الجمعة 31 مايو 2024

خروجا عن مبادئ الإسلام نــذر وبدايـــــات الأفـــــول رغـــم نصـــر المنصــــــــــورة !

1-3-2017 | 10:18

بقلم –  رجائى عطية

حين تولى «الصالح نجم الدين أيوب» دست الحكم سنة ٦٣٧ هـ/ ١٢٤٠م، ضمن ملوك الدولة الأيوبية، كان القائم بالخلافة فى الدولة العباسية الأم، الخليفة العباسى السادس والثلاثون: « المستنصر بالله أبو جعفر المنصور » الذى تولى الخلافة يوم وفاة والده «الظاهر بأمر الله» فى ١٤ رجب سنة ٦٢٣ هـ/ ١١ يوليو سنة ١٢٢٦م، ومع كرمه وجوده وبعض الآثار الطيبة المحسوبة له وعلى رأسها «المدرسة المستنصرية» على الشط الشرقى لنهر دجلة،

إلا أنه كان مهمومًا بالمغول الذين بدأوا الهجوم على أطراف الدولة العباسية منذ زمن «الناصر لدين الله» ـ الخليفة العباسى الرابع والثلاثين، فقد اجتاحوا «بخارى» (٦١٦ هـ/١٢١٩م)، ثم «سمرقند» (٦١٧ هـ/١٢٢٠م)، ثم « بلخ » (٦١٧ هـ/١٢١٩م)، واستمرت غزوات المغول فى عهد «الظاهر بأمر الله» الخليفة العباسى الخامس والثلاثين المتوفى سنة ٦٢٣ هـ / ١٢٢٦م، إلى عهد «المستنصر بالله» الخليفة العباسى السادس والثلاثين، والذى كان قائمًا بأمر الخلافة العباسية حين سلطنة «الصالح نجم الدين أيوب» (٦٣٧ هـ/١٢٤٠م)، وكان هذا الغزو المغولى، مع القلاقل المستمرة بمصر والشام بين ملوك وأمراء الدولة الأيوبية، كانا فرصة سانحة لمعاودة الصليبيين حملاتهم، واختصوا مصر بحملة صليبية بقيادة الملك لويس التاسع ملك فرنسا، الذى عرف فيما بعد بالقديس لويس.

مقدمات معركة المنصورة

كان الصليبيون قد شنوا فى ١٧ أكتوبر ١٢٤٤م/ ٦٤٢ هـ، هجومًا بريًّا ضخمًا على مصر، ولكنهم هزموا هزيمة منكرة عند «غزة»، الأمر الذى أدى إلى تصفية بعض معاقل الصليبيين بالشام، والعودة إلى بيت المقدس.

وفى نوفمبر من عام ١٢٤٤م/٦٤٢ هـ، إثر هزيمة الصليبيين عند «غزة» ـ تقدم «روبرت» بطريرك بيت المقدس (؟!) ـ إلى ملوك أورباـ يطالبهم ويستحثهم على إرسال إمدادات عاجلة لمنع استعادة المسلمين لبيت المقدس!!

وفى عام ١٢٤٥ م / ٦٤٣ هـ ـ انعقد «مجمع ليون الكنسى الأول»، وبحضور «روبرت» بطريرك بيت المقدس (؟!)، منح بابا الكاثوليك «إينوسينت الرابع» تأييده الكامل ومباركته (!!) للحملة الصليبية السابعة، التى تحمس لها وقادها «لويس التاسع» ملك فرنسا، بينما قام بابا الكاثوليك بإيفاد «أودو» كردينال فراسكانى، للترويج للحملة فى كل أنحاء فرنسا، وفرضت ضرائب على الناس لتمويلها، واضطلعت جنوة ومرسيليا بتجهيز السفن اللازمة.

كان من أغراض هذه الحملة الصليبية السابعة، هزيمة مصر لإخراجها من الصراع الدائر فى الشام، والقضاء على الدولة الأيوبية، التى كانت تحكم مصر والشام، وإعادة احتلال بيت المقدس!

ومن اللافت ـ والمؤسف أيضًا ـ أن بابا الفاتيكان أراد التحالف مع المغول، فأوفد إليهم مبعوثه الفرنسيسكانى «جيوفانى دابيان كاربينى»، لعقد تحالف ثنائى ضد المسلمين، إلا أن رد «جويوك» خان المغولـ جاء مخيبًا لآمال البابا، فقد رد برسالة تطلب منه الخضوع للمغول، والحضور إليه مع كل ملوك أوربا لمبايعته ملكًا على العالم.

