الثلاثاء 6 اغسطس 2024

تجديد الخطاب الثقافي المصري


أحمد فضل شبلول

مقالات5-8-2024 | 13:30

أحمد فضل شبلول

ونحن نتحدث عن تجديد الخطاب الثقافي، هل لا بد لنا من العودة إلى كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» للدكتور طه حسين الذي نُشر عام 1938، ووصية د.جابر عصفور «استراتيجية مصر الثقافية» التي طُبعت في عام 2022 بعد رحيله تحت عنوان «وصية جابر عصفور– استراتيجية مصر الثقافية»؟ أم ننطلق بعيدا عن هاتين الرؤيتين لأنهما قد لا تمثلان حاليا الرؤية المستقبلية لصناعة الثقافة بعد التطورات الكبرى والفرص العظمى التي يتيحها لنا الحاضر، وليس المستقبل، عن طريق أدوات الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال؟

في واقع الأمر، سنحتاج إلى هاتين الرؤيتين، وغيرهما من الرؤى التي شارك بها عدد من مثقفينا ومفكرينا في العديد من الكتب والمؤتمرات والملتقيات والندوات التي عقدت من أجل التباحث في هذا الغرض، لننطلق نحو ما يسمى "تجديد الخطاب الثقافي" لنرى كيف كنا وكيف أصبحنا، وما هي الأدوات التي تساعدنا على إنجاز هذا التجديد، لأن الثقافة على وجه التحديد هي العنصر البشري الذي لا ينمو فجأة، ولكن يأتي نتيجة تراكمات إنسانية وخبرات بشرية، منذ فجر التاريخ وحتى اللحظة الراهنة.

سنحتاج مثلا إلى الاطلاع على قانون إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون عام 1956 لأن هذا المجلس المنوط به رسم الخريطة الثقافية، أو وضع السياسة الثقافية العامة في مصر.

فقد صدر في 30 / 1 / 1956 قانون "إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، كهيئة مستقلة ملحقة بمجلس الوزراء، تسعى إلى تنسيق الجهود الحكومية والأهلية فى ميادين الفنون والآداب"، وكان المجلس بهذه الصورة هو الأول من نوعه على المستوى العربى؛ الأمر الذى دفع العديد من الأقطار العربية إلى أن تحذو حذو مصر وتشكل مجالس مشابهة.

ثم أضيف إلى هذه الميادين، العلوم الاجتماعية، ليصبح اسمه "المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية"، وصدرت بعد ذلك اللوائح المنظمة لعمله.

والمفروض أن يقوم هذا المجلس بتنسيق جهود الهيئات الحكومية وغير الحكومية العاملة في ميادين الفنون والآداب، وربط هذه الجهود بعضها ببعض. ويبتكر وسائل تشجيع العاملين في هذه الميادين، ويعمل على الارتفاع بمستوى الإنتاج الفكري في مجالات الفنون والآداب؛ ويبحث عن الوسائل التي تؤدي إلى تنشئة أجيال من أهل الآداب والفنون يستشعرون الحاجة إلى إبراز الطابع القومي في الإنتاج الفكري المصري بشتى صنوفه ويعملون على التقارب في الثقافة والذوق الفني بين المواطنين مما يتيح للأمة أن تسير موحدة في طريق التقدم، محتفظة بشخصيتها وطابعها الحضاري المميز.

وعلى المجلس في سبيل ذلك أن:

(أ‌)يتقصى احتياجات البلاد في عهد نهضتها الحاضرة في نواحي الإنتاج الفني والأدبي ويتابع حالة هذا الإنتاج في البلاد ويستعرضها بصفة دورية.

(ب‌)يجمع البيانات عن جهود الهيئات الحكومية وغير الحكومية في نواحي البحث في الآداب والفنون ودراستها أو ممارستها.

(ج)يدرس السياسة العامة للدولة في تقويم تلك الجهود وتشجيعها والارتفاع بمستوى الكفاية الإنتاجية فيها وما يتصل بهذه السياسة من تشريعات أو قرارات أو ميزانيات، ويضع ما يلائم تحقيق هذه السياسة من الخطط والمشروعات.

