تجمع مسيرة الأديب نشأت المصري بين الشعر والرواية والمسرح والكتابة للبرامج الإذاعية والتليفزيونية والأعمال الدرامية، والطفل، ولنشأته دور بارز في مسيرته الإبداعية وعلى مدار خمسين عامًا من هذه المسيرة اهتم المؤلف بالجانبين النفسي والإنساني فى معظم كتاباته الروائية والشعرية.
تسلل الشعر إلى بعض معالجاته الروائية كما في "اللحن المكسور" فأضاف إليها جمالًا وعمقًا، ونبتت بعض كتاباته من تأثيرات المناخ الاجتماعي عليه كما في روايته "ملائكة فى الجحيم".
لكن يبقى التجديد فى التكنيك الروائي هدف يسعى إليه المصري، لتنطوي كل رواية على تجديد ما فى طريقة الحكي، الأمر الذي تناوله أكثر من ثمانين ناقدًا بالتحليل.
وفي شهادته التي يدلي بها لـ"دار الهلال" حول هذه المسيرة يتأكد أننا بصدد روائي يُعلي -في كتاباته- عناصر الجمال ومنابع القوة، وأن كل الحلول في نظره تبدأ من الإنسان أولًا.
يقول: "ولدتُ 27 أكتوبر في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، بقرية منية النصر بالوجه البحري، وكانت ثورة 23 يوليو في رحم المجهول، وظللت أهوى السهر والليالي الباردة حتى الآن، أمي سيدة مصرية ووعيها بالحياة أكثر مما تعلمته في المدارس، وكذلك أبي شوقي المصري العصامي الذى يعمل بالتجارة، حصد الكثير من الثقافة، فكان قارئًا نهمًا فى مختلف العلوم، على الرغم من تعليمه المتواضع، ورثتُ مكتبة لكبار أدباء العصر، وتابعتُ طفلًا وشابًا قدرات أبي فى تعامله مع الناس وكسب محبتهم، كما كنت رفيقًا دائمًا له فى جلسات الكبار، فتعلمت الحياة والحكمة، وكنتُ متناقض المشاعر بين الرغبة فى الانطواء للتأمل، وبين إقامة عالم جميل من الصداقة رأيته في أصدقاء المسجد، حيث استطعت معهم تلقي بعض العلوم الدينية".
ويشير: "فى المدرسة تعددت ينابيع العلم والأدب من خلال المكتبة، فعكفت على قراءة الاتجاهات المختلفة فى الفكر والأدب بالشرق والغرب، وأنشأت كشكولًا خاصًا بقراءاتي وأفكاري وإبداعاتي وأنا ابن 13 عامًا، وما زلتُ محتفظًا بهذا الكشكول الذي خصص الأستاذ الدكتور صبرى أبو حسين عنه مقالًا مطولًا، وأدهشه وأعجبه أن يحتوي على قراءات لأعمال شتى للغزالي، والجاحظ، ومحمد إقبال، وفى الوقت ذاته كتابات لبرتراند راسل، وشوبنهاور، وشكسبير، وغيرهم، إضافة إلى قراءات لعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، وفى المرحلة الثانوية كان التركيز على أشعار المتنبي، وإيليا أبو ماضي، ومحمود حسن إسماعيل، وقد تضمن هذا الكشكول الذى عكس الاهتمامات الأدبية المبكرة تجارب شخصية فى كتابة القصة، والشعر، والزجل، والمسرح، والأغاني الوطنية، والدينية".
ووفق المصري فإن جملة "لك مستقبل كبير في عالم الأدب" التي كان يكتبها مدرس اللغة العربية للأديب نشأت المصري فى نهاية مواضيع الإنشاء، ظلت الأيقونة التي تشجعه على مواصلة الكتابة، ليتفاعل منذ تلك المرحلة وما بعدها بشدة مع المتغيرات التي أصابت المجتمع بايجابياتها وسلبياتها.
يقول: "فى المرحلة الثانوية تعاظمت القراءة والكتابة معًا فى مجال الأدب توازيًا مع قراءات مستمرة فى شتى المعارف، فكنت عضوًا نشطًا فى المجموعة الأدبية التي تشكلت من شباب القرية، واتسمت بنشاط جماهيري ملحوظ، خاصة في مجال مسرح القرية، وامتد النشاط إلى العمل الاجتماعي، حيث نشر التآخي والمحبة بين الأطراف المتنازعة في القرية".
ويضيف: "فى المرحلة الجامعية تفرق أصدقاء الأدب بين شتى المدن، ونبغ العديد منهم فى الإبداع، كالأديب الروائي حسن محسب، والشعراء السيد ستيت، ويسري العزب، وحمدي شلبي، ومحمد عيد، والسيد شبانة، وفتحي أبو النور، والمفكر د.كمال حبيب.. إلى آخره، وتوازى الشعر مع القصة في المرحلة الجامعية وما بعدها، وشاركتُ فى أنشطة الجامعة الأدبية، واخترتُ تخصص الاقتصاد والعلوم السياسية في كلية التجارة بجامعة الإسكندرية، وتعددت كتاباتي بين القصة والسيناريو للتليفزيون، والدراما الإذاعية، والبرامج الدينية، وكذلك تأليف بعض الكتب الدينية، وشهدت هذه المرحلة بين 1967 وبداية القرن الحادي والعشرين تغيرات سياسية واجتماعية كبيرة، تسللت إلى العديد من الروايات والأشعار التي اتخذ معظمها شكل القصة الشعرية، فى تلك المرحلة عملتُ بالإعلام والصحافة الدينية، وصولًا إلى صحافة دينية عصرية يقبل عليها الشباب بديلًا للمنتج الغربي المعادي للإسلام".