بيد أن البابا «اينوسيت» لم يفقد الأمل، فعاود الكَرَّة فى مايو عام ١٢٤٧م/٦٤٥ هـ، بإيفاد «أشلين اللومباردى» إلى القائد المغولى «بايتشو» فى تبريز، والذى بدا أكثر استعدادًا للتحالف مع الصليبيين، واقترح أن يقوم بمهاجمة بغداد، على أن يقوم الصليبيون فى ذات الوقت بشن هجوم بالشام لتطويق المسلمين، وأرسل الخان المغولى مبعوثين إلى روما بقيا عامًا فى ضيافة البابا، ولكنهما حينما عادا حملًا إلى «بايتشو» عتابًا من البابا على أنه لم يقم بشىء مثمر يخدم التحالف بينهما!

إبحار سفن الحملة الصليبية السابعة

إلى مصر!!

فى ٢٤ جمادى الأولى ٦٤٦ هـ / ٢٥ أغسطس ١٢٨٤م، أبحرت الأساطيل الصليبية المكونة من نحو ١٨٠٠ سفينة، والمحشودة بنحو ثمانين ألف مقاتل ـ أبحرت بقيادة لويس التاسع من مرفأ «إيجو ـ مورت»، وتوقف الملك وقفة تعبوية بجزيرة قبرص، انضم إليه فيها عدد كبير من بارونات سوريا وقوات من فرسان المعبد المعروفين بالداوية، والاستبارية التى قدمت من عكا.

وفى قبرص استقبل لويس وفدًا مغوليا ( !!!) سلمه رسالةً ودية من خان المغول، يعرض فيها خدماته للاستيلاء على الأراضى المقدسة وطرد المسلمين من بيت المقدس، وسرعان ما قبل لويس هذا العرض، وأرسل بهدية كنسية ثمينة تحمل بشارة الملائكة لمريم العذراء، لترغيبه فى اعتناق المسيحية، بيد أنه لسوء حظه، اعتبر المغول هذه الهدية أمارة خضوعهم لهم، وطلبوا إرسال هدايا إليهم فى كل عام، الأمر الذى أصاب لويس التاسع بصدمة شديدة لم يتوقعها!

احتلال دمياط

حين تقاطرت أنباء الحملة الصليبية السابعة القادمة عبر البحر، واستهدافها دمياط، فى شهر المحرم من سنة ٦٤٧ هـ / ٥ أبريل ١٢٤٩م، كان «الملك الصالح نجم الدين أيوب» قد قَتَلَ من شهور قليلة ـ فى الخامس من شوال سنة ٦٤٦ هـ / ١٢٤٨ م ـ أخاه «العادل الصغير أبا بكر»، ولم يكد يفرغ من دم أخيه المقتول شنقًا، حتى طالعته أخبار هجوم الصليبيين ونزولهم على البر الشرقى للنيل فرع دمياط، فَكَرَّ الملك الصالح عائدًا من حصاره لحمص فى الشام، ولكنه جاء محمولًا على محفة بسبب مرضه الشديد، ولم يمنعه مرضه من أن يصدر أوامره بالاحتشاد للصليبيين فى دمياط، وبعث بالأجناد، وشحن الأسلحة والعتاد والمؤن إليها، وأمر نائبه بالقاهرة الأمير حسام الدين بن أبى على بتجهيز الأسطول، وأرسل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ على رأس جيش كبير ليعسكر فى البر الغربى لدمياط استعدادًا لمواجهة الصليبيين.

وتحدث المؤرخون بأن لويس التاسع وقد هاله حشد المصريين على الشاطئ المقابل فى دمياط، آثر الترهيب والتهديد والتخويف، فأرسل إنذارًا إلى الصالح أيوب يهدده ويتوعده، فجاءه من الملك الصالح ردٌّ أشد قوة، يحذره من مغبة عدوانه وغطرسته وصلفه، فلم يجد لويس التاسع بدًّا من أن يأمر بالإنزال وبدء الهجوم.