(د)يعمل على تنشيط الجهود الفنية والأدبية للهيئات الحكومية وغير الحكومية بحيث تهدف متكاملة نحو الغاية القومية الموحدة وتتمشى والخطط والمشروعات التي يرسمها المجلس.

(هـ)يعمل على تحديد مقاييس الجودة ومعاييرها في مختلف نواحي الإنتاج الفكري في الفنون والآداب وتوحيد الأسس التي تقوم عليها المسابقات والإعانات والجوائز التشجيعية، كما يتولى منح هذه الجوائز والإعانات أو يشير بالرأي على الهيئات الحكومية التي تتولى منحها.

المادة (3): يرفع المجلس قراراته وتوصياته التي تتصل بالسياسة العامة للدولة في تشجيع الإنتاج الفني والأدبي وما يتصل بها من الأمور المالية والتشريعية إلى مجلس الوزراء لاتخاذ ما يراه بشأن إقرارها وتنفيذها.

المادة (4): للمجلس في سبيل تحقيق أغراضه أن يصدر توصيات إلى الهيئات الحكومية والأهلية العاملة في ميادين الفنون والآداب بما يتفق والسياسة العامة للدولة في هذا الشأن.

المادة (5): يصدر المجلس في موعد لا يجاوز شهر نوفمبر من كل عام تقريراً مفصلاً عن النشاط الفني والأدبي خلال الاثني عشر شهراً السابقة يستعرض حالة الوعي والإنتاج الفكري في مصر وما تم تنفيذه من مشروعات للارتقاء بمستوى هذا الإنتاج.

المادة (6): يؤلف المجلس من:

(أولاً) وزير التربية والتعليم رئيساً.

(ثانياً) ممثل لكل من الجامعات المصرية يختاره مجلس كل جامعة وأحد وكلاء كل من وزارات التربية والتعليم والإرشاد القومي والمالية والاقتصاد والشئون الاجتماعية والعمل.

(ثالثاً) عدد لا يزيد على ثمانية أعضاء من المشتغلين بالفنون والآداب يراعى في اختيارهم تحقيق أغراض المجلس يعينون بقرار من مجلس الوزراء بناءً على عرض من رئيس مجلس الوزراء ويجوز أن يكون بعضهم متفرغاً ويعين مجلس الوزراء سكرتيراً عاماً للمجلس من بين أعضائه المعينين ويشترط أن يكون متفرغاً.

المادة (7): يختار المجلس سكرتارية فنية من بين موظفي الحكومة وغيرهم تحت إشراف السكرتير العام. ويقدر المكافآت التي يمنحونها. وتقوم السكرتارية الفنية تحت إشراف السكرتير العام، بمعاونة المجلس ولجانه، بتحضير الأعمال ووضع التقارير والبحوث والبيانات والإحصاءات.

المادة (8): تكون للمجلس ميزانية خاصة للمرتبات والمكافآت وأعمال الإدارة والسكرتارية وتكاليف البحوث والاتصالات والدراسات التي يقوم بها أعضاؤه أو اللجان التي يؤلفها أو الأعمال التي يشترك المجلس فيها أو يعهد بها إلى الغير، وتكون ميزانية المجلس جزءاً من الميزانية العامة للدولة.

المادة (9): على رئيس مجلس الوزراء والوزراء كلٌ فيما يخصه تنفيذ هذا القانون ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.

وقد وقع على هذا القانون وقتها رئيس مجلس الوزراء جمال عبدالناصر حسين.

وحدثت بعد ذلك تعديلات وتنقيحات وانتقلت تبعية المجلس في عام 1969 لوزارة الثقافة. وفى عام 1980 تحول إلى مسماه الجديد "المجلس الأعلى للثقافة"، ويرأسه وزير الثقافة. ويتولى إدارته وتوجيه سياساته والإشراف على تنفيذها الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة.

