الخميس 29 اغسطس 2024

قصص دار الهلال النادرة| «هوى العقيق» قصة تاريخية عربية لـ عبد الفتاح عبادة

هوى العقيق

كنوزنا21-8-2024 | 16:01

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر 1 أغسطس 1927، نشرت مجلة الهلال قصة تاريخية عربية بعنوان "هوى العقيق" للكاتب والمؤرخ عبد الفتاح عبادة، تدور القصة حول شاب من المدينة يقع في حب فتاة رآها في متنزه العقيق، لكن أهلها يرفضون زواجهما بعد انتشار خبر علاقتهما، يقرر الشاب الهجرة حزنًا، ويصل خبره إلى معبد المغني الذي يتأثر بقصته ويغني عنها أمام الوزير جعفر البرمكي، يتدخل الخليفة هارون الرشيد بعد سماعه القصة، فيأمر بإحضار الفتاة وأهلها من المدينة ويزوج الشابين في بغداد، منهيًا معاناتهما بكرمه وعدله.

نص القصة:

«المقدمة» جرت حوادث هذه الرواية في المدينة وبغداد أيام أن كانت الحضارة العربية فيهما بالغة مداها على عهد العباسيين الأول، أعني في القرن الثاني للهجرة في عصر الرشيد، زينة هذه الدولة، وهو أزهر عصورها وأزهاها، فهي تصف لنا الحياة الاجتماعية عندهم وتترفهم في العيش لتكاثر الأموال في ايديهم، وافتتان أهل بغداد والعواصم في مرافق الحياة، فتصور لنا ميولهم ورغبتهم في الغناء وكيف كان هواهم (رجالاً ونساء)، والتفاهم بين الرجال والنساء بالشعر، وكثيرا ما رأينا هذا في الأدب العربي في الشعر والموسيقى وغيرهما من الفنون الجميلة والآداب الرفيعة (على حد تعبيرهم)، ثم منزلة المغنين وكيف كانوا هم أهل الحظوة عند الخلفاء والمقربين من الوزراء ورجال الدولة

ثم تبين لنا أنه مع أخذ الناس بأسباب الحضارة كان القوم في المدينة وغيرها لا يزالون يحافظون على تقاليدهم المجيدة الموروثة ولا سيما ما كان خاصا منها بالعرض وناموس الشرف: فآداب فتيان العرب وفتياتهم سيف مجالسهم ومتنزهاتهم كانت بالغة حد الكمال تودها العفة لأنها غالية على طباعهم، ومن يقرأ وصف «العقيق» هنا ويتخيل «الجزيرة» وغيرها من متنزهاتنا يرى الفرق بين أخلاقهم التي كانت سر تقدمهم وأخلاقنا التي هي سر تأخرنا، وقد كانت المرأة العربية في ذلك العصر والذي تقدمه (قبل ابتداء الحجر عليها) تجالس الرجال وتخاطبهم وتذاكرهم والعرب لا يرون ذلك منكرا ولا تخامرهم ربة إلا إذا زادت العلائق عن الحد المألوف في عرفهم فلاكتها الألسنة وتحدث بها الناس فيمتنع إذ ذاك أهل الفتاة عن تزويجها بمن شاع في الناس قولهم عنه وذلك لفرط غيرتهم على الأعراض ولأنهم لا يريدون أن يحققوا بالزواج كلام الناس وإشاعاتهم: وهنا كانت تحصل المأساة تلو المأساة، فكم من غصن ذوى من الظمأ حرقته حرارة الشباب وحده، وكم من شهيد ذهب صريع حبه، ولم يرحموا شبابه محافظة على هذه العادة العربية التي كم هبطت بغادة حسناء إلى القبر، والتي لم يعرف أن المحبين من العرب قد تخلصوا من قيودها المميتة إلا في أحوال نادرة تداخل فيها الخلفاء وأصحاب السلطان والنفوذ أو الجاه رحمة بأهل الحب الشريف، كما حصل في هذه الرواية، فهي من هذا القبيل طرفة في وصف محافظة العرب على هذه العادة التي طالما فتكت بشبابهم وهم فيها راغبون لأنهم قساة في الغيرة على الأعراض