وأطمعه أن الدائرة دارت فى البداية على المصريين، ونجح الصليبيون فى الاستيلاء على دمياط، ويتحدث المؤرخون بأن «نجم الدين أيوب» غالب مرضه الشديد، وأمر بحمله فى حَرَّاقة (ضرب من السفن) إلى المنصورة، بعد أن أمر بإعدام نحو خمسين من أمراء العربان لتهاونهم ومغادرتهم دمياط بغير إذن، وأعلن الملك من هناك النفير العام، فهرول الناس أفواجًا من كل أنحاء مصر إلى المنصورة لصد الغزاة الصليبيين، حيث بدأت المناوشات وحرب العصابات، التى نال فيها المصريون من جند الصليبيين، وأسروا أعدادًا كبيرة منهم، فاستغاث لويس التاسع طالبًا الإمداد، فوافاه من فرنسا أخوه «ألفونس دى بواتى»، وجاءته إمدادات تدعمه، واختار فى البداية السير إلى الإسكندرية، ولكنه عاد واستقر بناءً على مشورة البارونات على الاتجاه صوب القاهرة، ليضرب حسب تعبيره رأس الأفعى!

معركة المنصورة

والنصر المؤزر للمصريين

وأسر الملك لويس التاسع وأخيه!

يتحدث المؤرخون، بأن الصليبيين بعد نحو خمسة أشهر من استيلائهم على دمياط ـ بدأوا فى ٢٠ نوفمبر ١٢٤٦م/ ٦٤٧ هـ ـ الخروج من دمياط متجهين إلى القاهرة، وساروا على البر وسفنهم تسير بالتوازى معهم فى مياه النيل، وكان الحصار الذى أحكمه المصريون قد طال عليهم، وأضعفهم طول القتال وانقطاع «الميرة» عنهم، وأملوا فى قلب الموازين بالاتجاه إلى القاهرة، ولكن المصريين تمكنوا من حصار تقدمهم، وسدوا طريقهم فى النيل بالسفن المصرية، فحالت بينهم وبين الإمدادات القادمة من البحر الأبيض، وواجهوهم برًّا بجزيرة قبالة المنصورة، ويذكر الرواة أن المصريين نصبوا للصليبيين كمينًا بالمنصورة، فاستدرجوهم إليها بمظنة أنها صارت خاوية من الجنود والأهالى، فاندفع الصليبيون إلى المدينة، حيث فوجئوا بالمقاتلين المصريين يخرجون من الفجاج ويطبقون عليهم، ويأخذونهم بالسيوف من كل جانب، ويرمونهم بالرماح والمقاليع والحجارة، وأحدقوا بهم حتى سدت أمامهم السبل، ولجأوا إلى إلقاء أنفسهم فى النيل، واستمر المصريون فى ملاحقة فلولهم المنهزمة الهاربة، ولحقوا بهم عند «فرس كور» وهى «فرسكور الحالية»، حيث قاتلوهم قتالًا شديدًا، وقتل وأُسِرَ من الصليبيين ما قدره المؤرخون بالآلاف، وأُسِرَ فيمن أسر كثير من الأمراء، ووقع فى الأسر الملك لويس التاسع وأخوه، وكان ذلك فى المحرم سنة ٦٤٨ هـ/ ١٢٥٠م، واقتيدا إلى المنصورة، حيث حُبِسا ومعهما «الجنرال جوانفيل» أحد كبار قادة الجيش الفرنسى، فى دار «ابن لقمان»، وهى دار كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان، وتتابع التخلص من الأسرى الصليبيين الذين كان تعدادهم بالآلاف!

وجدير بالذكر أن الملك الصالح نجم الدين أيوب، كان قد توفى فى ١٥ شعبان ٦٤٧هـ/٢٣ نوفمبر ١٢٤٩م ـ قبل المعركة، فلم يفت ذلك فى عضد من حوله، ويتفق الرواة والمؤرخون على أن زوجته شجرة الدر ـ أم خليل المستعصمية ـ أخفت خبر وفاته، ولم تُعْلم به إلا كبار القادة، واتفقت معهم على إخفاء الأمر حتى لا ينكسر الجيش ويشتد أزر الصليبيين، فكان «السِّماط» (أى المائدة السلطانية) يمد فى مواعيده كالعادة كل يوم، وتصدر الأوامر باسمه بتوقيع شجرة الدر، التى جعلت تُوقع بخط مثل خطه، ومضت الأمور على هذا النحو حتى تحقق النصر المؤزر للمصريين.

