الخميس 22 اغسطس 2024

مشروع ثقافي جديد لجمهورية جديدة

مقالات5-8-2024 | 14:45

لا نغالي إن قلنا إن كل تجارب التحديث والتغيير المؤثرة والناجحة في تاريخ الإنسانية، يواكبها مشروع ثقافي قوي يعبر عن المرحلة الجديدة، التي تأتي بعد التغيير، ويحافظ على قوة التجربة ويحدث تغييرا في المجتمع، وينطلق به إلى فضاء أقوى ومستقبل أكثر تطورا ويكسبه مصادر جديدة للقوة والتأثير، وظهر ذلك واضحا وجليا في فرنسا بعد قيام الثورة الفرنسية 1789 والولايات المتحدة الامريكية بعد الحرب الأهلية وبعد الوحدة الألمانية 1871 والوحدة الإيطالية 1870 والثورة التركية بعد الحرب العالمية الأولى، والاتحاد السوفيتي، وكان لكل تلك التجارب مشاريع ثقافية ذات خطاب ثقافي مختلف، عما كان عليه الوضع قبل الأحداث الكبيرة، لذا فإن وجود خطاب ثقافي مختلف بعد مراحل التغيير ضرورة ملحة لإنجاح أية تجربة إنسانية.

وفي مصر وخلال تاريخها الحديث، كانت هناك مشروعات ثقافية وخطاب ثقافى مختلف، فبعد مرحلة التحديث في عصر محمد على، ورغم العوائق والعقبات المرتبطة بالوضع السياسي المصري، كان لدى مصر خطاب ثقافي مختلف عن الفترة التي سبقت عصر محمد على، وتبني المشروع الثقافي المصري الجديد، مجموعة من كبار المفكرين أمثال: حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وعبد الله النديم ومحمد عبده وعلي مبارك وأديب إسحاق ويعقوب صنوع، وإسحاق شاروبيم، وغيرهم الكثير الذين كانوا عماد نهضة ثقافية وفنية كبيرة وتبنوا خطابا ثقافيا جديدا اختلف بشكل كبير وواضح ومغايير عما كان عليه الخطاب الثقافي المصري قبل القرن التاسع عشر، وكان لهولاء النخبة والمؤسسات التي قامت خلال ذلك القرن دور كبير، في التعاطي مع ما يمر به الوطن من مرحلة تحتاج إلى التغيير والوقوف في وجه الاحتلال وإزاحته من أرض مصر وجاءت ثورة 1919 كنتاج لنخبة وطنية مثقفة ومدركة لأهمية الثقافة في بناء المشروع الوطني الجديد.

وقد تمايز الخطاب الثقافي لثورة 1919، فقد كانت أولوياته مختلفة  عن أولويات وطن القرن التاسع عشر، فتحديات تلك الفترة اختلفت وأصبحت أكثر تعقيدا ولعب فيها الاحتلال مع قوى أخرى أدوارا متشابكة عطلت مسيرة التحرر الوطني وأطالت فترة وجود الاحتلال ورغم ذلك ظل مفكرو مصر وفنانوها يتبنون خطابا ثقافيا ملهما لفئات الشعب يتواكب مع مرحلة السعي للحصول على استقلال الوطن وتحرره من قبضة الاستعمار، وهي مرحلة اكتملت بقيام ثورة 23 يوليو 1952.

ومع تلك الثورة كان الخطاب الثقافي أكثر توهجا، ومتناغما مع المبادئ والأهداف التي جاءت بها الثورة، وبدا أنه مشروع ثقافي مصري جديد، وكان الحراك فيه سريعا فنهضت فيه مجالات ثقافية وفنية ووصلت إلى مناطق مصرية وإقليمية وعالمية لم تصلها ثقافة مصر من قبل، ويكفي أن نؤكد على أن نتاج هذه التجربة هي التي صكت العبارة الأشهر والتي نرددها كثيرا "قوة مصر الناعمة" فقد أحدث المشروع الثقافي لتلك الفترة تأثيرا كبيرا وإن لم يكن زلزالا ضخما -مازالت بعض أثاره قائمة- وأفزع الكثيرين ولم يكن أمامهم إلا أن يسيروا على المنهج والطريقة المصرية في استخدام الثقافة والفنون كقوة ناعمة لإنجاح مشروعاتهم  الوطنية وهذا واضح للعيان في محيطنا الإقليمي وعالمنا الكبير.