وبالإجمال هي صورة صادقة لأخلاق الأمة العربية في ذلك العصر تمثل الحب الشريف، والنخوة والكرم، ففيها العفة والميول الشريفة، وفيها المروءة والعواطف الرقيقة، وكما هي حكاية حب ووفاء فهي من أولها إلى آخرها حكاية صوت من الغناء، عنى بها أعلام المحققين ومؤلفو أمهات كتب الأدب العربي وأوثق مصادره كالأغاني ونهاية الأرب وغيرهما، أما راويها فهو معبد اليقطيني وكان من مهرة المغنين في عصر الرشيد وقد خدمه ولم يخدم غيره من الخلفاء، وكان أكثر انقطاعه إلى البرامكة، قال:

الطارق

كنت منقطعا إلى البرامكة ألازمهم وأسكن في جوارهم، وكانت لي دار لطيفة تشرف على جناتهم وقصورهم الشامخة، فبينا أنا ذات يوم في منزلي في منظرة مشرفة على الطريق وقد جاءتني إحدى جواريّ بصبوحي من اللبن، إذ رأيت آتٍ يقصد داري وإذا بابي يدق، فخرج غلامي ثم رجع إليّ فقال لي: على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك، فأذنت له، فدخل شاب ما رأيت أحسن وجها منه ولا أنظف ثوبا ولا أجمل زيا منه من رجل دنف عليه آثار السقم ظاهرة، فحياني وقال لي: إني أحاول لقاءك منذ مدة ولا أجد إلى ذلك سبيلاً، وأن لي حاجة، فقلت: وماهي؟

اللحن الموسيقي

قصد بصره فيّ وصوّبه وهو يتردد ثم أخرج من خريطة معه ثلثمائة دينار فوضعها بين يدي فقال: أسألك أن تقبلها وتصنع فيّ بيتين قلتهما لحنا تغنيني به، فقلت: هاتهما، فأنشدني:

والله يا طرفي الجاني على بدني .. لتطفئن بدمعي لوعة الحزن

أولا بوجن حتى يحجبوا سكني .. فلا أراه وقد أدرجت في كفني

فقلت له: ذلك لك، ولكن أخلو لنفسي قليلاً حتى أصنع لك اللحن - فسر وشكرني على إجابة طلبه.

تأثير الغناء.. الطروب!

فأخذت الشعر وصنعت فيه لحنا ثم جئته فغنيته إياه، وما كدت أفرغ من الغناء حتى سقط مغشيا عليه وظننته قد مات، فوجمت لذلك واكتأبت، وقلت: أين كنت وهذه الفجيعة! وعملت على أن تثوب إليه نفسه فلما أفاق، قال: أعد، فديتك! قلت: أما هذا فلا، أما كفاني ما شاهدته من الفزع والهول في صعقتك! ناشدتك الله يا أخي في نفسك فإنني أخشى أن تموت، فقال: هيهات! أنا أشقى من ذلك! وما زال يخضع لي ويتضرع حتى رحمته وأعدت له الغناء، فأغمي عليه وصعق صعقة أشد من الأولى ظننت أن نفسه قد فاضت معها هذه المرة، فاسترجعت وداخلني أمر عظيم لما عراه وارتاع خدمي، فنضحت على وجهه الماء، فبعد لأي ما ثابت إليه نفسه، فلما أفاق رددت عليه الدنانير فوضعتها بين يديه، وقلت: الله الله في دمي! يا هذا، خذ دنانيرك وانصرف عني قد قضيت حاجتك وبلغت وطرًا مما أردته، ولست أحب أن أشرك في دمك، فقال: يا سيدي لا حاجة لي في الدنانير، وهذه مثلها، ثم أخرج ثلثمائة دينار فوضعها بين يدي، وقال: أعد الصوت عليَّ مرة أخرى وحل لك دمي!

