الثلاثاء 10 ديسمبر 2024

ثقافة

أوركسترا لحن الخروج من الانكسار إلى الانتصار

  • 6-10-2024 | 09:20

أنور السادات وأم كلثوم

طباعة
  • د. محمد فتحي فرج

لا شك أننا استيقظنا في الخامس من يونيو سنة 1967على حالة من الهلع والفزع والضياع تلخصها كلمتان لا ثالث لهما وهما: انكسار الحلم! حتى إن بعض الفنانين والشعراء الذين أذكر منهم صلاح جاهين مثلا، لم يستطيعوا استيعاب هذا الحدث الذي لم يكن قط في الحسبان، فوقعوا فريسة للحزن الشديد الذي أسلمهم بسهولة إلى شرك اليأس والاكتئاب!!

كما أصيبت فنانة الشعب السيدة أم كلثوم بصدمة هائلة، وكادت تحجم عن الغناء، ولكنها في النهاية سلمت بأن هذه الجولة ليست نهاية المطاف، وأدركت بذكائها الفطري أننا قادرون على تجاوز هذه المحنة؛ ولذا فقد طافت أرجاء مصر والعالم العربي وبعض دول العالم الغربي، تجاهد بفنها وتجمع كل ثمين وغالٍ من أجل المجهود الحربي، عن طريق فنها وحنجرتها الذهبية. وما صنعته أم كلثوم كان نبراسا لغيرها من الفنانين الوطنيين كعبد الحليم حافظ غناء، وبليغ حمدي تلحينا، وعبد الرحمن الأبنودي تأليفا، وغيرهم.    

ولكن من يمن الطالع أن هذه الصدمة الفجائية المؤلمة مثلما أثرت في بعضنا سلبًا، وأسلمت نفرا قليلا إلى هوة اليأس، فقد استثارت على الجانب الآخر مكنونات الكثيرين من أبناء الوطن، واستنفرت ما لديهم من جهد، وعملت على تعبئة ما بهم من طاقات مختزنة؛ ليشرع كلٌ بطريقته الخاصة لمحاولة الخروج من هذا النفق المظلم، فأصبح مجتمعنا وكأن كل مواطن فيه عضو في أوركسترا كبير، لا شاغل ولا همَّ له إلا تشكيل معزوفة جديدة تماما، مختلفة عن اللحن الجنائزي الذي استيقظنا على أنغامه الحزينة في الخامس من يونيو 1967 إلى أناشيد الأمل والعبور من اليأس والهزيمة والانكسار إلى بهجة النصر والفخار بعودة الثقة والانتصار.

وانطلقت مقولة ناصر:

نعم انطلقت مقولة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وكأنها قانون كوني: "لا صوت يعلو على صوت المعركة" لتعبئة طاقات ومقدرات الأمة نحو إعادة بناء القوات المسلحة، وإعادة تأهيل قواتنا على الوجه الذي يكفل لها النصر عند المواجهة الحاسمة. ثم كانت كلماته التي نفثت في الأمة روح الصمود والتحدي، وهي على الرغم من أنها كلمات قلائل ولكن كان لها مفعول السحر الذي غير الواقع: "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"؛ ولهذا فقد سعى سعيا حثيثا نحو تسليح الجيش وتدريبه، وتكررت بل تواترت زياراته الميدانية لكل موقع من مواقع قواتنا المسلحة ليشرف بنفسه ويتأكد فعليا من جدية إعادة البناء والتدريب والتسليح. لكن القدر لم يمهله حتى يرى ثمار غرسه ، فاستكمل خلفه الرئيس الراحل أنور السادات المسيرة سعيا نحو النصر بمنهاجه الخاص، وذكائه الفطري، وصبره الطويل، وسياسته الحكيمة، وخطته المحكمة التي غلفها في إطار من السرية التامة حتى يوم المواجهة ، يوم السادس من أكتوبر 1973، يوم العبور العظيم.   

لغتنا الجميلة والجهاد الثقافي:

وعلى المستوى الفكري والثقافي مثلا، فكر رئيس الإذاعة وقتها الأستاذ محمد محمود شعبان (الشهير ببابا شارو) بطريقته لإحداث صحوة ثقافية بعقلانية وهدوء لنسترد هويتنا، ونستعيد مكانتنا، ونشعر أن لدينا كنوزا يمكن أن توقظ فينا قوانا الذاتية التي نسينا أننا نمتلكها. وكانت الإذاعة وقتها فارس الحلبة الإعلامية الذي لا يشق له غبار، فلم يكن التليفزيون قد تغوَّل وتسيَّد الساحة مثلما نراه الآن ، ولم تكن الشبكة العنكبوتية قد طرحت خيوطها المخلبية لتشمل معظم أرجاء الكرة الأرضة بين نسيجها الكثيف. فكان للإذاعة جمهور عريض خاصة البرنامج العام. 