ورغم تغير الفكر السياسي المصري للطبقة الحاكمة في فترة السبعينيات وما أعقبها فقد ظل مشروع مصر الثقافي يحاول البقاء على عوامل قوته؛ رغم فقده للظهير السياسي، الذي لم يضع الثقافة وتأثيرها في مكانها الصحيح كجزء فاعل في المجتمع المصري ومحيطه الاقليمي والعالمي ولكن كجزء من الرؤية السياسية للدولة المصرية التي بدأت تدور في أفلاك إقليمية وعالمية جديدة، مما أضعف المجتمع المصري الذي فقد تدريجيا شغفه وتأييده للنظام الحاكم وهو ماظهر جليا في يناير 2011، بعدما تسرب الفشل رويدا رويدا للمشروع الثقافي المصري طوال نحو أربعين عاما. 

وعندما وصلت الجماعة الإرهابية إلى حكم مصر وهي جماعة كانت تقتات على فكرة "الشعب المصري متدين بطبعه" فحاولت استغلاله بشكل رخيص لتحقيق أطماع مجموعة من الأفراد، ولم يكن لها مشروع ثقافي طوال تاريخها الملطخ بالدماء، لذا فإن وصولها إلى كرسي الحكم في 2012 فشل فشلا ذريعا خلال عام واحد فقط.

الثقافة وثورة 30 يونيو

بعد قيام ثورة 30 يونيو حاول الجميع تلمس الطرق نحو مشروع ثقافي جديد وبعد انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، لفترة رئاسية أولى كانت مليئة بالتحديات الداخلية والخارجية وكادت تعصف بالدولة، وتمحور الجهد بشكل كبير حول تثبيت أركان الدولة واستعادة الاستقرار بعد موجة إرهاب عاتية ومحيط إقليمي وعالمي مضطرب والكثير منه يتخذ من القطيعة مع مصر سياسة يمارسها بكل صلف وغرور ورغم ذلك كانت الرؤية السياسية للثقافة: استعادة النشاط الثقافي وممارسة أدواره والتخطيط لثقافة مصرية مبدعة قادرة على مواكبة أحلام المصريين، ورغم الضغوط الخارجية ورغم التعقيدات الاقتصادية قامت الثقافة بدورها الوظيفي إلى حد كبير.

مع فترة رئاسة جديدة 2024 نحتاج لمشروع ثقافي جديد لجمهورية جديدة

طوال السنوات السابقة منذ قيام ثورة 30 يونيو 2013 والمخاطر المحيطة بمصر داخليا وخارجيا تتزايد وتهدد المشروع الوطني المصري، والثقافة المصرية بكل مؤسساتها ومفكريها وفنانيها من أهم الأدوات التي تحتاجها الدولة في تلك المرحلة المفصلية من عمر الوطن، الذي يحتاج ثقافة أكثر تأثيرا واقترابا من جميع فئات الشعب المصري والتوعية بطبيعة المرحلة ومخاطرها التي تريد أن تغتال أحلام وآمال ومستقبل المصريين.

ومنذ اليوم الأول لانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيسا للجمهورية في يونيو 2014 وهو يؤكد على دور الثقافة في المجتمع والوعي بالمخاطر المحدقة بالوطن وأنجز مجموعة مهمة من البنية التحتية لممارسة الأنشطة الثقافية في العاصمة الجديدة والقاهرة والعلمين وأسوان وكثير من محافظات الجمهورية وتكلفت مبالغ مالية طائلة، وجعل عام 2020 عاما للثقافة والوعي وهذا بخلاف ما يتعلق باشتراك الثقافة في مشروعات قومية تتصل بالثقافة مثلما حدث عام 2019 عندما تم اختيار أسوان عاصمة للثقافة والشباب الأفريقي وعام 2016 عندما خصصه الرئيس كعام للشباب، وللتأثير الخارجي كانت هناك مناسبات مهمة مثل عام الثقافة المصري – الصيني عام 2016 وعام الثقافة المصري – الفرنسي عام 2019 وعام الثقافة المصري – الروسي 2021 وكلها مشروعات لمحاولة أن يدفع الرئيس بملف الثقافة خطوات للأمام وأن يؤدي المثقفون دورهم تجاه وطنهم وأمتهم، التي حققت تقدما في مجالات أخرى واستعادت مكانتها في قطاعات مختلفة من العمل الوطني.

وكثير من المصريين يرون أن المشروع الثقافي المصري رغم ما يبذل من جهود كبيرة من وزارة الثقافة وغيرها، مازال يراوح مكانه ومازال يبحث عن انطلاقة مختلفة وعمل خلاق ومختلف ومتفرد وعصري ويلبي جميع شرائح المجتمع في المدن والقرى والنجوع، ويتواكب مع الإنجازات الكبيرة في المجالات الأخرى الكثيرة في المجتمع المصري، وهي أمور لابد وأن يدركها صانع الثقافة حتى لا يفقد المصريون شغفهم بها ويبحثون عن غيرها لدى آخرين قد يكونون مهددين لدور مصر الثقافي.

