لا يمكن القول إن الحداثة في القصيدة العربية المعاصرة بدأت بصلاح عبدالصبور أو بإنتاجه الشعري، ولكن يمكن القول إنه رسّخ مبادئها، وأعطاها شرعيتها الفكرية والإنسانية من خلال معظم كتاباته الإبداعية في الشعر والمسرح وحتى في النثر، وإذا أردنا أن نعطي فكرة عن أبرز سمات الحداثة الأدبية أو الشعرية الغربية كانت أم العربية نجد ذلك من قبل صلاح عبدالصبور بفترة طويلة، تعد من أهم فترات التحول في الفكر العربي، فعلى سبيل التمثيل ولد صلاح عبدالصبور عام 1931م، أي قبل وفاة «أحمد شوقي» بعام واحد، وإذا أخذنا هذه الملاحظة في الاعتبار نرى أن الاتجاه التجديدي في الشعر العربي بدأ بما يسمى مرحلة الإحياء العربي للقصيدة الحديثة، والتي قادها أحمد شوقي مقدّما صورتين من صور الحداثة العربية:
الأولى: المسرح الشعري، وهو الاتجاه الذي سلكه صلاح عبدالصبور.
الثانية: التجديد من داخل النسق العمودي، وهو الاتجاه الذي سلكه صلاح عبدالصبور. ولكن بخروجه هو ومجموعة من شعراء العربية على النمط العمودي.
فمنذ مرحلة الإحياء بدأت إرهاصات الحداثة الأدبية العربية من خلال الصورة الكلية للنص، تخليًا عن ثقافة الصور الجزئية السائدة في القصيدة العربية، بل وتأسست عليها فكرة الثقافة العربية، لكن الوطن العربي مرّ بالكثير من الأوقات العصيبة والمتغيرات الاجتماعية والثقافية، مما أثر بشكل كبير على جمود الفكر العربي، وانفتح تدريجيا نحو التغيير.
من هذا المنطلق يمكن القول إن صلاح عبدالصبور استطاع أن يقدم مجموعة من الإنجازات المهمة من خلال إنتاجه الشعري تختلف عما قدّمه المجددون من الشعراء العرب في عصره أمثال البياتي والسياب ونازك الملائكة، هذه الإنجازات يتصل بعضها بطريقة التفكير داخل النص الشعري، ويتصل بعضها بطريقة التشكيل الشعري، وبعضها يتصل بما يؤمن به الشاعر من ضرورة الخروج بالنص الشعري من حالة الجمود الشكلي الذي أصاب القصيدة العربية إلى حالة أكثر تحررا في الشكل والمضمون، ويمكن أن نحصي في هذه المقالة القصيرة بعض أدوات تحديث النص الشعري في قصائد صلاح عبدالصبور على النحو التالي:
التشكيل الكلي للقصيدة العربية:
التقط صلاح عبدالصبور من شوقي ورفاقه مجموعة من أدوات تحديث النص التقاطًا واعيا، فالفارق الأكبر بين القصيدة العربية خاصة والثقافة الغربية عامة هو تعبير الأولى بالجزء، والأخيرة بالكل، ولو لاحظنا كيف بدأت الحداثة الغربية والمناهج التي تبعتها بداية من حركة الشكلانيين الروس، ومرورا بالنظريات الأدبية ومناهج التلقي والتفكيك والنقد الثقافي، وغيرها من الموضات الأدبية التي مر بها المجتمع الثقافي الغربي أولا ثم العربي ثانيا، نجد أنها أجمعت على أن يكون النص الشعري كلّا متكاملا، بناءً متولدًا عن بناءٍ أكبر، صورة واحدة، وأن النص ليس نصا من الفراغ، وإنما هو هضم واكتشاف للنصوص التي سبقته وتناص حتمي بفعل الضرورة الأدبية، وسردية الفعل داخل الثقافة التي يمثلها، ومن هنا استطاعت هذه المناهج أن تقدم نماذج من التطبيق الأدبي يتماشى مع فكرة التشكيل الموحد، والصورة الاجتماعية التي تعكس بالضرورة أيضا الحالة الفلسفية التي سبقت المنهج والتي تأثر بها المنهج، وإذا تناولنا على سبيل التمثيل فكرة "موت المؤلف" في المنهج البنيوي، نجد أن الفكرة متأصلة في الفلسفة الأوروبية بداية من نيتشة، ومتأصلة في الفكر الأدبي الأوروبي بداية من الفرنسي "مالارميه"، يقول رولان بارت في كتابه "هسهسة اللغة":
"ولقد كان مالارميه هو أول من رأى في فرنسا، وتنبّأ بضرورة وضع اللغة نفسها مكان الذي اعتُبر إلى ذلك الوقت مالكا لها، فاللغة بالنسبة إليه كما هي الحال بالنسبة إلينا، هي التي تتكلم وليس المؤلف، وبهذا يصبح معنى المؤلف هو بلوغ نقطة تتحرك فيها اللغة وحدها وليس "الأنا"، وفيها تنجز الكلام، وسيكون ذلك عبر موضوعية أولية، لا تختلط في أي لحظة من اللحظات مع موضوعية الروائي الخاصة، فشعرية "مالارميه" جميعا إنما تقوم على حذف المؤلف لمصلحة الكتابة".