ووقع الاختيار على الشاعر فاروق شوشة ليقدم برنامجا ثقافيا يستلهم التراث ولا يبتعد عن المعاصرة، ربطا للماضي بالحاضر، وسعيا نحو مستقبل أفضل وأجمل يبتعد بنا عما نشعر به من انكسار الوقوع في تلك الوهدة التي سقطنا فيها بحلول يونيو 1967. 

وقد كان الهدف غير المعلن للبرنامج العودة إلى التراث مع استشراف لآفاق المستقبل الرحبة من خلال لغتنا الجميلة، فلا ننسى أننا أصحاب ثقافة وتاريخ تليد، ولا ننسى أننا نعيش عصرنا الحاضر متسلحين بكل مقوماته التي تهيئ لنا المنافسة لامتلاك مكاننا اللائق بنا تحت الشمس. كان البرنامج حقا محاولة للفت أنظار العامة والخاصة إلى ما نمتلكه من مقومات وكنوز يتمثل أحدها في دُرَرِ لغتنا الجميلة. يقول الأستاذ فاروق شوشة في جزء من مقدمة كتابه المُجَمَّع من حلقات السنوات الخمس الأولى للبرنامج: تعطي هذه الفصول صورة واحدة متكاملة للغتنا الجميلة بين الماضي والحاضر، بين القديم والجديد، بين الجمال وأسرار البلاغة، بين ثورة الأسلوب وتجديد المجددين، بين واقع هذه اللغة ومشكلاتها المعاصرة مع ألفاظ الحضارة ـ أيْ مفردات الحياة العامة ومسمياتها ـ ومصطلحات العلوم ، بين صورتها الأولى المكتسبة بطابعيْها الصحراوي والموسيقي، وصورتها الحديثة المكتسبة بطابع المعاصرة والقدرة على الاتصال، والاتساع لروح العصر، ومنجزات الحضارة، وحصاد حركة الترجمة والتفاعل مع اللغات الأجنبية، أخذًا وعطاءً، هضمًا وتمثلا غِنَىً وكثافة ..". 

ثم يلفت انتباهنا لمقوماتنا وإمكاناتنا التي نمتلكها وعلى أساسها يمكن أن ننهض من جديد مستشرفين دائما نحو المستقبل مهما كانت التحديات، فيقول: "والعبرة التي نستخلصها من هذا كله أن لغتنا الجميلة ظلت عبر القرون الطويلة صامدة نابضة، بفضل انفتاحها المستمر على الحضارات والثقافات، واتجاهها الدائم إلى المستقبل، وأنها كانت تفقد حيويتها وجدتها ونبضها، عندما يتوقف انفتاح أصحابها على الجديد الذي تزخر به حياتهم، وينغلقون على أنفسهم مضغا واجترارا، وعندما يصبح الماضي مثلهم الأعلى المقدس، تتجه إليه رؤوسهم، دون أن تتجه إلى حيث الهدف الطبيعي، والغاية الأصيلة .. المستقبل! (فاروق شوشة: لغتنا الجميلة. مكتبة مدبولي بالقاهرة.  ص 8).      

صيحة أنيس منصور المُدوية:

أما في مجال الصحافة والإعلام، لا سيما الصحافة الثقافية التي كان يُرْمَزُ لها بشخصية مثقفة كأنيس منصور الذي كتب في كل شيء تقريبا، فقد خرج علينا بصيحة مدوية هي بمثابة ما يمكن أن نسميه بمصطلحاتنا الحالية "مبادرة"، ونادى بها عاليا في النوافذ الإعلامية التي كان يطل علينا منها، سواء في الصحافة أو من خلال الكتاب أو الراديو أو التليفزيون، والتي كانت تتلخص في جملة قصيرة دالة هي: "اعرف عدوك"، واستطاع الرجل أن يقنع الرأي العام بدلالة هذه العبارة فلسفيا وسياسيا واجتماعيا؛ بل وعسكريا أيضا. فأول شيء ينبغي أن تؤهل نفسك به في مواجة العدو أن تعرفه، فإن عرفته حق المعرفة، وقدرت حجمه الطبيعي دون تهوين أو تهويل فقد قطعت نصف المسافة نحو إحراز النصر عليه. وأخرجت المطابع عددا لا بأس به من الكتب في هذا المجال ، كما انشغلت الصحافة الثقافية من مجلات وصحف ومنشورات لتملأ هذا الجزء الشاغر من ثقافتنا، وهي محاولة وضع "عدونا" في المكان الصحيح، ووزنه بالقسطاس المستقيم ، لنعِدّ العُدّة بما يمكننا من  مواجهته بما هو أهله. لا تفريط أو تهوين من شأنه فنتكاسل ونتراخى، ولا إفراط في تقدير حجمه وقوته فنصاب بالخوف والهلع من مواجهته.  

