لطالما رفعت بولندا شعار «يجب تصحيح كتب التاريخ والجغرافيا منذ فك الاتحاد السوفيتي»، ونتيجة لذلك ستستمر نزاعاتها مع روسيا طويلًا، وخاصة عقب اندلاع النزاع العسكري في جارتهما المشتركة أوكرانيا، حيث ظهر بشكل أساسي في تجميد بولندا للأرصدة الروسية في بنوكها وفرضها عقوبات مشددة على الروس لا سيما رجال الأعمال والشركات الروسية.
نشر الأسلحة النووية في بولندا
في الآونة الأخيرة، شهد الصراع بين البلدين تصاعدًا بعد إعلان الرئيس البولندي، أندريه دودا، عن استعداد بولندا لنشر الأسلحة النووية الأمريكية على أراضيها في حال قرر حلف شمال الأطلسي (الناتو) تعزيز جبهته الشرقية، وأكد دودا أن بولندا مستعدة لهذه الخطوة إذا تم الاتفاق على ذلك من قبل الحلفاء.
وأشار دودا إلى تصاعد التواجد العسكري الروسي في كالينينغراد، الجيب الروسي الذي يحده ليتوانيا وبولندا، إضافةً إلى الأنباء عن نشر أسلحة نووية في بيلاروسيا من قبل روسيا. وأكد أن المحادثات بين بولندا والولايات المتحدة بشأن التعاون النووي جارية منذ فترة، وأن بولندا جاهزة للتعاون في هذا المجال.
الرد الروسي على بولندا
أكد المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن روسيا ستتخذ الإجراءات اللازمة لضمان أمنها إذا تم نشر أسلحة نووية في بولندا، حيث قال: "العسكريين سيحللون الوضع بالتأكيد، وسيتخذون جميع الإجراءات اللازمة لضمان أمن روسيا".
وفي يونيو 2023، كان قد أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نشر بعض الأسلحة النووية التكتيكية في بيلاروسيا، الدولة المجاورة لكل من أوكرانيا وبولندا، وهو ما دفع بولندا لاتخاذ ذلك القرار.
تاريخ العلاقات الروسية البولندية
تعود جذور الصراع بين البلدين إلى نحو خمسة قرون مضت، بدءًا من القرن السادس عشر. في ذلك الوقت، رأت بولندا خطرًا حقيقيًا في القيصرية الروسية، حيث كانت تُعتبر أوروبا "مزرعة" لها، وكانت تسعى إلى التوسع في المناطق الروسية الزراعية لتعزيز قوتها الاقتصادية. بالمقابل، كان الروس يتوسعون نحو الجنوب، حيث الأراضي الخصبة، ونجحوا في السيطرة على مناطق حيوية بين عامي 1558 و1562.
ثم شنّ ملك بولندا وليتوانيا باتوري حرب "ليفونيا" الأولى في عام 1577، واستمرت الحروب حتى عام 1582، مما أدى إلى خسارة روسيا لمعظم الأراضي الجنوبية التي كانت تسيطر عليها لصالح التحالف المعارض.
واستمرت الحروب بين الجانبين بشكل متقطع، حيث شنّ البولنديون حملة عام 1605 استمرت حتى 1618، وحملة أخرى في عامي 1632 و1633. استغلت بولندا في هذه الحملات غياب الاستقرار السياسي في موسكو بعد وفاة القيصر فيودور، حيث تحالفت مع كوزاك الجنوب وامتدّت سيطرتها على معظم أوكرانيا الحالية.
الحرب الروسية – البولندية
في عام 1654، شهدت تحولات كبيرة في سياق الصراع بين روسيا وبولندا، حيث انتصرت روسيا بشكل ملحوظ وتراجع نفوذ بولندا وحلفائها. خاض الجانبان حربًا معروفة بحرب الـ13 عامًا، أو الحرب الروسية - البولندية، التي انتهت عام 1667 بتوقيع معاهدة أكدت سيطرة روسيا على مناطق واسعة في شرق أوكرانيا الحالية، بما في ذلك الجزء الشرقي من نهر دنيبر الذي يشمل كييف، وشهدت بولندا انكماشًا كبيرًا تحت وطأة الهزائم والصراعات الداخلية.
كانت هذه الهزيمة الاستراتيجية للبولنديين أحد العوامل التي ساهمت في ظهور الإمبراطورية الروسية عام 1721، حيث استولت على مناطق واسعة تشكل اليوم روسيا الاتحادية. على مدى القرنين التاليين، نجحت الإمبراطورية الروسية في الحفاظ على تفوقها على بولندا وحلفائها وصدها عن محاولات التوسع نحوها.
ومن الجدير بالذكر أن موسكو استطاعت بناء نفوذ داخل المملكة، حيث دعمت الملك أغسطس الثالث في بولندا وساعدت في إقصاء خصومه. كما فازت في حربها ضد تحالف نبلاء الـ"بار" عام 1772، الأمر الذي أدى إلى التقسيم الأول للمملكة البولندية، حيث تقاسمت روسيا وبروسيا (ألمانيا الحالية) والنمسا أجزاء منها. ثم جاء التقسيم الثاني بعد هزيمة الحملة البولندية – الليتوانية عام 1792، وتلا ذلك بسنتين محاولة فاشلة للانتفاض ضد الروس، مما أدى إلى التقسيم الثالث للمملكة.
