يقول أستاذنا الدكتور محمد مصطفى هدارة عن جرجي زيدان، الذي ولد في بيروت في عام 1861 ميلادية، 1278 هجرية ومات عام 1914 ميلادية الموافق 1322 هجرية. يقول هدارة عنه:
"إنه أحد أعلام النهضة العربية الحديثة، في مجال الدراسة اللغوية، والألسنة السامية وعلم التاريخ، وتاريخ الأدب العربي، والرواية التاريخية، والصحافة، بل كان له إسهام في السير والتراجم والجغرافية والفلسفية".
وقد اختار الأستاذ الدكتور أحمد على جويلي شخصية جرجي زيدان الفريدة ليكون موضوع بحثه في دراسته الجامعية، ولما كان جرجي زيدان مهتما بالدراسات اللغوية، فقد قصر أحمد جويلي بحثه على جهود جرجي زيدان في هذه الدراسات، بينما اختار غيره مجالات أخرى لدراسة هذه الشخصية الخصيبة للنتاج العلمي.
ولد جرجي زيدان في مدينة بيروت، وتلقى تعليمه الابتدائي بلبنان، لكن ظروف أسرته أدت لأن يترك الدراسة، ويلتحق بوالده ليسانده في عمله بالدكان. لكن رغبة جرجي زيدان الشديدة للتعلم دفعته إلى مواصلة الدراسة حتى إنه تعلم اللغة الإنجليزية وأجادها في مدرسة ليلية في فترة قصيرة جدا.
يقول جرجي زيدان عن أبيه وأمه: نشأت في صباي وأنا أرى والدي يخرج إلى دكانه في الفجر، ولا يعود منه إلا في نحو منتصف الليل، وأرى والدتي لا تهدأ لحظة من الصباح إلى المساء، لا تعرف الزيارات المنزلية، ولا تغشى الاحتفالات ولا المجتمعات حتى الدينية منها، فإنها لم تكن تذهب للصلاة بالكنيسة إلا نادرا. وإنما همها تدبير بيتها وتربية أولادها، وقد شببت على ذلك وألفته، تغرس أمي في ذهني: إن الإنسان خلق ليشتغل وأن الجلوس بلا عمل عيب كبير، كنا بخلاف الأولاد الذين يفتحون أعينهم على والدين يقضون معظم أيامهم في اللهو، وشم الهواء، ولا يهمهم إلا ماذا يأكلون، وماذا يشربون، وإذا أفرغوا من تناول الطعام عمدوا إلى اللعب بالورق، أو بغيره، ولا يقدمون على العمل إلا مكرهين، يحسبون العمل عيبا وهما ثقيلا، ولو عولوا عليه لكفاهم مؤونة المرض والضعف، فالأبناء الذين يربون بين أولئك الآباء، ينشئون كسالى، ويميلون إلى الملاهي والرذائل.
التحق جرجي زيدان - وهو في العشرين من عمره بالقسم الطبي بالجامعة الأمريكية في بيروت. لكنه ما لبث أن هجرها بعد عام واحد مرتحلا إلى مصر. مقتحما ميدان الصحافة والترجمة، بل نراه يرافق الحملة الإنجليزية على السودان في وظيفة مترجم. ويعود إلى مدينته العزيزة بيروت وقد أحرز شهرة علمية ومكانة أدبية، فانتخبوه عضوا في المجمع العلمي الشرقي، فأقبل على تعلم اللغات السامية، ثم رحل إلى بريطانيا وبعدها عاد إلى مصر ليستقر بها، ويبدع فيها الكثير من مؤلفاته، بل ويؤسس صحافة أدبية رفيعة لم تكن معروفة ولا موجوده في مصر. فقد أسس جرجي زيدان صرح صحافي عظيم هو دار الهلال عام 1892.
ويدهش المرء من كثرة ما ألفه جرجي زيدان، على الرغم من عدم تفرغه التام للتأليف. والحق ما قاله الأستاذ أحمد حافظ،، إذ يقول: لولا يقيننا - الذي لا مسرب للظن فيه - بأن جرجي زيدان هو الذي كتب بقلمه كل هذا الإنتاج الأدبي والعلمي الضخم متفردا، ولم يشاركه فيه أحد، لداخلنا الشك، أو تسربت إلينا الظنون بأنه لم يكن فيه منفردا، ذلك لأنه عمل كبير ضخم مستعظم على كاتب واحد.
وقد أعد الأستاذ الدكتور أحمد جويلي دراسته في الدكتوراه عن جرجي زيدان، وقد وجد الدكتور أحمد جويلي صعوبة في الوصول للمعلومة الصادقة عن جرجي زيدان، فيقول: إن إميل زيدان - ابن جرجي زيدان - لم يمده بكتاب واحد، أو مرجع واحد عن والده جرجي زيدان، رغم علم إميل زيدان بأن الدكتور أحمد جويلي، يؤلف كتابا عن أبيه.
وقد كتب الكاتب الكبير طاهر الطناحي عن جرجي زيدان الآتي:
إن ذكر العصاميون الذين بنوا أنفسهم وشادوا للإنسانية صروحا عالية في مختلف الميادين بأعمالهم المجيدة وجهودهم الممتازة، فإن جرجي زيدان في مقدمة هؤلاء، فقد بلغ بالعصامية أرفع مكان في ميادين العلوم والآداب والثقافة الحرة، كانت حياته أبلغ درس للشباب المكافح، وأعظم عبرة للذين يقفون يائسين على الشاطئ، لا تحركهم همة ولا تبعثهم إرادة على اجتياز الأمواج ليصلوا إلى ما يريدون من رقي ونجاح.
ويقول الأستاذ الدكتور مختار عطية عبد العزيز عن جرجي زيدان:
ليس بين المشتغلين بالأدب العربي وتاريخه من ينكر الجهود الخصبة التي نهض بها الأستاذ جرجي زيدان في العشرة الثانية من هذا القرن، فقد درس آدابنا في عصورها المختلفة درسا منظما، ولم يكتف بقراءة آثارها ونصوصها العربية، بل مد بصره إلى ما كتبه عن هذه النصوص والآثار في بيئات المستشرقين، يسنده في ذلك حذق اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، فلم يترك للقوم مصنفا مهما في عصره إلا طلبه، ولا مجلة علمية إلا وقف عليها وأفاد منها أكبر الفائدة، واستغلها خير ما يكون الاستغلال.