لقد أصبح واضحا أن هناك حاجة ملحة لصياغة مشروع ثقافي جديد للجمهورية الجديدة، يحل محل الأداء الوظيفي المحدود لوزارة الثقافة، ولعل أهم المحاور التي يمكن من خلالها إنجاز هذا المشروع يمكن أن تكون على النحو التالي:    

لجنة الثقافة بمجلس الوزراء

مطلب مهم وكثيرا ما نادى بها المعنيون بالشأن الثقافي؛ وتتمحور مهمتها بالدرجة الأولى حول التنسيق ومتابعة الخطط التنفيذية للوزارات والجهات والمؤسسات المصرية المشتركة في المشروع الثقافي المصري بكل محاوره ومجالاته، ورئاسة هذه اللجنة لرئيس الوزراء سوف يعطيها فاعلية ودافعية أكبر لاختصار الوقت لإنجاز المشروع الثقافي للجمهورية الجديدة والحصول على رضى المواطن المصري، إن العمل داخل الحكومة المصرية يتقاطع بين الوزارات وقد لا تكون جميعها على وتيرة واحدة أو تمتلك رؤية واحدة لموضوع واحد فبعض المشروعات الثقافية قد تكون في أولوية وزارة الثقافة، ولدى وزارة أخري تتصل بهذا المشروع لايكون له الأولوية لديها، مما يؤثر على إنجاز المشروع، كما أن التكامل بين ما تقدمه الوزارات فيما يتعلق بالوعي والهوية الوطنية يحتاج إلى تنسيق مستمر واهتمام أكبر وذى أولوية، لذا فوجود لجنة للثقافة بمجلس الوزراء برئاسة رئيس الوزراء قد يختصر الكثير، وتكون سببا في نجاح الكثير من المشروعات الثقافية وظهورها للنور واستفادة الجميع منها.  

إعادة هيكلة قطاعات وزارة الثقافة

إن تحديث وزارة الثقافة وإعادة هيكلة كل قطاعاتها أصبح ضرورة ملحة؛ ولا يحتاج إلى تأخير، فالكثير من التضارب في الاختصاصات وتنفيذ المهام، يضرب جميع قطاعات وزارة الثقافة، فهذه الهياكل التي تتكون منها الوزارة هي التي لم تقم بدورها كاملا وتصارع بعضها على ممارسات دور البعض ولم تكن عند أحلام وطموحات المصريين، ولم تلب بشكل مرضي احتياجات المصريين الثقافية والفنية، لذا فإن إعادة بناء وزارة ثقافة عصرية ذات هياكل إدارية متكاملة لا متعارضة ولديها كوادر مؤهلة وتدرك دورها وغايتها وتأثيرها داخليا وخارجيا، وتكون على قدر التحديات والتطور المتسارع  في العمل الثقافي وأدواته في العالم، وتطور ورغبات وأحلام المصريين الثقافية والفنية وبخاصة من شبابها أصبح أمر ملحا وضروريا ولا يجب أن يتأخر كثيرا لأن كل تأخير هو خصم من قوة الوطن وتقدمه.  

مؤتمر المثقفين والفنانين

كثير من قضايا ودهاليز الثقافة وأحلام الجماعة الثقافية ورؤاها للعمل الثقافي، لا توجد آلية تنظم تواصلها مع صانع القرار الثقافي وهو أمر بلا شك يؤثر على كفاءة المشروع الثقافي المصري، ويستدعي وضع آليات للتواصل بين أضلاع العمل الثقافي، وخلق حالة من تبادل الافكار وطرح الرؤي للرقي بالعمل الثقافي بما يجعله أكثر حيوية وفاعلية، لذا فلا شك أن عقد مؤتمر ثقافي يجمع المثقفين والفنانين وكل المهتمين بالمشروع الثقافي المصري سنويا أو كل عامين تطرح فيه كل هموم الثقافة وشواغلها وتطرح الحلول والأفكار الخلاقة لتقديم ثقافة أكثر تميزا وأكثر فاعلية، أمر مهم وحتمى فإن ما سيخرج عن هذا المؤتمر سيكون أكثر تأثيرا ويخلق تعاونا جديدا ليس بين صانع القرار الثقافي والمهمومين بالثقافة بل ستكون فرصة لظهور مشاريع ثقافية وفنية لن تكون وزارة الثقافة طرفا وحيدا فيها بل ستكون فرصة لينشط القطاع الخاص في هذا المحفل.   