ولم يكن الأمر مجرد تغيير فى المسميات بل تطور فى الدور والأهداف، فقد أصبح المجلس الأعلى للثقافة العقل المخطط للسياسة الثقافية فى مصر من خلال لجانه المتعددة التي تضم نخبة من المثقفين والمبدعين المصريين من مختلف الأجيال والاتجاهات.

وعليه فإذا كنا نود تجديد الخطاب الثقافي علينا أن نبدأ من هذا المجلس الذي يضم صفوة عقول مصر وكبار أدبائها ومثقفيها ومفكريها، وعلينا أن نعيد النظر في مواد إنشاء هذا المجلس الذي كان أمينا عاما له منذ سنوات قريبة، د.جابر عصفور الذي تولى وزارة الثقافة قبل رحيله، ووضع وصيته عن استراتجية مصر الثقافية.

إذن بقدر ما سوف نبتعد عن مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين (1938) التي عوَّلت على "التعليم" تعويلا كبيرًا، بقدر ما نقترب من رؤية جابر عصفور (2022) التي بدورها انطلقت من رؤية طه حسين الذي كان أستاذا لجابر عصفور.

وبقدر ما سنبتعد عن الرؤيتين حسين وعصفور، بقدر ما سوف نقترب من محاولة التجديد الحقيقي الذي أراه للخطاب الثقافي المصري.

بداية يجب الإشارة إلى أن جابر عصفور لم يكن وحده الذي صاغ أفكار هذا الكتاب أو هذه الوصية، فقد شارك في الرؤية 61 من صفوة عقول مصر ومثقفيها، تحت قيادة جابر عصفور عندما كان وزيرًا للثقافة، حيث وجد أن من أول مهامه في رحلته في المنصب –التي كان على يقين أنها قصيرة– أن يحدد نقطة البداية ويحدد الخريطة التي نسير عليها لكي تستعيد مصر عافيتها ثقافيا، لذلك خرج هذا العمل ليشكل استراتجية المنظومة الثقافية 2015 – 2030.

فهل نحن طبقنا تلك الرؤية أو وصية عصفور والذين معه، والتي قد تسهم في إجابات حاسمة ونحن نتحدث عن تجديد الخطاب الثقافي؟

الأمر الذي يجب أخذه في الاعتبار ونحن نتحدث عن هذا التجديد، هو الأدوات الحاسمة للذكاء الاصطناعي والتي سوف تسهم بقوة في بلورة هذا الخطاب الثقافي، بطريقة ربما لم تكن واضحة لدى المشاركين برؤاهم مع جابر عصفور، مثلما كانت معدومة تماما سواء في رؤية طه حسين، وأيضا في البنود المطروحة عام 1956 عند إنشاء المجلس، والتي تعمدنا ذكرها لنرى كيف كانت الرؤية وقتها، وكيف جرت الأمور في أعنتها، بعد ذلك، إلى أن وصلنا إلى النقطة التي نبحث فيها عن تجديد الخطاب الثقافي، والذي أراه مشابها لتجديد الخطاب الديني ونحن نراجع قانون إنشاء الأزهر الشريف على سبيل المثال.

فإذا كان قانون إنشاء الأزهر صالحا لكل زمان ومكان، لما احتجنا إلى البحث عن تجديد الخطاب الديني، والمنوط به الأزهر وغيره من الأطراف ذات العلاقة، وإذا كان قانون إنشاء المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة بعد ذلك) يفي بكل شيء، ما كنا نحتاج إلى التفكير في تجديد الخطاب الثقافي سواء من وزارة الثقافة أو الجهات الثقافية الأخرى ذات الصلة.

من تلك الجهات الثقافية ذات الصلة على سبيل المثال لجنة الثقافة بمجلس النواب، ما دور هذه اللجنة في مسألة تجديد الخطاب الثقافي؟ أعتقد أنه سيكون لها دور حاسم، لو شاءت العمل والتفكير، فهي تنتمي لجهة أو لسلطة تشريعية رسمية، بل إن ما سيقترحه المثقفون والمفكرون والآخرون من تعديلات ثقافية يجب الموافقة عليها من مجلس النواب، الذي سيحيلها بدورها إلى تلك اللجنة المتخصصة.