واتفق الأمراء والقادة، على استدعاء «توران شاه» ليلى الملك، وهو ابن الملك الصالح أيوب، وكان بحصن «كَيْفَا»، وهو يقع فى بلدة عظيمة مشرفة على نهر دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر، وأرسل الأمراء والقادة لإحضاره ـ الأمير «فارس الدين أقطاى الجَمَدار الصالحى»، وهو غير أقطاى المستعرب أتابك العسكر فى عهد قطز، وجاءوا بتوران شاه ليتولى الحكم طبقًا لوصية أبيه، الذى كان قد كتب إليه كتابًا مليئًا بالعبر، ارتأى النويرى أن يورده لأهميته كاملًا بنصه فى موسوعته «نهاية الأرب».

كتاب الملك الصالح

إلى ابنه توران شاه

الذى حمل من الوصايا والعظات

ما يوحى بأن الأب كان عارفًا بعيوب ابنه

وهى هى التى أدت إلى مأساة قتله

صريعًا حريقًا غريقًا فى مياه النيل!!

ليس فى وسعى أن أورد نص هذا الكتاب المهم الذى استغرق اثنتى عشرة صفحة من القطع الكبير فى موسوعة النويرى، بيد أنه لا غناء عن الإلمام بأهم ما ورد فيه، وأدت مخالفته إلى «مأساة مصرع» الابن الذى خالف كل وصايا أبيه على طول الخط!

بدأه الملك الأب «الصالح أيوب»، بما يشبه الاعتذار لابنه وتفسير تأخره فى الاستعانة به، فيقول لابنه: «أنت تعلم ما سبب تأخير طلبك إلا ما أعلمه منك، من الصبيانية والجرأة وقلة الثبات، والملك لا يحتمل هذا!!».

ثم يوصيه باحترام وإكرام جميع الأمراء، وإقرار ورفع منزلتهم، فهم جناحه الذى يطير به، بيد أن حماقه الابن أدت بسوء معاملته لهم، وتآمره عليهم رغم دورهم الكبير فى تحقيق نصر المنصورة وفى توليته العرش ـ أدت إلى أن يجبهوا ضده ليكون قتله صريعًا حريقًا غريقًا بالنيل على أيديهم!!

مع أن أباه أعلمه فى وصيته أن المُلْك فى ابتدائه مثل الشجرة، تهب عليها رياح قد تقتلعها، بيد أن مضى الأيام والسنين كفيل بأن يقوى جذورها ويشتد ساقها فتصمد للعواصف.

ولكن الملك الابن تعجل القفز على أصحاب الفضل، وأضمر العصف بهم، وهو
لما يزل فى الشام، وقبل أن يصل إلى مصر، وأرسل يحرض على قتل الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، صاحب الدور البطولى فى هذه المعارك، دون أن يعلم أن الأمير كان قد قُتِلْ شهيدًا فى مقدمات المعركة، فلما وصل إلى مصر ـ لم يحمد لشجرة الدر أنها حافظت له على ملك أبيه، ولا للقادة، الذين حققوا النصر وبايعوه فى غيبته، فقلب لهؤلاء جميعًا ظهر المجن، وجعل يدبر للخلاص منهم بعد أن أساء معاملة وحساب زوجة أبيه وأم أخيه
خليل بن الصالح أيوب، فارتدت عليه الرياح، التى أشار إليها أبوه فى كتابه، لتقتلعه وتؤدى إلى مصرعه قتيلًا حريقًا غريقًا فى مياه النيل، قبل أن يكتمل شهر على ولايته السلطنة!

مقتل توران شاه!

يروى ابن تغرى بردى فى النجوم الزاهرة، والنويرى فى نهاية الأرب أن الأمراء والقادة إذ استوحشوا من «توران شاه»، وتأكد لديهم أنه أزمع الغدر بهم ـ اتفقوا على قتله، وبينما هو جالس على السِّماط (مائدة السلطان) فى ٢٧ من المحرم سنة ٦٤٨هـ /١٢٥٠م، تقدم إليه بعض مماليك أبيه البحرية، وضربه أحدهم بالسيف، فتلقاه بيده، وجعل يسأل بعد مداواة الجرح عَمّن ضربه، فلا يتلقى جوابًا، ويزعم له البعض أنه واحد من طائفة «الحشاشين»، وهم طائفة سميت بهذا الاسم، وهم من الباطنية من الشيعة الإسماعيلية، ولكن ذلك لم ينطل عليه، وأفصح لمن حوله أنه لم يفعل ذلك إلا المماليك البحرية: مماليك أبيه، وأقسم على أنه لن يبق منهم بقية!

