شغل عدد من الكتاب والمفكرين بالبحث في هوية مصر والشخصية المصرية، وكان الأمر ملحا بالنسبة لهم، أمام الانتقادات الحادة للمصريين والانتقاص من قدرهم، زمن الاستعمار والاحتلال الأجنبي، لذا وجدنا قاسم أمين يضع كتابه عن المصريين باللغة الفرنسية، قبل أن يكتب تحرير المرأة، كان كتاب قاسم ردا على مزاعم دوق دراكولا، الذى رمى فيه الشعب المصرى بأبشع وأحط الأوصاف.
وفى كتابه عن سعد زغلول صدر سنة 1938، وضع عباس العقاد فصلا مطولا عن الشخيصة المصرية مدافعا ومفندا انتقادات بعض الأوروبيين، وعلى هذا الطريق امتدت الدراسات والأبحاث التاريخية والاجتماعية والنفسية، وازدادت فترة ما بعد هزيمة يونية 1967، وإلى اليوم تبدو الشخصية المصرية محيرة للبعض، خاصة أولئك الذين لا يعرفون هذا البلد حقا وصدقا وأولئك الذين تحتدقوا خلف فكرة أو أيديولوجية بعينها، لفهمهم عن التفكير والبحث الأمين والنزيه.
أما هوية مصر فقد شغلت الكثيرين منذ حملة نابليون سنة 1798 ثم مع صعود محمد على وتأسيس الدولة الوطنية الحديثة، كان السؤال حول الهوية مقصودا به تحديد مدى علاقتنا بالعالم من حولنا، تحديدا الدولة العثمانية وكانت صاحبة السيادة على مصر سنة ١٥١٧، وكذلك علاقتنا بمحيطنا في وادى النيل وفى العالم العربى ثم في أوروبا، مع حملة نابليون بدأ اكتشاف الآثار المصرية القويمة وظهور علم المصريات، ولم يعد التاريخ المصرى القديم يذكر كجملة اعتراضية في بعض الكتب وليس هو تاريخ المساخيط والأصنام على حد تعبير المؤرخ تقى الدين المقريزى في خططه، تبين أن التاريخ القديم ممتد وعميق ثم أنه مدعاة للفخر وللاعتزاز وليس وسيلة للإدانة أو التبكيت.
أما شخصية مصر وهويتها فقد كانت موضع بحث جاد، خاصة مع تجربة الخديو إسماعيل في التحديث والنهضة، وتحديدا عند افتتاح قناة السويس سنة 1869، كان افتتاح القناة يعنى أن العالم كله سوف يمر من هنا، وكان معناه أن الأجانب لديهم فرص واسعة للتواجد في مصر، خاصة في المدن التي كانت قيد التأسيس هناك مثل الإسماعيلية وبورسعيد، ولذا وجدنا رفاعة رافع الطهطاوى يصدر كتابه المهم مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، وفيه يتحدث باستفاضة عن مكونات مصر وموقعها الجغرافى وتاريخها الممتد، وطرق التعامل مع الأفكار الحديثة، وكان ذلك الكتاب فاتحة لكتب ودراسات عديدة لم تنقطع إلى يومنا هذا، ومع كل مرحلة مرت بها مصر كان سؤال الهوية يتجدد ويعاد التردد بيننا، بعد توقيع معاهدة سنة 1936 كنا على أبواب الاستقلال التام صدر كتاب د. طه حسين مستقبل الثقافة في مصر الذى يبحث تكوين الدولة المصرية وعلاقات مصر بالعالم، الدائرة العربية والإسلامية والدائرة الشرقية عموما ثم الدائرة المتوسطية، أثارت الأخيرة حفيظة خصومه وعدوه معاديا للعروبة، ولم يكن ذلك دقيقا.
هذه كلها اجتهادات فكرية وثقافية تخص أصحابها في المقام الأول، ولم يكن لأى منهم صفة رسمية ولا هو محسوب على جهة سياسية بعينها، بل تيارات فكرية وهموم وطنية.
في أكتوبر سنة 1953، بعد إعلان الجمهورية مباشرة، أصدر جمال عبدالناصر، -ولم يكن قد أصبح رئيسا للجمهورية، كان الرجل الثانى في مجلس قيادة الثورة، بعد الرئيس محمد نجيب-، أصدر كتابه "فلسفة الثورة"، يعد هذا الكتاب الوثيقة الأولى لثورة يوليو 1952.