وبالتالي فإن انبثاق التفكير الأدبي من التفكير الفلسفي في الفكر الغربي لم يكن وليد الصدفة، وإنما كان جزءًا من التفكير الثقافي العام في المجتمعات الأوروبية، ولكن ما حدث في الثقافة العربية يختلف اختلافا بيّنًا عما حدث في الثقافة الغربية، وذلك أن التطور الذي لحق بالنص الشعري كان تطورا منعزلا عما حدث في الثقافة العربية في كل أدواتها، وبالتالي فقد سبق النص الأدبي العربي الفكرة الفلسفية حتى أصبح المثقف هو من يحمل هم تطوير النص وليس المفكر، وأصبح فكر الشعراء هو الفكر المؤسس لهم وليس الفكر التابع للفكر الفلسفي كما كان في الغرب.
من هنا أصبح عبء الحداثة يحمله الأدباء دون غيرهم، وقد ظهر في الشعر بداية من حركة التجديد الأولى التي قادها أحمد شوقي، ووصولا إلى حركة التجديد الثانية -وهي الأكثر تأثيرا- والتي قادها صلاح عبدالصبور، ونستطيع القول إن القصيدة تحولت إلى صورة واحدة من صور الإدراك الفني والذهني في نفس الوقت، وأصبحت القصيدة مرجعًا فكريا للمرة الأولى في تاريخ الشعر العربي، ولم تعد مجرد وصف وتداعيات وصور بيانية يمكن أن تحذف منها ما تشاء، وأن تترك ما تشاء، وقد ظهرت هذه الصور الكلية منذ ديوانه الأول "الناس في بلادي" وحتى ديوانه الأخير "أحلام الفارس القديم"، وتجلت أيضا في مسرحه الشعري، والذي قدم قضايا إنسانية وفكرية وتراثية دفعت المجتمع الثقافي العربي إلى الحراك الفكري.
ثقافة القصيدة عند صلاح عبدالصبور
يقول الشاعر في كتابه "حياتي في الشعر":
"شغلتُ في السنوات الأخيرة بفكرة التشكيل في القصيدة، حتى لقد بت أؤمن أن القصيدة التي تفتقد التشكيل تفتقد الكثير من مبررات وجودها. ولعل إدراكي لفكرة التشكيل لم ينبع من قراءتي للشعر بقدر ما نبع من محاولتي لتذوق فن التصوير، وهي محاولة جاهدة، أعانتني عليها رؤيتي لكثير من متاحف العالم الكبيرة....
وتنبع فكرة التشكيل من الإقرار أن القصيدة ليست مجرد مجموعة من الخواطر أو الصور أو المعلومات، ولكنها بناء متدامج الأجزاء، منظم تنظيما صارما".
يتضح من هذا الموقف أن صلاح عبدالصبور هو الذي كوّن ثقافته الشعرية بنفسه، واستطاع أن يصل إلى هذا المستوى الشعري من خلال إنجاز فني يتصل بتراسل الفنون، على غرار تراسل الحواس، وأن فكرة البناء فكرة منهجية حديثة، قامت على أسسها أعرق النظريات الأدبية المعاصرة، ربما فعل الشاعر ذلك لعدم وجود نظرية أدبية عربية يمكن الركون إليها، فالتراث العربي لم يصل إلى نظرية أدبية، وربما قد وضع أسسها، لكن هذا الإنجاز لم يتم تطويره مطلقا لا في النحو ولا في الصرف ولا في البلاغة، الإنجاز الوحيد الذي تم تطويره هو النظرية الإيقاعية في الشعر العربي، بما مرت به خلال مئات السنين من مراحل تطوير بداية من العصر العباسي، ومرورًا بالعصر الأندلسي، ثم العصر الحديث، ووصولا إلى صلاح عبدالصبور، وما بعده.
