الخميس 21 نوفمبر 2024

ثقافة

مذكرات جرجي زيدان| الفصل الخامس «عزيمة وصبر» (6-4)

  • 23-10-2024 | 09:30

جرجي زيدان

طباعة
  • بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

هذا هو الفصل الخامس من هذه المذكرات القيمة، وهي كما يرى القارئ درس لشباب الجيل في العصامية، وقد وقف مؤسس الهلال في الفصل الرابع عند أمنيته وهو صغير في أن يصبح من أهل العلم، وفي هذا الفصل يروي كيف تحققت له هذه الأمنية.

الفصل الخامس: عزيمة وصبر

ولما اختمرت في ذهني فكرة دراسة الطب، واستقر رأيي على تنفيذها، بعد أن اقتنعت بفائدتها المادية، علاوة على فائدتها الأدبية، أفضيت بذلك إلى صديقى (شاول). فاقترح أن نسأل في هذا الأمر صديقنا (إسكندر البارودي) الطالب بمدرسة الطب وعضو جمعية (شمس البر).. واجتمعنا نحن الثلاثة في مقر الجمعية، فلما عرضت الأمر على (البارودي) سائلا عما تكلفني دراسة الطب من وقت ومال، استغرب إقدامي على هذا العمل الخطير، وصرح لي بأن طالب الطب يجب أن يمضي قبل ذلك بضع سنوات لتحصيل العلوم التي تؤهله لدراسة الطب، وهذا عدا وجوب تمكنه من معرفة اللغة الإنجليزية، وعلوم اللغة العربية، ثم أخذ يعدد العلوم التي لا بد من تحصيلها قبل الالتحاق بمدرسة الطب، وفي مقدمتها الحساب والجبر والهندسة والفلسفة والطبيعة والنحو والصرف والبيان واللغة الإنجليزية، وذكر أن طالب الالتحاق بمدرسة الطب يمتحن في هذه العلوم كلها، فإذا جاز الامتحان بنجاح، قبل طلب التحاقه، وعليه بعد ذلك أن يمضي في المدرسة أربع سنوات، يدرس خلالها الطب علما وعملا، ولا ينقل من سنة دراسية فيها إلى السنة التي تليها إلا بعد نجاحه في امتحان يعقد لذلك تحريريا وشفويا!".

وقد هالني الأمر بعدما سمعت منه هذه العلوم الكثيرة، ومنها ما لم أكن قد سمعت به من قبل كالجبر والهندسة، كما أنني لم أكن أعرف من العلوم الطبيعية غير شذرات قلائل من مطالعاتي في كتبها مع صديقي (سمعان الخوري).. على أنني برغم ذلك لم أستسلم للياس، ووجدت من فرط حبي للعلم ورغبتي في تحصيله ما يهون علي كل عسير.

فسالت صديقنا البارودي: «إذا أراد شخص مثلي دراسة هذه العلوم الإعدادية، فما هو الوقت الذي تستغرقه هذه الدراسة؟؟. وكان جوابه أن هذه العلوم تدرس عادة في سنتين بالمدرسة الكلية، ولكن النجاح فيها لا يكون إلا لمن يبدلون نشاطا واجتهادا في تحصيلها، ومع هذا هناك كثيرون من هؤلاء الناجحين قد رسبوا في امتحان القبول بمدرسة الطب فلم يتح لهم دخولها، برغم قضائهم فترة الصيف في استذكار الدروس استعدادا لدخول هذا الامتحان؟.

وهالني الأمر مرة أخرى، وكدت أنثني عن عزمي في هذه المرة، لولا أنني كنت كبير الثقة بنفسي فيما يحتاج إلى صبر واجتهاد، فسألته: «ألا يمكن تعلم هذه لعلوم في غير المدرسة؟» فأجاب بأن هذا ممكن ولكنه يحتاج إلى كتب ومراجع عديدة، كما قد يحتاج إلى الاستعانة على دراستها وفهم محتوياتها بمدرس خاص أو أكثر، وربما احتاج الأمر في هذه الحالة إلى وقت أطول! وكنا وقتئذ في أواخر السنة الدراسية، فقلت له: «إن العطلة الصيفية للمدرسة ستحل بعد قليل، فهل تظن أنني إذا اجتهدت في الدرس خلال هذه العطلة أستطيع استيعاب هذه العلوم، والتقدم لامتحان القبول، بالمدرسة أول السنة الدراسية القادمة ؟».

فنظر إلي وضحك استخفافا بهذا الرأي، وقال لي ذلك مستحيل.. بل أنا أعرف زملاء قضوا سنتين في درس هذه العلوم، ومع ذلك لم يجدوا في أنفسهم من الاستعداد ما يكفي لدخول امتحان القبول بالمدرسة في السنة الحالية، وهم الآن يواصلون الدرس والاستذكار لعلهم يستطيعون دخول الامتحان القادم، هذا إلى أنك لم تدرس مثلهم في مدرسة، وليست لك قدرتهم على استيعاب الدروس ! فقلت له: «على كل حال، لا بأس من أن أجرب حظي في ذلك!».

فقال: «جربه!» ولما طلبت إليه أن يكون أستاذي في تلقي هذه العلوم، لما أعهده فيه من الذكاء والقدرة على التفهيم بأسلوبه الحسن، أجاب بأنه يظن أنه لن يكون في بيروت أثناء الصيف، فإذا بقى فيها خلال العطلة فإنه يعطيني من الدروس في تلك العلوم بقدر ما يستطيع، قال ذلك من قبيل التشجيع والمجاملة، وإن كان في قرارة نفسه يعتقد أنني لا قدرة لي بحال من الأحوال على استيعاب تلك العلوم في مثل هذه الفترة القصيرة!.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة