الثلاثاء 27 اغسطس 2024

شهادة مثقف| الروائي العراقي نزار عبد الستار: فن الرواية يحتاج إلى خيال جامح

الروائي العراقي نزار عبد الستار

ثقافة19-8-2024 | 19:35

دعاء برعي

ضمت المسيرة الإبداعية للقاص والروائي العراقي نزار عبد الستار الذي ولد في بغداد عام 1967، ثلاث مجموعات قصصية وسبع روايات، وقد نشر كتاباته القصصية في الصحف العراقية منذ سن الـ 18 عامًا، لكن بدايته الحقيقة كانت عام 1995 حين صدرت مجموعته القصصية الأولى "المطر وغبار الخيول" وضمه النقاد وقتها إلى المجددين في النص القصصي من الذين غايروا في الأنماط الكتابية، واستلهموا التراث الأسطوري لحضارة بلاد ما بين النهرين واشتغلوا في منطقة الميثيولوجيا، إذ كانت عوالمه سحرية يمتزج فيها الواقعي مع الفانتازي العجائبي.. كما عرف بخصوصية في السرد الساخر الذي أثار انتباه النقاد إليه.

 

نالت روايته الأولى "ليلة الملاك" اهتمامًا واسعًا لمغايرتها اللافتة، فقد جاءت هذه الرواية لتكون انموذجًا للرواية العجائبية التي تجمع بين الأسطورة والواقع، وحصد عنها جائزة أفضل رواية عراقية عن اتحاد أدباء العراق عام 1999، كما نال جائزة الإبداع في العام 2001 وهي أرفع جائزة تمنحها وزارة الثقافة العراقية، وحققت مجموعته القصصية "رائحة السينما" التي صدرت في 2002 رواجًا كبيرًا حيث تناولت فترة الحصار الاقتصادي على العراق بعد احتلال الكويت، فتميّزت بجرأتها وتصويرها للأوضاع الإنسانية الصعبة. وفي عام 2011 صدرت له رواية بعنوان "الأمريكان في بيتي" التي تتحدث عن فترة الاحتلال الأميركي، وجاءت هي الأخرى مغايرة عن السائد التسجيلي. بعدها بعامين أصدر كتابه القصصي "بيجامة حمراء بدانتيلا بيضاء" ثم اتبعها عام 2016 برواية "يوليانا" عن دار هاشيت أنطوان. ووصلت روايته "ترتر" الصادرة في 2018 عن الدار نفسها إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد عام 2019 تلتها رواية "مسيو داك" في 2020 ثم رواية "الأدميرال لا يحب الشاي" التي صدرت عن دار الساقي عام 2023.

 

في البداية يقول الروائي نزار عبد الستار في شهادته التي يخص بها بوابة "دار الهلال": "أدركت مبكرًا أن الروايات الجيدة لا تصمد في مدارات الزمن إلا إذا جاءت متفردة في منطقتها ومتينة البناء وتكويناتها اللغوية مكثفة إلى درجة الشعر".

وحول روايته الأولى يضيف "عندما نشرت روايتي الأولى "ليلة الملاك" عام 1999 كانت الشخصية المتحركة خرافية الشكل تدعى السمارتو "إنسان مجنح له رأس صقر، ويحمل دلوًا نذريًا فيه ماء يقدر على تحقيق المعجزات"، كان عليّ كتابة هذه الرواية بتكثيف لغوي يتقمص السحر، وأن تكون الاستعارات موازية لغرائب الأحداث، والسرد عجائبي".

ويشير عبد الستار: "كتبت إلى الآن سبع روايات، وأعتقد أن كل عمل يمهد للذي يليه. نحن لا نكتسب المهارة من عمل واحد كما أن كل رواية تكتب هي ذروة وعي كاتبها وخلاصة هندسته العقلية، ويمكن للرواية الأخيرة أن تستنفد كل سوائل الدماغ الحية وحتى اللياقة البدنية، وأعتقد أن أفضل طريقة لاستخلاص الخبرة أن تكون الرواية المقبلة مستندة على الوهج اللغوي المتحقق من الرواية التي قبلها".

 

ويؤكد: "إن أهم ما يجعل الكتابة مستمرة هو التحفيز الذهني الدائم. المناطق الجديدة التي يمكن أن تذهب إليها الرواية المقبلة تكون مخبأة في مستودع الذكاء. عندما انتهي من كتابة رواية أتمتع باستراحة مدة أسبوعين وبعدها أشرع في التحضير للرواية التي تليها مستفيدًا من النشاط الذهني القوي الذي أوقده العمل السابق".

وعن روايته الثانية "الأمريكان في بيتي" التي صدرت عام 2011 يقول عبد الستار: "كان عليّ الخروج بعمل مغاير، كل الروايات العراقية التي ظهرت بعد 2003 كانت تسجيلية، وغالبية الذين تصدوا لهذه المهمة كانوا خارج العراق، ولا أحد منهم شاهد بعينيه جنديًا أمريكيًا يتجول في الشوارع، وأغلب هذه الروايات تقدم مشهد وصول الجيش الأميركي إلى ساحة الفردوس وعملية إسقاط تمثال صدام حسين. كل المعلومات التي أوردتها تلك الروايات غير واقعية ومستمدة من الأفلام الأمريكية وتقارير وكالات الأنباء، ففكرة رواية "الأمريكان في بيتي" جاءت عندما اقتحمت مجموعة من الجنود الأمريكان بيت العائلة في مدينة الموصل واحتلوا غرفتي في الطابق الثاني والتي تحتوي على مكتبتي المكونة من 5000 كتاب بحجة مراقبة الشارع العام. خرج الأمريكان من البيت فجرًا بعد عبثهم بأغراضي وتمزيقهم نسخة من رواية "موبي ديك" للكاتب الأمريكي هرمان ملفل. الحافز الآخر الأكثر توجيها لمسار هذه الرواية، إن الجيش الأمريكي مع دخوله مدينة الموصل ذهب إلى مكتبة الأوقاف وصادر 1000 مخطوطة عربية وسيريانية لم يسبق أن حققها أحد، وكانت مخزنة بطريقة سرية باعتبارها الكنز الأكبر لمدينة الموصل".