ويكشف المصري أنه بعد بضع سنوات من التخرج في الجامعة تزوّج وأنجب ثلاث طبيبات، واستطاع البحث بشكل واقعي وعملي عن الفروق الفكرية والاجتماعية بين المجتمعات المختلفة من خلال زياراته لعدد من الدول العربية والأوربية، فنجح فى إقامة أكثر من منتدى أدبي، وهو الآن يولي اهتمامًا بالغًا بالجانب التاريخي والفلسفي في رواياته، مؤمنًا بضرورة التجديد المتوالي في رؤيتنا للتاريخ، وفي تكنيك القص، وتكثيف المعالجة الروائية بما يتلاءم وروح العصر، وفي ممارساته للكتابة يعتبر كل رواية مرحلة بذاتها من كل الجوانب، كما اتسمت اهتماماته بخطوط متوازية بين ألوان الإبداعات الأدبية، بينما طغت بعض الكتابات على غيرها فى بعض المراحل المتداخلة، من الشعر إلى عالم الطفل إلى الرواية، منذ بداية هذا القرن.
ويلفت إلى أنه في العقدين الأخيرين اهتم بالبعد التاريخي، والبحث عن أسرار القائد العربي أو الإسلامي الشاب، وصولًا إلى مواطن القوة التى تغيب أحيانًا عن فترات من حياتنا، فكان تركيزه على شخصيات شابة مثل أحمد بن طولون، ومحمد الفاتح فى "الأمير المناور"، و"قاهر الروم"، كما كتب أشعارًا كثيرة عن فلسطين وبطولات المقاومة، وعن عبد الرحمن الناصر، للكبار والأطفال، خاصة فى الديوانين "إلا هذا اللون الأحمر"، و"القلب والوطن"، وواصل الاهتمام بالرواية التاريخية، فألّف ثلاث روايات فرعونية اهتم فيها بالإنسان المصري البسيط، وصراعه ضد الفقر والقهر كما هو الحال فى رواية "بلباي"، واستمر هذا الهدف فى رواية "دماء جائعة" وهى الرواية العربية الأولى التى تتناول حياة الخليفة المهدي، وحال الحريات فى زمنه وكيف تماست ببعض ما يحدث الآن فى العالم العربي الذى يملك الكثير جدًا من مصادر القوة والتأثير لكن التفرق يطيح بهذه القوة لصالح التآمر الأمريكي والغربي.
ويؤكد أنه رصد الحياة الاجتماعية المعاصرة وإفرازاتها، وتشوه العلاقات الاجتماعية لأسباب اقتصادية وفكرية كما هو الحال فى رواية "كوتشينة"، التي تعد أول رواية عربية تتناول تأثير وباء الكورونا على الناس وعلاقاتهم، مستخدمة الفانتازيا لإبراز هذه التحولات السريعة، كما شرح الحالة النفسية لـ "المهزوز" ومن خلالها استعرض بعض سلبيات الحياة التى تعيدنا إلى الوراء.
كما يوضح المصري أن فى كتاباته اهتمام بعنصر جماليات الحياة ودورها فى الارتقاء بمشاعر وسلوكيات الإنسان العربى، وهو ما طرحته رواية "اللحن المكسور" التى تكشف غياب بعض هذه الجماليات الضرورية عن حياتنا مقارنة بما حققه الإنسان الغربي، وقد أشار العديد من النقاد إلى أن هذه الروايات مكتوبة بطريقة تجعل تحويلها إلى أعمال سينمائية أمرًا ميسورًا، حيث تتبع الأسلوب المشهدي فى الكتابة، الأمر الذي يتبدى بقوة فى رواية "الكلاب لا تنبح عبثًا" التى فازت بجائزة إحسان عبد القدوس، وترجمها إلى الإنجليزية د.عاصم النجعاوي وأقيمت حولها دراسة ماجستير فى الجامعة الباكستانية للدارس الباكستاني بلال عامر، والتي تعالج مشكلة الأم الفقيرة التي تضحي بطفلها من أجل تطلعاتها المادية.
ويلاحظ الأديب نشأت المصري أن "كائن رمادي" التي هي أحدث رواياته أثارت جدلًا واسعًا كونها رواية فلسفية نفسية تطرح سؤالًا صعبًا حول المؤقت والدائم فى حياتنا، فبطلها وليد يبحث عن الدائم فى الحياة ويظل أسيرًا لحيرته، ويبدل كل شىء، ويخوض تجارب يتنقل فيها بين المدن والدول، ويرى بعمق ما تعنيه الثروة، لكن أمرًا ما جعل وليد يتخلى عن همومه الفلسفية المؤقتة، ومن خلال هذه الرواية يطرح المؤلف تساؤلات وحلولًا لمشكلات مصر الوجودية، وهي رواية عامرة بالتطورات المفاجئة، تغوص فى بعض جوانب الحياة وتبريراتها الفلسفية.
ويخلص إلى: "للمناخ الاجتماعي تأثيراته عليّ التي نبتت منها بعض كتاباتي، كرواية "ملائكة فى الجحيم" التى تدور محاورها حول عالم الطب والأطباء، وتقدم الوجهين الملائكي والشيطاني لبعض الأطباء، في ممارسة المهنة أو فى حياته العاطفية الخاصة".