الجمعة 28 يونيو 2024

ثورة 30 يونيو والهوية المصرية

مقالات25-6-2024 | 12:18

هل أحدثت ثورة 30 يونيو تغييرا ثقافيا في العقل المصري؟ وهل كان منجز الثورة يتفق مع التاريخ الثقافي والهوية المصرية؟ وما الذي أضافته هذه الثورة للوطن والإنسان والمستقبل وبالتالي للعقل المصري؟ وهل كان من الضروري الخروج من الدائرة العدمية الجهنمية للجمود الاقتصادي والسياسي والثقافي التي ألقينا فيها منذ عقود فضرب الهزال جسد الدولة، وضرب الضعف البنية الأساسية، وأصبح فيها الاقتصاد هو اقتصاد مبني على ردود الأفعال، وخرجت مصر من الصورة الخاصة بالصف الأول كدولة كانت دائما تصنع التاريخ، وهل الأمر كان متعلقا فقط بالطعام والسكون إلى ما تقدمه الأحداث لنا، نحن دولة دائما كانت تصنع الأحداث، وهذا قدرها في أن يوفر لها ما يمكنه أن يقود السفينة المصرية بسلام في عباب الظلام والمؤامرات الدولية.

كثيرة هي الأسئلة التي تطرح وتتمحور الإجابة في أحداث يراها الجميع الآن، ولكن قبل أن أقدم الإجابة والأدلة، والمشاهدات، والملاحظات التي ستؤكد على النتيجة النهائية، والنتيجة النهائية هي مصر ووضعها على المستوى المحلي والعربي والعالمي.

لكي تستطيع أن ترى عليك أن تهدأ وتلتقط أنفاسك، وتفكر في الدول التي خاضت حروبا كثيرة وقاتلة للنفوس والمباني والأرض والنهر والبحر، ماذا فعلت، كي تستطيع أن تعود للحياة، أين كانت ألمانيا واليابان عقب الحرب العالمية الثانية وكيف أصبحتا، وهذان النموذجان تحديدا كانتا دولتين قوميتين مبنيتين على فكرة العرق القومي بالنسبة لألمانيا وعلى فكرة الإمبراطورية القومية بالنسبة لليابان، وهل كان قدرهما أن يعودا بنهاية من هذه الحرب إلى دولتين نكرتين، أم كان على شعوبهما أن تقدم تضحيات من أجل العودة إلى مصاف الدول المتقدمة، وهل حدث ذلك صدفة أم كانت هناك عقول تخطط واتفاقيات تعقد وأعمال تدور على سطح الأرض حتى استطاعا أن يعودا في سنوات قليلة إلى أفضل مما كانا عليه.

 ربما لا يعلم كثيرون أنه بإلقاء القنبلتين النوويتين الأمريكيتين على هيروشيما وناجازاكي انتهت الحرب بالنسبة لليابان وتم احتلالها من الجيش الأمريكي وأصبح لها حاكم عسكري هو الجنرال ماك آرثر الذى قام بمراجعة الدستور الياباني واسم اليابان نفسه، فأصبحت اليابان دولة برلمانية، كما تغير اسمها من الإمبراطورية اليابانية إلى اليابان فقط، وتم تقديم مساعدات مالية واقتصادية كبيرة لها لتعود كما كانت، ليس حبا في اليابان ولكن لأسباب عدة قد يكون أهمها الخوف من الصين، هكذا تعمل العقول الغربية، بمبدأ الهيمنة، عقول ذات طبيعة استعمارية، ولا يمكن التعامل معها بشكل مباشر، مهما كانت المغريات.

 ربما نتذكر جميعا محاولات الرئيس الراحل محمد أنور السادات في السبعينيات في إقناع الولايات المتحدة وأوروبا بمشروع مارشال لمصر كما فعلت قوات التحالف مع ألمانيا، فلا يمكن لألمانيا أن تكون حربه مسلطة على قلب أوروبا، كان لابد من احتواء ألمانيا أيضا بعد الحرب ليس حبا في ألمانيا، ولكن خوفا من الاتحاد السوفيتي وأيضا انتزاع كراهية أوروبا من قلب الألمان بجعلهم جزءا ونسيجا طبيعيا من أوروبا، دعونا نرى كيف كان الموقف في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، بسقوط ألمانيا وسيطرة الحلفاء: ففي فترة الحرب خصص هتلر حصصا غذائية محددة بسعرات حرارية تبلغ 2000 سعر لكل مواطن،  واتبع الحلفاء بعد الحرب نفس الأسلوب بسعرات حرارية أقل في اليوم الواحد تتراوح بين 1000 و1500 سعر، ونظرا لعدم توافر السلع وهبوط أداء الخدمات كل ذلك أدى لنقص كبير في المنتجات وتضخم السوق السوداء، وفقدت العملة الألمانية جزءا كبيرا من قيمتها ما تطلب من الشعب الألماني تضحيات كثيرة، التحول اللافت للدولتين كان التخلص من فكرة القومية لصالح فكرة السوق الحرة والمجتمع الليبرالي متفقين في ذلك مع كل ما تم في أوروبا والولايات المتحدة، هذه هي عقلية الدول في الصف الأول، والعقلية المصرية لا تختلف إطلاقا عن ذلك، فهي دولة يقال عنها أنها أم التاريخ، وعليها أن تظل كذلك، وأن تعيد صناعة التاريخ أيضا.

