يذخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.
نشرت دار الهلال في عددها الصادر في 1 أغسطس 1948، قصة قصيرة للكاتب الكبير يوسف السباعي، بعنوان " آه يا حبيبي آه" تدور أحداثها حول قصة حب تخللها الحزن والألم، وانتهت نهاية غير سعيدة؟
نص القصة:
آه یا حبیبی آه..
وماذا أملك غير آه.. أنفس بها عن ألم في الجسد ولوعة في الفؤاد، آه منك ومن داء أضنيت به القلب.. آه من علة سرت في الجسد فأنهكته وحطمته، وتركته كأنه عود يبس أو ورق جف آه.. آهة جارة ملتهبة عميقة إني أحس بعد كل آهة بشيء ولكنها من الراحة والهدوء.. راحة عاجلة الزوال وهدوء سريع الأفول كومض البرق.. سرعان ما يعقبهما ألم مستحكم ولوعة مستبدة.. فأصدر من صدري الآهة تلو الآهة، أني أرقد على الفراش أتقلب وأتململ لاهثة الأنفاس مكروبة الصدر، لست أدري موقفي بين الحياة والموت.. بي أمل في الحياة.. وبي حنين إلى الموت، بي رغبة من العيش وخشية من الفناء، وكل ما بي من أمل وحنين ورغبة وخشية، منبته أنت، ولا أحد سواك..
أنت وحدك.. المحرك لكل عاطفة تجيش في صدري.. أنت وحدك كل ما أحس وكل ما أرى، ما شرد الفكر إلا فيك.. وما فتحت العين إلا صورتك، ألوهمها في السقف وعلى الجدران، وفي النوافذ وفي الأبواب، وفي كل طيف وكل شبح، ما وعت الذاكرة إلا ذكراك.. فهي تحفظ عنك كل شيء، كل كلمة، وكل حركة.. كأنها مرآة تعكس لي عنك كل ما أبصرته منك، إني امد يدي تحت الوسادة، فتلمس رسائلك، ويسري منها في جسدى برودة تندي عليّ وتبل حرارتي، وأحس أنها فضلة متاع الحياة وبقية نعيم بائد ومتعة منصرمة، إني لأتعلق بها تعلق غريق في كسر من حطام السفين، إني لأراها ملجئي في العاصفة الهوجاء، وملاذي وسط الأمواج الطاغية، إني أتعلق بالحياة.. لمجرد وجودك فيها، وما دمنا كلانا أحياء، فقد نلتقي يوما، ويشدنا الهوى الغابر.. فيجري في النفس الدابلة ماء الحياة، ويحييها.
بعد طول موات الهوى الغابر!! أهكذا يا حبيبي أضحى هوانا غابرا، نتحدث عنه كأنه شيء من التاريخ؟ هذي رسائلك قد أخرجتها يدى لتنشرها أمام عيني دعني أنثر لك منها أحاديث الهوى الغابر.. الهوى الذي ثوى، فاتخذت له من الصدر قبرا، أسقيه دمع العين ودمع القلب.. حتى نمت ورود الذكرى.. على جوانبه، فجعلت منه زينة القبور.. كما كان حبنا زينة الحب، آه يا حبيبي.. فهل تسمع آهتي.. ما بالك إذا لا تجيب، إني أبصرك، وإني أتحسس وجهك، أجل والله هذا وجهك، لم لا تبتسم؟ لم لا تقبلني؟ هل نسيت شفتاك القبل؟ ما بالك لا تذكر ليالينا معا.. ليال أبعد فيها الهوى عنا الكرى.. فنعمنا بيقظة الحب النقي الطاهر.
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى
يلفنا الشوق من فرع إلى قدم
ثم انثنينا وقد رابت ظواهرنا
وفي بواطننا برء من التهم
أتذکر یا حبيبي ليلة ضمتنا كرمة الحديقة.. ليلة تسللنا من الدار خفية فاتخذنا من أوراق الكرم ستارا يحجبنا عن ضوء القمر حتى لا يكشف أمرنا، أتذكر كيف كان الشعاع الماكر يتسرب من بين الأوراق فيمسنا في لين ورفق، وكأن القمر يمسح بكفه الندى على وجوهنا.