حدد كتاب فلسفة الثورة دوائر ثلاث تتحرك فيها مصر، هي الدائرة العربية والدائرة الإسلامية، والدائرة الإفريقية، تحركت مصر على هذا النحو، عبر جامعة الدول العربية، وكنا نحن أبرز مؤسسيها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنظمة الوحدة الأفريقية وكنا نحن كذلك من المؤسسين الكبار ومنظمة المؤتمر الإسلامي.. لكن هذا لا يعنى أن علاقاتنا انقطعت مع بقية العالم، كانت لنا صلات قوية بأطراف عديدة.
على المستوى الداخلى جرى الاهتمام بتاريخ مصر في مراحله العديدة، التاريخ القديم ثم المرحلة الرومانية بكل ما فيها وبعدها المرحلة الإسلامية والعربية، وصولا إلى الحقبة المعاصرة.
شهدت هذه الفترة جدلا ثقافيا وفكريا واسعا، حول ترتيب الأولويات، خاصة بعد تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، سنة 1958، ومع الوحدة تحول اسم مصر من "الجمهورية المصرية" إلى "الجمهورية العربية المتحدة"، اغضب تغيير الاسم فريقا من الباحثين، المثقفين والشخصيات العامة، واعتبروه استهانة وتضحية بما هو وطنى لحساب مصالح فكرة القومية العربية، لذا وجدنا في العام التالى للوحدة د. حسين فوزى يصدر كتابه المهم "سندباد مصري" كان الكتاب يتناول تاريخ مصر مع التركيز على الروح والطبيعة المصرية في مواجهة الغزوات الأجنبية، بدءا من الهكسوس والغرب ثم الرومان، وكيف أن الروح المصرية تغلبت على كل هؤلاء المحتلين قاومتهم وانتصرت عليهم، كان الكتاب صرخة اجتماع قوية ومؤثرة.
انتهت الوحدة سنة 1961 ولكن بقى اسم مصر بعيدا عن المسمى الرسمي وذلك آثار الكثير من الغضب، وتجدد النقاش حول ما هو وطنى محض وما هو قومى وعروبى، في تلك الفترة بدأ د. جمال حمدان يكتب فصول كتابه "شخصية مصر" ونشرت على صفحات مجلة "المجلة"، التى كانت تصورها وزارة الثقافة برئاسة تحرير يحيى حقى العديد من الدراسات والمقالات في هذه القضية، اكمل د. حمدان فصوله وصدرت في كتاب سنة 1967، أصدرته دار الهلال في سلسلة "كتاب الهلال" العريقة، عدد 5 يوليو، أي بعد الهزيمة بشهر واحد فقط، وهذا ما جعل البعض يتصورون أن الكتاب وضع رداً على الهزيمة، الحق أن أولى فصوله نشرت سنة 1962، بعد الانفصال بين مصر وسوريا بعام، ولذا نجد في الكتاب مناقشة مطولة للمصرية وللعروبة، وأنه لا تضاد ولا تصارع بينهما، بل كل منهما يكمل الآخر ويدعمه، على العكس من تصور د. حسين فوزى وفريق من المفكرين والكتاب في مختلف التخصصات.
مضت سنوات، وجرت تحولات سياسية وفكرية كثيرة في العالم وحولنا، في سنة 79 كانت الثورة الإيرانية، وجرى الغزو السوفييتي لأفغانستان وبروز تيار الإسلام السياسى والعنيف، خاصة مع توقيع معاهدة مصر للسلام سنة 1979 وما ترتب عليها من مقاطعة عربية لمصر، هنا عاد السؤال القديم حول هوية مصر وأخذ شكلا حادا، فى تلك الفترة طالب توفيق الحكيم بما أسماه "حياد مصر"، أى ابتعاد مصر عن كافة القضايا والارتباكات الشائكة، وفى مواجهة المقاطعة العربية لمصر طالب تيار آخر بأن نقاطع نحن العرب والعروبة، هؤلاء عم من أطلق عليهم الراحل رجاء النقاش "الانعزاليون فى مصر"، وذهب فريق إلى أن تكون الرابطة والهوية الدينية هى الأساس.
كان هناك أزمة هوية منذ منتصف السبعينيات.وعرفنا ظاهرة الإرهاب التي راح ضحيتها الرئيس السادات نفسه، ثم طال الرصاص عددا من رموز الدولة والشخصيات العامة، حتى وصلنا إلى سنة 2011، ثم صعود جماعة حسن البنا إلى سدة الحكم سنة 2012 وقيام ثورة 30 يونيو 2013، كانت الثورة صيحة غضب وقلق على الهوية المصرية التي كانت مهددة بالفعل، وكان على تلك الثورة وما ترتب عليها من خطوات وقرارات يوم 3 يوليو 2013 أن تضع النقاط على الحروف مجددا فيما يخص الهوية المصرية.