 

دعونا نرى ماذا فعل محمد علي والخديو إسماعيل لإعادة بناء مصر وكانت فكرة القومية تتشكل في هذا الوقت، ألا نعود قليلا للوراء لنرى ما فعله محمد علي (باني نهضة مصر الحديثة على الرغم من الاختلاف بين بعض المؤرخين في ذلك)، وهل لم تواجه مصر تعنتات بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا والباب العالي العثماني عام 1840 في معاهدة لندن لدعم الدولة العثمانية للحد من توسعات محمد علي وتحجيمه وتوقيفه، كيف دمروا أسطوله وكيف تم تقييد حركته  وقواته، ولم تكن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيها الانتباه لما يمكن أن تقوم به مصر إلى زاد قوتها عن الحد المسموح، وبالمناسبة كانت المرة الأولى في  حمص وبيلان وقونية، وهو تاريخ مجيد، إذن أين كانت مصر وأين أصبحت وماذا عن الغد؟ وكيف تفكر السلطة السياسية المصرية؟ أم أن ما يحدث وما حدث للناس - عبر أكثر من نصف قرن من الممارسات السياسية والاستراتيجية ولا يمكنك فصل الأمرين عن بعضهما -  هو ما يقود قرارات رئيس الجمهورية؟ إن تاريخ مصر هو قدرها! .. لا يمكنك الهروب من تاريخك أبدا فقد اصبح جزءا من هويتك!

جسنا، هنا يجب أن تدخل الهوية على الخط، نعلم جميعا أن الحديث عن الهوية المصرية مر بكثير من المحطات التاريخية، فمن الهوية الفرعونية والقبطية والإسلامية والعربية وهوية البحر المتوسط وهوية القومية التي تبنتها المدرسة التاريخية، والحديث عن هوية متعددة الأبعاد والسمات اللغوية والدينية والتاريخية والثقافية، لابأس أن نحتفظ بذلك، لكن لم تعد تلك الهوية التي تم الحديث عنها ببساطة وكلاسيكية مفرطة إلى حد السذاجة، لم تعد الهوية أمرا ثابتا، أصبحت الهوية أمرا مرنا قابلا للتغيير المرحلي، أصبحت الهوية تتكون من مجموعة من السمات (الثابتة) والمصالح (المتحركة)  التي يجب أن تبحث عنها الدولة في وجودها الآني وتطلعاتها للمستقبل، وهو ما يستدعي كثيرا من التغييرات خاصة وأنك تعيش في محيط من الانحيازات والضغوطات الصعبة، وفي كل ذلك نسينا أن هناك بلدا لم يخطط لمستقبله بشكل جدي منذ عقود نتيجة حروب وصراعات، وأوهام سياسية في ظل عالم مكون من عدة أقطاب لايمكن أن تنجح فيه وحدك، وهذا أمر جديد لم يكن مخططا له من قبل، وهنا أيضا يتدخل نوع من البرجماتية السياسية، لم يعد اليسار يسارا ولا اليمين يمينا، أصبح هناك يمين متطرف إلى حد التغول يجتاح أوروبا، وأصبح هناك يسار جديد لم يكن موجودا من قبل بدأ يظهر بين طلبة الجامعات في الغرب بعد أحداث غزة، وهو ما يحتاج إلى الانتباه.

ان مشكلة مصر في العقد الأخير هي أن هناك أحداثا ووقائع كبيرة ومتلاحقة تحمل كثيرا من المضامين الإيجابية المتعلقة بالطريق المصري نحو المستقبل، فهل لا يرى البعض قيمة ما يحدث على أرض مصر؟ أو أن هناك من يتعمد إفشال الحالة الفريدة لمصر؟ هل الحوادث الجانبية هي ما يلفت النظر فقط؟ أم أن الطاقة النووية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الخضراء والنهر الموازي والتوسع في الرقعة الزراعية، والمدن الجديدة، والعاصمة الجديدة الموازية، والمشروعات العملاقة مثل مركز البيانات، أو المحاولات المستميتة من أجل الاكتفاء الذاتي او قناة السويس وتوسعاتها ومشروع منخفض القطارة والمصانع الضخمة بجانب آلاف الكيلو مترات من الطرق والمواصلات والجسور، وتجديد الموانئ، وافتتاح المطارات، هل كل ذلك لا يرى؟ هذه المشروعات المتعلقة بالآن وغدا ألا تلفت النظر؟ ألا يلفت النظر الثمن الذي ندفعه جميعا من أجل إعادة البناء وعبور منطقة الكلاسيكية والحداثة إلى ما بعد الحداثة لبناء نموذج ناجح لمصر مستقل بذاته؟.

هنا أعود إلى أن الهوية المصرية (ثابتة السمات) يعاد تشكيل (مكونها المتحرك) بشكل مختلف لا يحتمل الأرجاء ولا يحتمل العبث، ومن الوارد أن تكون هناك أخطاء، ومن الوارد أن هناك من يتعامل مع ما يحدث باستخفاف، فلا توجد أسرة في التاريخ يتشابه جميع أعضائها، لكن مصر في تحول كامل من أجل المستقبل، ويمكن الآن ببساطة إعادة النظر في موزاييك الهوية المصرية لنكتشف أننا نمضي قدما إلى الأمام.