ويتابع: "رواية "الأمريكان في بيتي" ركزت على انهيار المدنية ورأت في الاحتلال الأمريكي صراعًا حضاريًا يستدعي النهوض مجددًا، وأن الثقافة هي الوسيلة المناسبة لتنظيف البلاد، وكل رواية من رواياتي هي منطقة خيالية جديدة لا يتوقعها القارئ. ربما الحياة التي عشتها على هذه الشاكلة، فرواية "يوليانا" الصادرة ببيروت عام 2016 كانت تتحدث عن بلدة كرمليس ومزار القديسة بربارة وخادمتها يوليانا في السهل الشرقي المسيحي لمدينة الموصل، وهذه الرواية تطلبت جهدًا بالغًا وشجاعة فكرية. بقيت "يوليانا" مفتوحة قرابة 17 سنة إلى أن احتلت داعش مدينة الموصل وطردت المسيحيين منها بعد رفضهم دفع الجزية. عندها أجبرت نفسي على الانتهاء من هذه الرواية وقد صدرت عند تحرير بلدة كرمليس المسيحية من داعش".

ويرى عبد الستار أن أهمية العمل الروائي متأتية من درجة تماسك عناصره وقوته الخيالية ومعرفياته الاجتهادية، وهو ما يلفت إليه في رواية "يوليانا"، حيث يؤكد أنه أوجد الاختلاق التاريخي والسيري مع استعادة السرد وتقنيات الحبكة وهي اجتهادات في اشتغالات ما بعد الحداثة، كما يؤكد تطويره هذه التقنيات في روايته "ترتر" الصادرة عام 2018 وكذا روايته "مسيو داك" في 2020 و"الأدميرال لا يحب الشاي" في 2023.

وحول رواياته السبع يوضح: "لا يمكن أبدًا نقل قصة حقيقية دون إضافات اختلاقية. هذا شيء يتطلبه التوصيل وإعادة الصياغة وتحين المزاج السليم للتلقي. إن أهم ما فعلته تلك الروايات السبع هو التستر بالتاريخ ومحاولة التواجد في الزمن الماضي من خلال اختلاق القصص، ففي رواية "ترتر" كنت مع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني والأمبراطور الألماني فيلهام الثاني وفكرة مد خط سكة حديد من برلين إلى بغداد. هذا المشهد التاريخي جعلني أختلق قصة آينور هانز الجاسوسة التي أرسلت للموصل كي تمهد لدخول الصناعيين الألمان. إنها سيرة مختلقة تمامًا لما يمكن إصلاحه من الماضي. بهذه الطريقة كتبت رواية "مسيو داك" التي جاءت مختلفة وتتحدث عن الحب في حسيته الطاغية".

ويضيف: "أعتقد أننا بروايات أقل مما تصدره دور النشر الآن يمكن لنا إرجاع الانبهار للقراءة، فلا يمكن للرواية مسايرة الضحالة أو إدامة التسطح الذوقي بل عليها استعادة الوهج الخلّاق. فن الرواية يحتاج إلى خيال جامح مع رغبة ملحة في تصديق الكذبة السردية وهذا لا يتحقق إلا بمهارة روائية. لقد أثبت علم الأركيولوجيا مدى الزيف الحضاري الذي عشنا فيه لقرون كثيرة وكيف أن علم الآثار نفى كل التلفيق الذي جرى طوال ألف سنة. هذا الأمر لا يمكن اجتثاثه لأن هذه هي طبيعة الإنسان الذي يروي القصص اعتمادًا على الخيال".

 

أما عن رواية "الأدميرال لا يحب الشاي" فيكشف عبد الستار "ذهبت إلى الهند وتتبعت شركة الهند الشرقية البريطانية التي تاجرت بكل شيء وأسست رفاهية القارة الأوروبية من خلال الحروب وزراعة الأفيون وارتكاب المجازر، ولكن الذي عملت على اختلاقه هو شخصية الأدميرال ونفيه من كلكتا إلى البصرة، ومحاولته إدخال تجارة الشاي إلى العراق. هذه الشخصية الإشكالية متعددة الهويات تكشف عن صراعات لا يعرف خيرها من شرها لكنها مع هذا تمثل روح عصرنا الحالي الذي يتاجر بالإنسان ويمسخه إلى مستهلك شره".

 

ويخلص عبد الستار إلى: "في الروايات المصنوعة بشكل متقن يمكن كتابة المشهد الحقيقي للحياة. نحن لا نملك إزاء هذا الوجود المخيف إلا رواية خرافاتنا والعودة بخيالنا لمعاصرة الأبطال الذين نعشقهم، والتدوينات التي تقترب من الخواطر لا يصح تجنيسها كرواية".