تتحدد الهوية داخليا أولا، وهكذا إذا كان المصريون ثاروا ضد الفكرة الإخوانية، دولة المرشد، بالأحرى اللا دولة، فقد كان لابد للدولة أن تكون وطنية ويترافق مع الوطنية المدنية وفى هكذا دولة لا مبرر لحدوث احتدام طائفى، المواطنة هي أساس التعامل بين المواطنين والعلاقة مع الدولة، لذا وجدنا سنة 2016 قانون حرية بناء دور العبادة، وإلى يومنا هذا يثير أعداء المواطنة أزمات حول تهنئة المواطن غير المسلم بعيده، رغم أن المؤسسات الدينية في مقدمتها دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف يكونان أول من يهنىء قداسة البابا، علاقة المواطنة لا تقبل تهميشا للإنسان وفق اعتبار دينى أو مذهبى، ولا وفق موقعه الجغرافى، فإن كان في الريف أو الصعيد يتم تهميشه، وإن كان في مناطق حدودية يتم تجاهله، الدولة لكل مواطنيها لاتهميش على أساس عقائدى ولا على أساس مناطقى، ولا وفق اعتبار الجنس (رجل / امرأة) ولا كذلك وفق العمر (شباب /شيوخ)، الدول الوطنية دولة كل المواطنين على أرضها بالعدل والانصاف.
أما مدنية الدولة فتعنى عدة أمور، أنها دولة الدستور والقانون، لا أحد فوق القانون ولا فوق المساءلة، القانون يضمن للجميع حقوقهم، ويمكن أن يكون القانون قائما ولكن لا يتم الاحتكام إليه والتصرف خارجه أو البحث عن ثغرات فيه للالتفاف عليه ويصبح بلا فاعلية، وفى عقود سابقة كان هناك محترفون تخصصوا في النفاذ من تلك الثغرات، بما أضعف الدولة فعليا، والمعنى هنا أنه من المهم وجود مؤسسات قوية تحافظ على القانون ومدنية الدولة روحا ونصا.
وقد يرى بعضنا أن مشروعا مثل الأسمرات والتخلص من بؤرة الدويقة والعشوائيات مجرد مشروع عمرانى فقط، أنه في صميم الحفاظ والتمسك بالهوية المصرية، القائمة على المواطنة الكاملة ونفس الأمر بالنسبة لمشروع حياة كريمة.
ويرتبط بذلك تحديد الهوية جغرافيا، فكان الاهتمام بالحدود المصرية كلها، غربا وشرقا، شمالا وجنوبا، مع الاهتمام بتلك المناطق، تم تجاهل شمال سيناء طويلا وكذلك المناطق الغربية، فامتدت يد التنمية والتعمير إليها، واكتشفنا حجم التنوع الثقافي والانثروبولوجى المصرى، في جنوب سيناء وجدنا الشعر النبطى وفى الغرب عرفنا أن هناك أمازيغ مصريين، وفى الجنوب تم تسوية حالات أبناء النوبة والتعويضات المقررة لهم. تنوع ثقافى وسكانى تستوعبه الوطنية المصرية، القادرة على صهر الجميع وهضمهم في الروح والمكون المصرى العميق.
على المستوى الخارجي فإن الرئيس السيسى ومنذ خطاب التنصيب الأول، يونيو 2014، أضاف إلى الدوائر الثلاث القديمة الدائرة المتوسطية، وفضلا عن ذلك أعاد إحياء الاهتمام بالدائرة الافريقية وكان تم الابتعاد عنها قليلا منذ محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا سنة 1997.
كان الاهتمام بالدائرة المتوسطية حلما وتطلعا رواد رفاعة الطهطاوى ثم طه حسين وحسين فوزى وغيرهما، لكن منذ سنة 2014 صارت حقيقة في سياسة مصر الخارجية والتحرك الدولى، تم توثيق علاقاتنا باليونان وايطاليا وسائر الدول المتوسطية، وإلى جوار ذلك تنشيط علاقاتنا بالشرق الأقصى، الصين تحديداً.
باختصار سؤال الهوية ليس سؤالا معلقاً، ولا يتم الإجابة عنه مرة واحدة وأخيرة، لكن الهوية قضية منفتحة، قابلة للدراسة والتوسع، والأهم من ذلك هو الحرص عليها والوعى بها.