كان أول ما عرفته في الحياة هو إنني أحبك، فقد نشأت وحبك في دمي، كنت أشبه بشجيرة صغيرة تروى بماء حبك، فلما نمت وترعرعت كان حبك يسري في عصارتها ويتغلغل في عروقها وأوراقها.. وكنت لها الروح وكنت الحياة، فكل ذرة في جسدي تعلقت بها ذرة منك، فلست أراني الا خليطا مني ومنك.. كيف يمكن إذا أن تنتزع مني، وأن أعيش بدونك؟
منذ عشر سنين وأنا أحبك.. كنت وقتذاك طفلة في الثانية عشرة، ومع ذلك فقد كنت أحبك كما لم تحب امرأة من قبل، كنت أحبك كما أحبك الآن، وكما ساحبك حتى نهاية العمر، كانت دورنا متجاوزة، وكانت تجمع بين عائلتينا صلة ود قديم وصداقة متينة، فكنا أشبه بالأقرباء، وكنت صديقة أختك الصغرى وزميلتها في المدرسة.. وأتاح لي كل ذلك أن أكون قريبة إليك كنفسك، وأن أعرف كل شيء عنك كما أعرفه عن نفسي هل تعرف أول يوم طرق فيه حبك باب قلبي؟ هل تذكر ذلك اليوم الذي كنت أعدو فيه على سلم الدار، فسقطت على ركبتي وسالت منها الدماء؟ بالطبع لا تذكره.. فلا أظنه يعنيك شيئا أما أنا فإني أذكر كل ما حدث فيه بالضبط.. كان يوم خميس وكنت آتية لزيارة أختك وأخذت أقفز على الدرج، كما تعودت أن أقفز دائما، ولكن قدمي زلت، فهویت علی رکبتي وسالت مني الدماء، وكنت أنت تطل من النافذة، فنزلت تعدو إليّ، وحملتني بين يديك فغسلت ركبتي وربطتها بمنديلك.. وحنوت عليّ في عطف وحنان، ثم قبلتني ماذا كان أثر ذلك اليوم في نفسك؟ لا شيء.. فما كنت عندك أكثر من طفلة سقطت على الدرج، فجرحت ركبتها، وما كنت تحس نحوي أكثر مما تحسه نحو أختك الصغيرة.
وماذا كان أثره في نفسي؟ أما عن القبلة.. فما زلت أحس حلاوتها حتى الآن، وأما عن المنديل.. فقد انتقل من ركبتي إلى صدري، لقد ضمدت به جرح ركبتي فيما مضى، أما الآن فإني أضعه على صدري.. على أضمد به جراح قلبي، لقد كان ذلك بداية حياة جديدة، أو قل أنه كان بداية حياتي، فما أذكر أنني كنت أحيا قبل ذلك.. لم أكن خلال تلك الفترة السابقة أكثر من جنين لم ير ضوء الحياة بعد..
هل الحياة هي أن نأكل ونشرب وننام ونستيقظ، ما الفرق إذًا بين الانسان والحيوان؟ أن الانسان يحيا بقلبه، وغذاء القلب وهواؤه هو الحب، فاذا لم يحب الإنسان ، فقد هواء الروح وغذاء القلب، وأضحى هو والعدم سواء منذ ذلك اليوم - وقد أضحت رؤيتك غذاء نفسي - لا أحتمل أن يمر بي يوم دون أن أراك، ولم تكن رؤيتك بالأمر الشاق، إذ كنت أقضي عند أختك جل وقتي، كم تسللت إلى غرفتك في غفلة منهم، فجلست إلى مكتبك وضممت كتبك إلى صدري ومسستها بشفتي.. لأني كنت أعلم أن يدك قد مست صفحاتها وكنت أشم بين أوراقها عبق أنفاسك، وأسمع من بين سطورها همس شفتيك.. كم اختلست اللحظات لأتحسس فراشتك، وأدفن وجهي في وسادتك، وأقبل كل ما تمسه يدي من أمتعتك.. كأنني عابدة في هيكل مقدس.