وإذا أردنا أن نعطي نموذجا تطبيقيا في هذا الباب، نجده في ديوان "شجر الليل" وهو ديوانه ما قبل الأخير، وقد طبّق فيه هو وديوانه الأخير "أحلام الفارس القديم" مفاهيمه عن القصيدة العربية والتطور الذي لحقها، يقول الشاعر في قصيدة "تأملات ليلية":
(4)
الظلمة تهوي نحو الشرفة
في عربتها السوداء
صلصلة العجلات الوهمية
تتردد في الأنحاء
خدم الظلمة والأجراء
طافوا من حول المركبة الدخانية
يلقون بذور الوجد الخضراء
عينا القمر اللبني الشاحب
بكتا مطراً فوق جبيني المتعب
بكتا حتى ابتل الثوب
آه، يلذعني البرد
فلأهرع للغرفة
لم أدرك أني عريان
إلا الآن
(5)
أرتد إلى هذي الفكرة كل مساء
مثل صدى يرتد إلى الصوت
مثل النهر إلى البحر
تتشكل أحياناً في أقنعة
متشابهةٍ، متغيرةٍ، كالأيام
أو كالموت
تتجول في جسمي مثل دمي.
ربما لأول مرة كما ذكرتُ آنفا منذ أبي العلاء المعري، تتحول القصيدة في تشكيلها الكلي إلى فكرة، والفكرة تتحول إلى مفهوم، والمفهوم يتحول إلى تشكيل. ومن هنا يمكن القول إن تحول القصيدة إلى الجانب الفكري مع إدراك أن لغة التداعيات الشعرية أصبحت لغة مستهلكة جاهزة، وأن القصيدة العمودية ضاقت -على الأقل من وجهة نظر الشاعر والعصر الذي يمثله- عن استيعاب المفاهيم المنهجية وبخاصة البنائية، فيما يسهل بناء القصيدة، كان من الضروري الوقوف على أدوات أخرى لإحياء القصيدة، ولننظر كيف اعتمد الشاعر على مرتكز دلالي واحد، ثم فصّله تفصيلا لا ينتمي إلى الدلالة نفسها فحسب، بل ينتمي إلى نوع من التفكير بالصورة، وبالدراما، وبالسرد الشعري القائم على تجاوز نمط التشكيل من صورة بيانية لا يتعدَّى المعنى فيها سطرا واحدا في القصيدة القديمة، أقصد بيتا واحدا، ويمكن حذفه لأنه لا يرتبط بالبيت الذي يسبقه أو الذي يليه، وإن كنتُ قد أشرتُ في البداية أن صلاح عبدالصبور التقط فكرة الحداثة الشعرية من حركة التجديد على يد أحمد شوقي، وذلك يعد عنتًا لتراث الشعر العربي؛ لأن فكرة التجديد بدأت مع شعراء نابغين في تاريخ الشعر العربي بداية من أبي العلاء المعري، والمتنبي، وبشار بن برد، وأبي نواس، وصولا إلى الأندلسيين الذين أسهموا بقدر ما في تطوير النص.
صوفية القصيدة
لعل التطوير في الفكر الشعري العربي كان فقط يحتاج إلى من يعي التأمل في اللمحات التي تضمنّها تراث الشعر، حتى جاءت لحظة كان لابد من تقديم نص مختلف يدرك فكرة التطوير، ولا يجحد الآخر، يتجادل مع النص، مع العالم. ولأن صلاح عبدالصبور وهو يقود حركة التطوير في القصيدة العربية كان مولعا بالفكر الصوفي، جاءت بعض نصوصه عبارة عن إشارات ومحاولات لغوية يمكن أن نسميها رموزا، ويمكن أن نسميها طفرة، أو نسميها بلاغة شعرية، وبالأخص في قصائد مثل (مذكرات الملك عجيب بن الخصيب، ومذكرات الصوفي بشر الحافي) من ديوان "أحلام الفارس القديم".
يقول الشاعر
ولأنك لا تدري معنى الألفاظ،
فأنت تناجزني بالألفاظ
اللفظ حجر
اللفظ منيّة
فإذا ركّبت كلاما فوق كلام
من بينهما استولدتُ كلام
لرأيت الدنيا مولوداً بشعاً
وتمنيت الموت
أرجوك..
الصمت..
الصمت!
شيخي بسام الدين يقول:
“يا بشر.. اصبرْ
دنيانا أجمل مما تذكر
لا تبصر إلا الأنقاض السوداء”.
كان السرد الشعري في هذا الوقت مجرد قال، وقلت، ولكن صلاح عبدالصبور أعطى للقصيدة العربية متنفسا جديدا، فالتمس الشعراء من بعده هذا الخيط ليصبح نموذجا شعريا بارزا في تاريخ القصيدة الحديثة، كما جاء عند الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي، والمصري أمل دنقل، فقد نقلوا المعنى والدلالة والتشكيل من اللفظ إلى الصورة، ومن الصورة إلى المسكوت عنه، ثم إلى الحواس الخمسة للإنسان، وليس لحاسة السمع والبصر فقط. هكذا وضع صلاح عبدالصبور لبنة التطوير في القصيدة المعاصرة، وفعل ما لم يفعله المفكرون والفلاسفة، وكأنه كان يمهد لنظرية في السرد الشعري العربي المعاصر.