هنالك سارع المتفقون على قتله ـ إلى التخلص منه، وإلاَّ أبادهم، فدخلوا عليه بالسيوف المشهرة، فهرب إلى أعلى البرج، وهو يستغيث ويقول لهم: «لا أريد مُلكًا! دعونى أرجـع إلى الحصن (يقصـد حصن كَيْفا)!!».. ولكنهـم لم يلقوا بالًا لاستغاثتـه ولا لكلامه، فتعلق مستجيرًا بالفارس أقطاى الجمدار، ولكنه لم يجره، وكيف يفعل وقد تأكد لديه أنه يزمع إبادتهم، وجعلوا ينهشونه بالسيوف، فألقى بنفسه فى النيل، ليموت قتيلًا حريقًا غريقًا ولم يمض شهر على ولايته الحكم!

ولم يكن سائغًا، ولا هو من تعاليم ومبادئ الإسلام، الذى تمسح به هؤلاء، أن تركوا جثمانه مقطعًا على شاطئ النيل حتى انتفخت جثته، دون أن يجرؤ أحد على دفنه، لولا أن شفع فيه رسول الخليفة، فحمل إلى ذلك الجانب ودفن فيه!

شجرة الدر

وتبادل القتل

بعد غروب الدولة الأيوبية!

كانت شجرة الدر صاحبة جمال، وصاحبة تدبير أيضًا، تحولت بمقتضاهما من جاريةٍ محظية للملك الصالح نجم الدين أيوب، إلى زوجةٍ له، وأعقبت منه نجلهما «خليل»، الذى كان لا يزال صبيًّا حين مات الصالح أيوب ثم قتل توران شاه، وتجلى تدبيرها فى إخفاء خبر موت الملك الصالح قبل معركة المنصورة، وإلزامها الأمراء والقادة بهذا الإخفاء، وقبولهم تدبيرها للأمور، ولم ينقطع هذا التدبير بعد مقدم «توران شاه» وانتوائه العصف بهم، فكانت شجرة الدر هى المدبرة لقتله والتخلص منه، وبقتله كانت نهاية الدولة الأيوبية، ولم يبق منها إلا بعض القائمين من الأسرة على بعض الثغور، وكانت من وراء تصفية وجود الصليبيين فى مصر، وانسحابهم منها بعد الاتفاق على إخلاء سبيل الملك لويس التاسع، ومن معه مقابل فدية قدرها ثمانمائة ألف دينار.

وكان من إكبار القادة والناس لها، أن ملكوها عليهم، وتسلطنت بعد قتل السلطان «توران شاه»، وخُطِبَ لها على المنابر، وكان الخطباء يقولون بعد الدعاء للخليفة العباسى: «واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية صاحبة السلطان الملك الصالح».

وبقيت شجرة الدر على ذلك لنحو ثلاثة أشهر، حتى خلعت نفسها إزاء المعارضة الشديدة، التى هبت على توليها، من داخل البلاد ومن خارجها بالعالم الإسلامى، وكان «العز بن عبدالسلام» فى مقدمة قادة هذه المعارضة لمخالفة ذلك للشرع، ولم تجد شجرة الدر حلًا لمشكلتها سوى أن تتزوج من الأمير «عز الدين أيبك» أتابك العسكر الذى توافق المماليك على مبايعته، وتسمى بعد توليته دست الحكم فى ٢٩ ربيع الآخر سنة ٦٤٩ هـ / ١٢٥١م ـ باسم «الملك المعز».

هذا وقد أقيم معه «الملك الأشرف الأيوبى»: مظفر الدين موسى، بن صلاح الدين يوسف، حفيد الملك الكامل الأيوبى ـ وعمره ست سنين، فأقام على ذلك زمنًا، ثم حجبه الملك المعز أيبك، واستقل وحده بالحكم، وبذلك انقرضت الدولة الأيوبية تمامًا من الديار المصرية.

تآمر شجرة الدر
والمعز أيبك

على قتل فارس الدين أقطاى الجَمَدار!