ومرت بي الأيام وأنت لا تحس بي أو تحس بي كأخت لك، وأنا راضية قانعة أراقبك من بعد، لا يزور الكرى عيني إلا إذا نمت أنت، كنت أراقب حجرتك من نافذتي، أتطلع إليها كما يتطلع المؤمن إلى السماء.. لایری ربه ولكن ملء نفسه الإیمان به، وفي الليالي التي كانت غيبتك تطول، والتي كنت لا أبصر فيها ضوءا في حجرتك.. كنت أجلس في انتظارك، وكأنني من فرط القلق على جمر اللظى أو شوك القتاد، وكلما سمعت وقع أقدام في الطريق مددت رأسي من النافذة، فإذا لم أتبينك تملكني الخذلان وعدت إلى الانتظار وهكذا أظل حتى تحضر وأطمئن فأذهب إلى النوم وأخيرا يا حبيبي.. بدأت أسمع لحبي صدى في نفسك كيف؟ لست أدري، وما حاولت قط أن أدري، لقد كان حسبي منك ومن الحياة مجرد الإحساس بأني قد أضحيت عندك ذات موضوع، وأنك بدأت تهتم بي، وتختلس إلى النظرات، وتترقب المواعيد، وتطيل من أوقات بقائك في الدار إني لم أدع قط الذكاء، ولا قوة الملاحظة.. ولكني كنت في اكتشاف حبك لي من أشد الناس ذكاء، وأقواهم ملاحظة، كنت تحاول أن تجعل لقاءنا صدفة، ولكني كنت أعلم أنه كان وليد تدبير، وكنت أحس أنك ترقبني دون حاجة إلى أن أنظر إليك.. أية سعادة تلك التي كانت تغمرني وقتذاك؟ لقد بدأت تتطوع لمساعدتنا أنا وأختك في الاستذكار وفي عمل الواجبات، وأخذت تقضي الساعات الطوال معنا في الحجرة، ترسم لي رسما أو تكتب لي واجبا، وأنا أنظر إليك صامتة اللسان صخابة الحشا، يكاد ينوء كاهلي بما حمل من صنوف السعادة وألوان الهناء.
وهكذا بدأ بيننا دور الحب الصامت.. تثب الضلوع للضلوع، ويخفق القلب للقلب، وتهفو الروح للروح، وتنبض المهجة للمهجة، وتشتعل العين من العين، أما الشفاه فلا تنطق حتى كان ذلك اليوم الخالد، يوم لقائنا تحت الكرمة، قلت لي هامسًا أنك تريد أن تسر إلى شيئا، وطلبت مني أن ألقاك في كرمة الحديقة عند ما يسقط الظلام، وأحسست أن قلبي يكاد يقفز من بين أضلعي، وعرتني إذ ذاك هزة وتملكني الارتباك.. ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة، وانطلقت هاربة لا ألوى على شيء وعند ما سقط الظلام، كنت استرق الخطى إلى هناك آه.. آه يا حبيبي من حلاوة الذكرى ومرارتها.. آه من جرح يدمي ومن قرح ينكا.. آه من ليلة لم تنسها النفس، ولم يسلها القلب، ليلة تساقينا فيها الغرام، ومزجنا الروح بالروح.. ليلة لم تبق لي منها إلا حسرات وآهات، لكأنني بالقدر وهبنا إياها خسلة فلقد ما كانت متعتنا فيه سريعة المسترد، إذ عرفت في اليوم التالي لها أنها ستسافر في بعثة إلى الخارج ولقد أصابنی هم شدید، برغم أني كنت أعرف أن في السفر تقديرا لك وازدهارا لمستقبلك، ولكني كنت أخشى الفرقة، وأوجس منها خيفة.. ولقد صدق حدسي.. فحدث ما حدث.