الحرب البولندية الثانية
في عام 1807، أسس نابوليون بونابرت، إمبراطور فرنسا، دوقية وارسو، وهي الأراضي البولندية التي انتزعها من ألمانيا بموجب اتفاقية، وقرر بونابرت شنّ حملة عسكرية ضد الإمبراطورية الروسية، تحت عنوان "الحرب البولندية الثانية"، لإجبارها على التراجع إلى خارج أوروبا، ووصلت قواته بقيادته إلى مشارف بيلاروسيا الحالية، مدعومة بقوات بولندية، صيف عام 1812.
وفي 1830، تم توقيع "انتفاضة نوفمبر" المسلحة في المناطق البولندية التي كانت تسيطر عليها روسيا، والتي هدفت إلى استقلال هذه المناطق عن الإمبراطورية الروسية وعودتها إلى تشكيل كيان متصل ببقية الأراضي البولندية، ولكنّ الحكومة الروسية تمكّنت من إخمادها خلال عام واحد.
الحرب العالمية الأولي
أعلنت بولندا استقلالها في وارسو بعد استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وكان عليها إخلاء الأراضي الروسية السابقة بحلول فبراير 1919، وبعد توقيع اتفاقية ألمانية سوفيتية، احتل الجيش الروسي على الفور كل الأراضي التي أخلاها الألمان.
عندما قررت بولندا رفض أي "حكومة أجنبية تفرض على بولندا"، بدأ الهجوم البولندي في 9 فبراير 1919، وفي نهاية العام، وصلت القوات البولندية إلى الحدود الرومانية، مسيطرة على معظم أوكرانيا، ومستغلة انشغال الجيش الروسي في المعارك ضد الجيوش البيضاء في الحرب الأهلية الروسية.
لكن الجيش الروسي بادل الهجوم في غضون أشهر، وبدأ باسترجاع المناطق التي احتلها البولنديون بدءًا من مايو 1920، وعندما وصل الجيش الروسي إلى الحدود البولندية، قرر قائدهم اجتياح بولندا، برغم معارضة المفوض العسكري تروتسكي، قائلًا عبارته الشهيرة بأنّ "ضرب الجيش البولندي إسقاط معاهدة فرساي".
حينها حصلت بولندا على دعم قوي من أوروبا، مما سمح لها بمقاومة الهجوم الروسي، ولم تسقط وارسو، وتمّ توقيع معاهدة ريغا التي حافظت على معظم أوكرانيا ضمن حصة السوفيات، فيما احتفظ البولنديون بمنطقة تحيط بوارسو، من لفيف إلى غراندسك ومن فيلينوس إلى كراكوف.
الحرب العالمية الثانية
بعد مرور 16 يومًا على اجتياح ألمانيا لغرب بولندا في سبتمبر 1939، انتقل الجيش السوفيتي إلى شرق البلاد. وعندما قرر هتلر الانقلاب على ستالين وشن هجومه على روسيا في عملية "بارباروسا" الفاشلة، انضمت القوات البولندية إلى القوات النازية وشاركت في الحملة المتجهة نحو موسكو.
في نهاية الحرب، بعد هزيمة الجيش الألماني، سيطر الجيش الروسي على المناطق التي كانت تحت سيطرة برلين. وتم تقسيم معظم أراضي بولندا على الجمهوريات السوفيتية المجاورة، ولكن باقتصار بولندا على حكومة سوفيتية مستقلة، وتم تحديد حدودها بموجب اتفاقية في مؤتمر مالطا.
على الرغم من محاولات العصابات المناهضة للشيوعية، المعروفة بلقب "الجنود الملاعين"، في الفترة التي استمرت حوالي 8 سنوات، للانفصال عن الاتحاد السوفيتي، إلا أن الحكومة نجحت في القضاء عليهم في عام 1953.
وظلت بولندا ضمن الكتلة الشرقية السوفيتية، وتم توقيع معاهدة "حلف وارسو" مع الاتحاد السوفيتي، مما جعلها جزءًا من التحالف الشيوعي المنافس لحلف الناتو، وظلت بهذا الوضع حتى عام 1989، عندما شكّلت خسارة الحزب الشيوعي في الانتخابات إشارة إلى انهيار الاتحاد السوفيتي.
الحرب الأوكرانية
منذ انتهاء الحكم السوفيتي في بولندا عام 1989، وخروج آخر جندي سوفيتي منها عام 1993، تسارعت خطوات وارسو العدائية تجاه روسيا، انضمت إلى الناتو عام 1999، وإلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، وشكّلت رأس حربة في سياسات أوروبا والولايات المتحدة ضد روسيا منذ ذلك الحين.
وفي الفترة الأخيرة، تعدّ بولندا الدولة الأكثر دعمًا لأوكرانيا في الحرب مع روسيا، فتستقبل بولندا عمليات التدريب وعمليات التسليح واستقبال اللاجئين الأوكرانيين، وكذلك تستقبل قوات الناتو وزيادة أعدادها وعتادها في قواعدها العسكرية.
وفي سياق أخر نشرت بولندا آلاف الجنود في أوكرانيا تحت عناوين مبهمة، كما يشارك جنود بولنديون في المعارك جنوبًا، بينما تنتشر قوات بولندية في المناطق الأوكرانية الغربية تحت عنوان الشرطة وضبط الأمن، و بدأ الإعلام الغربي يتحدث بشكل متزايد عن قلقه من نوايا وارسو تحريك أطماعها التاريخية في مناطق غربي أوكرانيا استغلالًا لفرصة الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.