الشروط

تعجبت لأمره وشرهت نفسي في الدنانير، فقلت: لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط: فقال: وما هي؟ قلت: أولاهن أن تقيم عندي بقية يومك ولتحرم بطعامي، والثانية أن تشرب أقداحا من النبيذ تشد قلبك وتطيبه وتسكن ما بك حتى لا تصعق، والثالثة أن تحدثني بخبرك وقصتك فإني عجبت لحالك، ففكر هنيهة ثم قال: افعل ما تريد، فأخذت الدنانير ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذر، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا وغنيته بشعر غيره في معناه وهو يشرب ويبكي، ثم قال: الشرط أعزك الله! فغنيته صوته فجعل يبكي أحر بكاء وينشج أشد نشيج وينتحب، فلما رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه ورأيت النبيذ قد شد قلبه، طابت نفسي وكررت عليه صوته مرارا، ثم قلت له: هلا حدثني حديثك وسر أمرك فقد تاقت نفسي إلى سماعه

السر في العقيق ( منتزه المدينة)

قال: نعم، أنا شاب من أهل المدينة خرجت يوما من أيام الربيع في فتية من إخواني وأقراني للنزهة، وقد اتفقنا على أن نركب جميعا أحسن ما نقدر عليه من الدواب وأن نلبس أحسن ما يكون من الثياب فنسير حتى نأتي العقيق، وهو متنزه أهل المدينة في أيام الربيع والمطر(1) فلما أتيناه وقد سال وقفنا على شاطئه وهو يرمي بالزبد مثل مد الفرات(2) وجعلنا نتصفح ونرى بعض ما نشتهي والمكان مملوء بالناس من رجال وأشراف وموالي ووصائف ونساء بارزات وحرم الوجوه ومعين الجواري والغلمان، وبينا نحن نمتع أبصارنا إذ بصرت بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرة منا، وبصرت منهن بفتاة كأنها قضيب قد طله الندى، تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما، فأطلنا وأطلن حتى تفرق الناس، وانصرفن وانصرفنا وقد أبقت بقلبي جرحا بطيئا اندماله، فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ، وخرجت من الغد إلى العقيق فلم لم أر لها ولا لصواحباتها أثرا، ثم جعلت أتتبعها في طرق المدينة وأسواقها، والعقيق وأطرافه، وكأن الأرض أضمرتها فلم أحس لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس مني أهلي، ومضى على ما يقرب من السنة وأنا على هذه الحالة.

الحيلة

ودخلت عليَّ يومًا ظئري(3) وقد هالها ما صرت إليه من النحول والسقم، فخلت بي واستعلمتني حالي، فترددت في اخبارها حقيقة أمري خشية أن يفتضح سري بين أهلي وعمومتي وكانوا يودون لي فتاة من أقاربي ونفسي تعافها، فلما شددت عليَّ وضمنت لي الكتمان والسعي فيما أحبه أخبرتها بقصتي، فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع، وهي سنة خصب وأنواء وليس يبعد عنك المطر، ثم هذا العقيق فنخرج حينئذ وأخرج معك فان النسوة سيجئن، فإذا فعان ورأيتها اتبعها حتى اعرف موضعها ثم أصل بينك وبينها واسعى لك في تزويجها، فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك ووثقت به وسكنت إليه، فقويت وتراجعت إلى نفسي، وجاء مطر يعقب ذلك فأسال وادي العقيق

التفاهم بالشعر

وخرج الناس وخرجت مع إخواني وأنا مشرد العقل حتى قدمنا العقيق، فجلسنا مجلسنا الأول بعينه، فما كنا والفتيات إلا كفرسي رهان، فخفق قلبي وأومأت إلى ظهري، ففهمت ما أريد وجلست حجرة منا ومنهن، وأقبلت على إخواني فقلت لقد أحسن القائل حيث يقول: رمتني بهم أقصد القلب وألثنت .. وقد غادرت جرحا به ونُدُوبا

فأومأت إلى جارية لها وأسرت إليها شيئا، فأقبلت هذه على صواحباتها وقالت: أحسن والله القائل وأحسن من أجابه حيث يقول:

بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلنا .. نرى فرجا يشفي السقام قريبا