بعد بضعة أشهر من سفرك أنباتني أمي أن ابن خالتي تقدم لخطبتي، ووقع عليّ النبأ وقوع الصاعقة، وأجبتها بأني لا أريد الزواج، ولكن المسألة لم تكن من السهولة بحيث يكفي أن أرفض الزواج فينتهي الأمر، لقد ظنوا قولي بادئ الأمر تدللا وخجلا.. ولكن عند ما اتضح لهم إصراري، تملكهم الدهش فلقد كانوا يرون في ابن خالتي نموذجا للزوج الكامل، وزاد إلحاحهم من كل ناحية عليّ، وأخذوا يضيقون عليّ الخناق... حتى اضطررت في النهاية إلى أن أنبيء والدتي أني لن أتزوج أحدا سواك وهنا بدأ دور النصح، وأفهموني أن من العبث أن أحاول انتظار الغد المجهول.. وأن عصفورا في اليد خير من ألف على الشجرة.
أجل يا حبيبي لقد أخذوا يذمون لي فيك، ويوازنون بينك وبين ابن خالتي.. رافعينه إلى الذرى خافضينك إلى الحضيض، ولكنهم كانوا كناطحي الصخر.. فما وهنت قط أمام أقوالهم، وأصررت إلا أتزوج سواك.. حتى كان ذات يوم، وهنت فجأة وتهاويت وتخاذلت.. بل خررت أمامهم صريعة، عندما أخبروني أنك تزوجت!! آه.. آه منك ومن طعنتك الدامية، كنت أستطيع أن أنتظرك حتى آخر العمر.. ما دامت لي فيك بارقة أمل تعينني على الانتظار، أما الآن.. فماذا أفعل وسط تلك الدياجير الحالكة من اليأس المميت؟!
مضت فترة وأنا لا أكلم أحدا ولا أسمع لأحد.. عافت نفسي الأكل وهجر عيني الكرى، حتى بدأت أتمالك وأتماسك وأتجلد على هجرك وأتصبر، وأخذوا هم يلحون عليّ في قبول ابن خالتي، حتى تمت الخطبة، ماذا يضيرني أن أتزوجه هو أو سواه، أن كل الناس عندي سواء، بعد أن فقدتك، ولم تمض بضعة أيام على الخطبة حتى رقدت طريحة الفراش.. أرزح تحت أعباء المرض إني أحس بالداء ينخر في جسدي.. وينتابني أحيانا شعور بأن أيامي في الحياة قد أضحت معدودات، برغم أنهم يحاولون أن يبعثوا الطمانينة في نفسي ويخففوا أمامي من خطورة حالتي.
أن أكثر ما يثقل عليّ في محنتي ويوجع نفسي.. هو أنني مخطوبة لغيرك، كم تتمكلني رغبة شديدة في أن ألقي بالخاتم من النافذة لأني أحس أنه يحز في أصبعي وفي قلبي، أجل.. كان يجب عليّ ألا أقبل غيرك، أما أنت أو لا أحد سواك، كان يجب عليّ أن أنتظر.. أنتظر حتى نهاية العمر.. من يدري؟ أنني أحس بالندم يحز في نفسي، أني لا أحتمل هذا الخاتم الثقيل، سأقذف به من النافذة وسآمرهم أن يفكوا الخطوبة.. وليفعلوا بي ما يشاءون.
**
وطويت المفكرة بعد أن انتهيت من قراءتها ومددت يدي بها إلى صاحبي في صمت وسألته هامسا:
- وهل فكت الخطبة؟
فأجابني صاحبي، وقد شرد ذهنه و تاه بصره:
أجل.. لأنها ماتت، لقد عدت من الخارج فوجدتها قد ذهبت، وأعطتني أمها المفكرة وهي تنشج باكية، وقالت لي: أنها لك.. كما كانت صاحبتها لك، غفر الله لها.. ولهم، لقد اتهموني كذبا بالزواج، وعلم الله إني ما نسيتها لحظة واحدة، وإني كنت أعد الدقائق واللحظات لأعود إليها، وأطرق صاحبي برأسه ولمحت في عينيه عبرة تترقرق.. وخرجت من صدره - حارة ملتهبة مريرة- كلمة "آه".