سرعان ما أدى الصراع على السلطة، إلى عداوة رفقاء الأمس، فتآمرت شجرة الدر مع زوجها «عز الدين أيبك»، الذى تسلطن، على قتل فارس الدين أقطاى الجمدار، مخافة اتساع نفوذه بين المماليك البحرية، واتفق أيبك على قتله مع مملوكه «سيف الدين قطز»، الذى تولى الحكم فيما بعد سنة ٦٥٧ هـ/١٢٥٨م، فاستدرجه إلى «قلعة الجبل» فى شعبان سنة ٦٥٢ هـ/١٢٥٤م، واغتاله وألقى برأسه من على أسوار القلعة إلى المماليك البحرية الذين كانوا قد تجمعوا بأسفل مطالبين بالإفراج عنه!

وتدور الدوائر!

وتُقتل شجرة الدر!

ما كاد يستقر الحكم للمعز أيبك، حتى أزمع الزواج ببنت الملك الرحيم «بدر الديـن لؤلؤ» صاحب الموصل، وما كان ذلك ليمر على شجرة الدر مرور الكرام، وهى صاحبة الفضل على ما تربع عليه زوجها، حاسبةً أنه سرعان ما سوف يغرق مع زوجته الجديدة ويعطيها ظهره، فسعت للتآمر عليه لقتله، وروى ابن تغرى بردى، أنها حاولت أن تقنع بذلك « صفى الدين إبراهيم بن مرزوق» وكان بمصر، ووعدته بالوزارة، إلا أنه أنكر عليها ذلك ونهاها عن الإقدام عليه، ولكنها لم تسمع لقوله، وعرضت أمرها على مملوك للطواشى « محسن الجوهرى الصالحى»، ووعدته ومنته أن قتل المعز! ثم استدعت جماعةً من الخدام، فلما كان يوم ٢٣ من ربيع الأول سنة ٦٥٥ هـ/ ١٢٥٧م، وثب عليه «سِنْجر الجوهرى» والخدم أثناء اغتساله فى الحمام، فخنقوه ورموه، وحاولت شجرة الدر أن تدارى ذلك، إلا أن الخبر ذاع، واضطربت الناس! وركب العسكر إلى جهة القلعة، وأحدقوا بها، ودخلها مماليك الملك المعز أيبك، واتفقوا على تولية ابنه «على»، بينما امتنعت شجرة الدر بدار السلطنة، اتقاءً لمماليك المعز أيبك والذين هاجموا الدار عليها، فحماها المماليك الصالحية.

فلما كان يوم الاثنين ٢٩ من ربيع الأول ١٦٥٥ هـ / ١٢٥٧ م، نجح مماليك المعز أيبك فى الوصول إليها، وأخرجت من دار السلطة إلى البرج الأحمر فحبست به وعندها بعض جواريها، وقبض على الخُدَّام القتلة، عدا من تسربوا إلى الشام، وصلبوا كذلك «سنجر» غلام الجوهرى الذى ظفروا به وصلبوه مع أستاذه «محسن الجوهرى».

أما شجرة الدر، فاستمرت أيامًا محتجزة بقلعة الجبل، وعلى بن المعز أيبك وأمه يحرضان المماليك المعزية على قتلها، والمماليك الصالحية تمنعهم عنها لكونها صاحبة أستاذهم الملك الصالح، وما زالوا على ذلك حتى وجدت قتيلة مسلوبة تحت سور القلعة، يوم السبت ١١ ربيع الآخر ٦٥٥ هـ/١٢٥٧م، ونسجت حول أسلوب قتلها الروايات، هذا وقد حملت جثتها حيث دفنت فى المدفن، الذى كانت قد أقامته مكان مدرسة بشارع الخليفة بالقاهرة.

كان هذا ختام الدولة الأيوبية فى مصر، ومن بعدها شجرة الدر والمعز أيبك، والتى وصلت فى سنة ٦٥٥ هـ / ١٢٥٧ م إلى خط النهاية!!

ولم تكن الخلافة العباسية أحسن حالًا، فقد كانت بدورها تعيش مأساة مطبقة، سنة ٦٥٦ هـ/ ١٢٥٨م فى عهد الخليفة العباسى السابع والثلاثين: «المستعصم بالله» ، الذى قُتِلَ وولدْيه بين يدى «هولاكو» بعد تخريب المغول لبغداد والاستيلاء عليها! ولتنتهى الخلافة العباسية فى بغداد بعد ٥٢٤ سنة من الحكم!!! ولذلك حديث آخر!!!

    الاكثر قراءة