فأمسكت عن الجواب خوفا من أن يظهر مني ما يفضحني وإياها، وقد عرفت ما أرادت

التعارف

ثم تفرق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظهري حتى عرفت منزلها ولم تزل تتلطف حتى وصلت إليها، ثم صارت إليّ ومضينا إليها وأنا لا أكاد أصدق، فتلاقينا وتشاكينا وتحادثنا أعف شكوى وأكرم حديث وقد زادت محبتها في نفسي لعلمها وفضلها وتزاورنا على حال مخالسة ومراقبة وعلى أحسن ما يكون من الطهر وتعاهدنا على الزواج، إلا أنه لا أدري كيف شاع حديثي وحديثها وظهر ما بيني وبينها، فحجبها أهلها وسدوا أبوابها وتشدد عليها أبوها فما زلت أجتهد في لقائها فلا أقدر عليه

الخطبة.. عادة العرب

ولشدة ما نالني شكوت ذلك إلى أبي وسألته خطبتها، فسرّ ما كنت أتوهم، ومضى ووجوه أهلي إلى بيت أبيها فخطبوها، فقال، لو كان بدأ بهذا قبل أن يفضحها ويشهرها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها فلم أكن لأحقق قول الناس بتزويجه إياها، وأنتم بما لحقني من الأذى في سمعتي وعرضي، فقالوا: أننا لا نرى في ذلك أذى لعرضك ولا منكرا تنكره على سمعتك، والفتيات يحادثن الفتيان ولا نرى في ذلك بأسا ولا تخامرنا ربة في عفة فتاتك وولدنا، فأنت واهم وكلام الناس كثير، وترضوه حتى تبينت الرضا في وجهه، فأطرق ثم قال: ان التي تخطبونها قد كنت جعلت لها الشورى في نفسها، ولكني الآن أكرهها على ما أحب بعد أن شهرها وتحدث الناس بأمرها وشاع في ذلك قولهم، ولو رضيت أنا ما قبلت صاحبة هذا الستر، وأشار الى ستر مضروب داخل حرمه فيه زوجته، فدفعت أهلي إلى أن يستشفعوا بها ويطلبوا حكمها ورجوت منها الخير، وكانت ظهري قد هيأت لي عندها ما يسرني ويسر ابنتها، فما كاد يتم كلامه حتى خاطبتنا بأشد مما تكلم به زوجها، وإذا هي أصلب منه عودا وأشد حنقا، فأبت كما أبي زوجها وانصرفنا وأنا على يأس منها ومن نفسي.

اليأس والوداع: متى أنت راجع؟

وبلغت حالتي أسوءها، ورغب والدي أن يزوجني حتى أسلوها وأنا أكره ذلك أشد الكره فحدثتني نفسي بالهجرة من المدينة لأبتعد عن مغاضبة أبي، ولأبعد عن نفسي التلف عليها، وألتمس الفرج والسلوان حتى يكن حديث الناس فأعود إليها، ولكني اشتقت لرؤيتها وتوديعها، فتحايلت فلم أفلح، وساءت صحتها فنقلها أهلها إلى أقارب لهم بالبادية يسكنون أطراف المدينة، فلم أزل أتلطف حتى أوصلت إليها خبر سفري وبقائي على عهدها وشوقي إلى رؤيتها، فروعها هذا الخبر، فلما كانت صبيحة السفر مرت بنا القافلة على أخبية القوم التي تنزل عندهم فرأيتها...

وبكي ثم قال:

تبدت لنا مذعورة من خبائها .. وناظرها باللؤلؤ الرطب دامع!

أشارت بأطراف البنان .. وودعت وأومت بعينيها: مني انت راجع؟

المروءة!