إذن نحن أمام دائرة، كل نقطة فيها تسلم للنقطة التي بعدها حتى نصل إلى اكتمال الدائرة لنغلقها، ولكن هل مثل هذه الأمور تحسم وتغلق وينتهي أمرها، أم هي في تجدد مستمر، وكشف يومي، وإضافة وإثراء مستمرين؟

إن الثقافة، ربما تكون الأسرع في التبدل والتحول والتغير والتحوّر، لأنها تعمل على أرض الواقع بطريقة تفاعلية، وبطريقة اليوم أصبحت أكثر انفتاحا على العالم كله، من خلال نظرية الفراشة، التي إذا رفرف جناحها في الشرق فسوف يتأثر الغرب بهذه الرفرفة أو العكس.

إذن الثقافة أصبحت الآن تخضع لنظرية الفراشة، فما أن يظهر تطبيق أو لعبة إلكترونية، في الصين أو اليابان، إلا ووصلت في التو والحال إلى إنجلترا وفرنسا وأمريكا، والعكس صحيح أيضا.

أليست هذه مظاهر، أو ظواهر ثقافية، علينا أن نأخذها في الحسبان، ونحن نناقش تجديد الخطاب الثقافي في مصر الآن.

أما الترجمة التي يعوّل عليها البعض منذ أن تنبه إلى أهميتها في بداية العصر الحديث رفاعة الطهطاوي بعد العودة من بعثته إلى باريس إمامًا للدراسين المصريين هناك، فأنشأ مدرسة الترجمة، فإن ترجمة جوجل وبمعاونة من أدوات الذكاء الاصطناعي أسهمت في حل هذه المعضلة، وكادت أن تقضي عليها تماما، خاصة مع دقة الترجمة من وإلى الكثير من اللغات الحية، واقترابها اقترابًا شديدًا، من عمل المترجم البشري.

ولكن هل هذا سيلغي دور المركز القومي للترجمة على سبيل المثال؟ أم على المركز في ضوء تجديد الخطاب الثقافي أن يبحث عن سبل أكثر فعالية من مترجم الذكاء الاصطناعي؟

علينا أن نؤكد في النهاية -ما أشار إليه جابر عصفور ورفاقه من قبل- أن تجاهل البعد الثقافي أو إرجاءه، قد يؤدي تدريجيا إلى انهيار أي مسارات تنموية مادية.

ولذا يجب على كل الجهات التي تتماس مع كلمة "ثقافة" بمعناها العام، أن تتضافر معا من أجل تجديد أو إحلال خطاب ثقافي حقيقي يعود بالنفع على المواطن المصري في أصغر وأبعد قرية مصرية، وهذه الجهات التي تضمنتها وصية جابر عصفور هي -إلى جانب وزارة الثقافة- وزارة التربية والتعليم، وزارة التعليم العالي، وزارة الشباب والرياضة، وزارة الأوقاف، وزارة التنمية المحلية، وزارة التضامن الاجتماعي، وزارة التطوير الحضري والعشوائيات، وزارة القوى العاملة والهجرة، وزارة الآثار، وزارة السياحة، وزارة الصحة والإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة، وزارة البيئة، وزارة الموارد المائية والري، ووزارة الاتصالات. فضلا عن التعاون المشترك مع الهيئات والمجالس القومية، مثل المجلس الأعلى للإعلام، والمجلس القومي للمرأة، والتعاون مع جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني.

وبذلك سنعود إلى قانون إنشاء المجلس، وخاصة فيما يتعلق بتنشيط الجهود الفنية والأدبية للهيئات الحكومية وغير الحكومية بحيث تهدف متكاملة نحو الغاية القومية الموحدة وتتمشى والخطط والمشروعات التي يرسمها المجلس، لنرى أنه لا يمكن الاستغناء أيضا عن الرؤى السابقة ونحن نتطلع إلى رسم خريطة تجديد الخطاب الثقافي لمصرنا الحبيبة.