الجمعيات الأهلية الثقافية

لقد وصل عدد الجمعيات الأهلية في مصر إلى أكثر من 55 ألف جمعية، منها أكثر من 5 آلاف جمعية تعمل في المجال الثقافي والفني وعدد قرى مصر يصل إلى نحو 4726  قرية يتبعها 26 ألفا و757 كفرا ونجعا وعزبة، ونقل تبعية هذه الجمعيات من وزارة التضامن الاجتماعي إلى وزارة الثقافة سيعطيها الفرصة لتفعيل دور تلك الجمعيات وإدماجها في المشروع الثقافي المصري مما يزيد من قدرة الوزارة بالتعاون مع تلك الجمعيات على النهوض بالعمل الثقافي بشكل غير مسبوق، وبخاصة في الأماكن التي تعاني من الحرمان من الخدمة الثقافية ولعل هذا الرافد الثقافي الجديد يعطي الوزارة الفرصة، لتقديم خدمة ثقافية مختلفة، والاعتماد على موارد مالية جديدة بل وسيشجع الكثيرين الذين يرغبون في ممارسة العمل الثقافي الأهلي على دخول هذا المجال بكل قوة، كما أنها ستكون فرصة لإنهاء تواجد مؤسسات لا تعمل وهي مجرد اسما فقط في أوراق الحكومة دون وجود أي نشاط لها. 

محاور مشروع ثقافي جديد للجمهورية الجديدة

لا تنفرد وزارة الثقافة بصياغته وحدها

لعل أخطر ما يجب علينا أن ننجزه أن نصيغ مشروعا ثقافيا مصريا متفردا للجمهورية الجديدة، قابلا للتنفيذ، ولن نستطيع أن ننجز ذلك سوى بتلاقي عقول كوادر وزارة الثقافة والوزارات والمؤسسات المصرية الحكومية والخاصة المعنية بالثقافة مع عقول ونخبة مصر المثقفة المتميزة في جميع مجالات الثقافة والفنون، للخروج بخطة طويلة الأجل تنقسم إلى خطط خمسية، يتم خلالها تنفيذ بنية تحتية ثقافية متميزة ومتسقة مع تطور العصر وبعيدة عن الأنماط التقليدية التي تجاوزها الزمن، وتنتشر في أنحاء مصر المحروسة وخطة عمل لجميع المجالات الثقافية والفنية، واكتشاف مبدعين ومفكرين جدد وتقديمهم للمجتمع، والاهتمام بالصناعات الثقافية لتكون رافدا جديدا للاقتصاد المصري، وإنتاج أنشطة ثقافية حديثة ومبتكرة وتتوافق مع العصر، واستعادة التأثير الإقليمي والعالمي بأفكار جديدة وثقافة متميزة ومختلفة، فمصر تمتلك من الكوادر والأفكار والتاريخ والرصيد الثقافي ما يجعلها تحلق عاليا في سماء الثقافة والفنون.

إننا نستطيع أن نعبر مسافات طويلة في حقل الثقافة، بالاهتمام بالوعي والمناطق الهشة ثقافيا وبتراثنا الثقافي والفني؛ الفكري المطبوع والمسموع والمرئي، وتبني مشاريع ثقافية مبتكرة وتمويل إنتاجها لشباب يعيش روح العصر الجديد، ونضع وسائل التواصل الاجتماعي في خدمة المشروع الثقافي للجمهورية الجديدة، ولايجب أن تقف طموحاتنا عند حد فلا بد أن نذهب للجامعات ونضع الشأن الثقافي بكل مشاكله وأحلامه ضمن مشاريع التخرج للطلاب الذين نبني ثقافة جديدة لهم ونوفر لهم البنية الثقافية لمساعداتهم على إنجاز مشروعاتهم فهم أبناء الثقافة الجديدة التي لن نحقق السبق فيها إلا بأفكارهم الملهمة ومنهم قد نصل لطرق وأفكار جديدة تضع الثقافة المصرية في مكانها الصحيح داخليا وخارجيا، كما يجب أن يكون ذلك المشروع قادرا على جذب القطاع الخاص الثقافي، بكل ما يملكه من أفكار وموارد وبنية تحتية تضيف لقوة الثقافة المصرية.

إن التحدي الإقليمي والعالمي في مجال الثقافة، يزداد صعوبة ويتسارع بخطى كبيرة، والتأخر في بناء مشروع ثقافي جديد سيجعلنا نقتات على ماضينا الثقافي وأمجاده، ويتخطانا في المضمار مشروعات حديثة النشأة في الجوار وهو ما لا يمكن أن يرضى به المصريون.  

 إن الجميع يدرك جيدا أن إيمان الرئيس عبد الفتاح السيسي بأهمية ودور الثقافة في تغيير المجتمعات وأن لديه عزيمة صادقة، وإرادة صلبة لتحقيق مشروع بناء مصر الحديثة بما فيها ثقافة جديدة لجمهورية جديدة، سيكون ضمانة أكيدة لنجاح مشروع مصر الثقافي.