وما كاد الفتى يأتي على هذا الموضع من حديثه حتى أحسست أن نفسه قد فاضت، فقد علا محاسنه الإصفرار وبكى أحر بكاء وأشجاه حتى بكيت رحمة له ورثيت لحالة، ثم لاطفته وسألته أن ينزل بجواري، فقبل وسكن دارا لا ينزلها إلا أهل اليسار وصارت بيننا عشرة ومودة حملتني على النظر في مسألته ولم أزل افكر في تفريج كربته حتى خطر لي خاطر فرحت به، ورجوت له منه الخير

 

في مجلس الوزير جعفر

ففي أول يوم جلس جعفر بن يحيى للشراب والمنادمة أتيته، فلما أخذنا في الغناء كان أول صوت غنيته صوتي في شعر الفتى، فشرب وطرب عليه طربا شديدا، وقال ويحك! أن لهذا الصوت حديثا فما هو؟ فسررت لتحقيق فكرتي وحدثته بحديث الفتى فتأثر وأمر بإحضاره، فأحضر من وقته، واستعاد الحديث فأعاده، فرق له جعفر وقال: هي في ذمتي حتى أزوجك إياها، فكاد الفتى لا يصدق كلامه من الفرح، وطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح

في دار الخلافة: كرم الرشيد

وغدا جعفر إلى الرشيد فحدثه الحديث فعجب منه وأمر بإحضارنا جميعا فأحضرنا، وأمر أن أغنيه الصوت فغنيته إياه، فطرب، وسمع حديث الفتى فرأى لحاله وأمر من وقته بكتاب إلى عامل الحجاز بأشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته، وخرجنا من دار الخلافة وصاحبي يكاد يطير من الفرح ويقول لي: أيمكن ذلك؟ أو يقبل؟ وشاع صوتي في شعر الفتى وخبره في بغداد كلها ولما وصل أمر الخليفة إلى المدينة تزايد حديث الناس بشأنهما ولم تمض إلا مسافة الطريق حتى أحضر الرجل وأهله، فأمر الرشيد بإحضار أبي الجارية إليه فأحضر وقد أخذ الخوف منه كل مأخذ، فخطب إليه الجارية للفتى وأقسم عليه ألا يخالف أمره بعد أن طيب خاطره، فأجابه وزوجها إياه وحمل الرشيد إليه ألف دينار لجهازها ومثلها لنفقة طريقه، وأمر للفتى ولي بألفي دينار، وأمر لنا جعفر بمثلها.

 

اللقاء في بغداد

وتلاقيا بعد أن طال فراقهما وبلاؤهما وما كانا يصدقان بعد الذي كان، ولم يقبل المديني

بعد زواجه أن يفارق بغداد وكان بعد ذلك من قدماء جعفر

***

أن تعجب بما تمثله هذه القصة الشيقة من الأخلاق المدينة الفاضلة التي كانت سر تقدم وما حوته من الميول الراقية والعواطف الرقيقة، والحب الصادق الشريف الذي كله عفة ووفاء، وما كان بين الناس في ذلك العهد من صلة حاكتها المروءة ونسجتها النخوة المطبوعة في نفوسهم والتي ظهرت في تفريج معبد كربة صاحبه وأريحية جعفر والرشيد، فاستوى المغني والعظيم في نبل الأخلاق والعطف على المحبين

أن تعجب بهذا فلا تعجب بعناية الرشيد الصادرة عن علو نفس وكرم شيمة، فقد بلغت عناية الخلفاء برعيتهم وتفقدهم أحوالها والعمل على رفاهيتها واسعادها إن كانوا يخاطبون خاصة مجلسهم بقولهم: "يا هؤلاء! إنما سميتم أشرافا لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، فارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا (4)!!" ولم يعرف في التاريخ أسمح منهم يبذل المال في هذا السبيل: هذا هو المثل الأعلى للحكم في ذلك العهد الزاهر للحضارة العربية.

 

«(1) و(2) ص 143 و172 ج 2 كان العقيق متنزه الطبقة الراقية من العرب بالمدينة في أجمل فصول السنة عندهم وأحبها لديهم وهي أيام الربيع والمطر، فكان يجتمع الشعراء والمغنيين واهل الظرف والرقة، وملتقى أهل السر والهوى وكانت  به قصور أغنياء الأشراف وأبناء كبار الصحابة والتابعين يقضون فيها فصل الربيع فإذا جاء الصيف انتقلوا إلى الطائف، مصيف العرب»

(3) الظئر: العاطفة على ولد غيرها المرضعة له

(4) المسعودي ج 2 ص51