين كان من الآباء الذين يؤمنون بأن كل جيل عليه أن يلقن خبرته الثقافية والحياتية للجيل التالي: وعليه فقد كان دائم الحكي لي عما مر به من تجارب وما استوعبه من خبرات وما استخلصه من هذا وذاك من حكمة ومن أراء تلخص تلك الخبرات والتجارب . فمثلاً حين كنا نمر بمناطق من القاهرة القديمة كان يلفت نظري المآذن، ويشرح لي الفرق بين مآذن العصر المملوكي ذات الاستدارات ومآذن العصر العثماني التي تشبه القلم الرصاص أو إذا سارت بنا السيارة بحذاء مجرى العيون يشير إلى السور موضحا أن في أعلاه مجرى كان يستخدم في العصر المملوكي لنقل مياه الشرب.

 

لم يكن مجرد أب

لم يكن صلاح جاهين إذن مجرد أب بيولوجي أو حتى شعري لي، بل كان أبًا ثقافيا أيضًا استقيت منه الكثير من معارفي و مداركي، وأراني في الفن والحياة، ومن أهم ما فعله في حياتي إهدائي الكتب ومن أهمها روايات دستويفسكي في ترجمتها العربية الرائعة التي قام بها سامي الدوروبي ونشرتها هيئة الكتاب في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.. كنت حينها في الثالثة عشر ومازلت أذكر الثورة الفنية التي أحدثتها هذه الروايات في رأسي.. وأعتقد أنها هي التي صنعت منى شاعراً، أو على الأقل فجرت الكامن المكنون في صدري من شعر، وحين بلغت عامي الحادي والعشرين أهداني أبي في عيد ميلادي دائرة المعارف البريطانية، ومازلت أستخدمها حتى الآن.

 

راضي عن نفسي

ومما تعلمته منه قيمة العمل وإتقان العمل، وقيمة الواجب والتفاني في أدائه أذكر أنه أصيب في أعوامه الأخيرة بآلام مبرحة في العمود الفقرى لم تكن تجدى معها المسكنات.. وكان عليه في نفس التوقيت كتابة أشعار مسرحية إيزيس للحكيم التي أعاد المسرح القومي تقديمها في أوائل الثمانينات وأخرجها كرم مطاوع.. فكان صلاح جاهين يتحامل على نفسه حيث يخف الألم قليلاً، ويقوم إلى مكتبه وينحني عليه ليكتب، وحين انتهى رفع رأسه من الأوراق قائلاً.. "أهه أنا دلوقت راضي عن نفسي" وظننت حينها أن ما قاله مجرد كلام، وليس وراءه ما وراءه، ولكنني حين أتأمل الموقف الآن أرى بوضوح أنه كان درسًا موجها لي.

 

لا يكرر نجاحه

كان صلاح جاهين مثلاً أعلى في المثابرة على العمل، فكان يعمل أكثر من عشر ساعات يوميا، وكان أحيانا يقبل أعمالاً لا يتحمس لها لمواجهة أعباء العيش والإنفاق على الأسرة، ومن خلاصات تجاربه التي كان

أحياناً يسر بها لي:

لكي تنجح لابد أن تعمل.. والعمل دائما ينطوى على بعض الألم، حتى وإن كانت فيه لذة.. فلكي تنجح لابد أن توطن نفسك على تحمل ذلك الألم، ومما تعلمته منه أيضا السعي إلى التجديد دائما..

فإذا كان صلاح جاهين أحب النجاح، فإنه كره تكرار نجاحه، مثلا حين نجحت "الليلة الكبيرة" أو الرباعيات أو فيلم "خلي بالك من زوزو" أو فوازير نيللي، لم يحاول صلاح جاهين تكرار التوليفة الفنية أو الوصفة التي أعجب مذاقها الملايين، بل كان دائمًا ينطلق بعد نجتح عمل له إلى وصفة وتوليفة مختلفة تمامًا.

 

البساطة في الفن

ومن قواعد الفن التي تعلمتها منه البساطة والمصرية، كان ينصحني قائلاً: «حين تكتب لا تقل الشمس تشرق من الغرب.. قل الشمس تطلع من الشرق.. ضاربا مثلاً على فضل البساطة على التحذلق والتغريب أي السعي للغرابة من أجل الغرابة.. وكان صلاح جاهين يعتقد أيضا أن البساطة وحدها لا تكفي بل يجب في كل عمل فني سواء كان قصيدة أم أغنية أو حتى رسمة كاريكاتورية - أن تظهر ملامح الشخصية القومية، أي يجب أن يكون الفن مصريا، عاكسا ملامح التراث -

الشعبي الموروث أو الواقع المعاش. ومن أهم الكتب التي شكلت وجدان صلاح جاهين في هذا الصدد كتاب في الأدب الشعبي لأحمد رشدى صالح التي ألهمت نماذجه من الموروث الشعري الفولكلوري صلاح جاهين بعض أشعار ديوانه عن القمر والطين (1961) وكتاب "سندباد مصري" للكتور حسين فوزي وتاريخ الجبرتي كتابه الأثير وخاصة الجزء الرابع منه الذي سجل يوميات الحملة الفرنسية وظهر أثر ذلك الكتاب في ملحمة "على اسم مصر"التي كتبها صلاح جاهين وهو يعالج من الكمد في أحد مستشفيات موسكو عام 1971م.

 

الثراء الإنساني غير المكترث بنفسه

وإذا أردت أن ألخص صلاح جاهين في سطور قليلة، لقلت إنه الثراء الإنساني غير المكترث بنفسه، والرحابة التي تضم في حضنها حدود هذا الوطن بطيره وناسه وزرعه وبهائمه ونيله وصحرائه وسمائه الطفل الأب اللعبي الحكيم.. كان يقول لي:

ما الفن إلا لعبة.. وإلا فقل لي لم نكتب سطورا تحت بعضها وفي أواخرها قواف!! إن كان كل ما نريده التعبير عن معنى أو وجهة نظر فلم لا نكتبها في شكل مقال؟

كان لعبه جادا، وهمه عاما، وإرادته قوية، وطفولته أبوية، وكل تجلياته عبقرية وحياته كلها مثلا حيا - لي ولغيري ممن عرفوه وأحبوه - للتواضع دون ضعة والثقة دون ذرة غرور، والحب والعطاء دون ثمن ودون انتظار لثمن، والحنان الرجولي، والقوة الوديعة، والصبر الجميل والروح الشفافة..

كان يحنو عليَّ كما تحنو الأم على الوليد، ويلعب معي كما لو كنا طفلين في نفس السن، بل أحيانًا كان ينظر لي بعيون كلها دهشة وحكمة ويقول: أحس أنك أبي..

Dr.Randa
Dr.Radwa