صيحة ونبوءة الدكتور عبد الحليم محمود: 

الإمام الراحل الدكتور عبد الحليم محمود ـ طيب الله ثراه ـ من الأئمة العلماء العاملين، الذين اختصهم الله بكرمه، وقد زهد في الدنيا فأتته صاغرة، وأحاطه الله بهالة من المهابة المعطرة بأريج الحب والقبول، فأحبه الناس واحترموه ، فما قدر على الاجتراء عليه أو إحراجه صاحب جاه أو سلطان، وظل صاحب الكلمة الأولى في أمور الدين، طيلة شياخته للأزهر الشريف، إلى أن قبضه الله واختاره إلى جواره ـ أجزل الله له العطاء وجزاه الله كفاء ذوده عن حياض الإسلام خير الجزاء. وعلى الرغم من أنه كان أستاذا للفلسفة بكلية أصول الدين ، وألف فيها المطولات إلا أنه كان أيضا من أئمة التصوف البارزين في القرن العشرين، وقد ظهر أثر ذلك على مؤلفاته فقد كان ـ رحمه الله ـ يغوص إلى المعاني المستترة وراء الأمور الظاهرة وإلى بعض الأسرار والأفكار الخفية والمعاني اللطيفة التي تَدِقُّ على أفهام الكثيرين تارة، وقد يمرون عليها مرور الكرام تارة أخرى. بل إن اتجاهه ذاك قد ظهر أثره في عناوين كتبه من مثل: القرآن في شهر القرآن ـ أسرار العبادات ـ الحمد لله هذه حياتي ـ الإسلام والإيمان ـ القرآن والنبي ـ قضية التصوف الإسلامي ـ إحياء المفاهيم الإسلامية ، وغيرها الكثير والكثير(أكثر من 60 عنوانا). 

كان الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر في الفترة ما بين 1973 - ١٩٧٨(وتحديدا في 27 مارس 1973 أي قبل اندلاع حرب أكتوبر بنحو ستة أشهر وهي  الفترة الهامة قبل المواجهة الحاسمة)، وهو أصلا أستاذ عقيدة وفلسفة وتصوف فهذه هي عُدة الرجل، وعلمه الذي حصله ، وثقافته التي تشربها عبر مشواره العلمي إلى أن تبوء مِقْعَدَ الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر.  

وعلى هذا فلم يكن الرجل بعيدا عما أوكل إليه ، ونذر نفسه له من استنهاض الهِمَّة، وإيقاظ الأمَّة، وبث روح الأمل للنهوض والعمل، بكل طاقاتها المخزونة والمكتسبة، وهذا شيء طبيعي جدا بحكم علمه الذي حصله، وثقافته التي امتلك زمامها، وتجربته الروحية تصوفا عمليا، ومكانته الرسمية شيخا للأزهر الشريف، وإماما للمسلمين يأتم  به الجميع. ولهذا فقد التقى كثيرا بجنود وضباط القوات المسلحة لقاءات متعددة، يحمسهم ويشد من أزرهم، ويرفدهم بالأمل ويبشرهم  بالنصر المؤزر من واقع مسؤولياته كشيخ للأزهر الشريف، وعلمه دينيا وتاريخيا ، واستشعارا صوفيا وروحيا بما يجري ويكون. وقد سار على منواله أئمة المساجد وخطباؤها وعلماء الدين بشكل عام. 

وعلى هذا فقد كان النصر هو النتيجة المنتظرة، والنهاية السعيدة المتوقعة. هذا النصر الذي خرج كأنه معزوفة فريدة أو لحن جميل، تضافرت كل أعضاء فرقته في إخراجه على هذا النحو الرائع المتسق البديع، إنه لحن الخروج من الانكسار إلى الانتصار.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة