الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

رسالة التنوير.. تاريخ اللبنانيين في مصر

  • 5-11-2024 | 13:00
طباعة

شهدت مصر ارتفاعًا في الهجرة اللبنانية إلى مصر بين القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. نظرًا لأن لبنان كان جزءًا من سوريا العثمانية خلال هذا الوقت فقد هاجر المسيحيون من جميع أنحاء بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين) إلى مصر كجماعة واحدة تحت اسم الشوام. وبالتالي فإنه مصطلح شامل لمجتمعهم وهو»السوريون اللبنانيون».

زاد عدد اللبنانيين في مصر بشكل كبير خلال الصراع في لبنان عام 1860 والذي قُتِل فيه الآلاف من المسيحيين إلى جانب تدمير مئات من قراهم. كانت الغالبية العظمى من المهاجرين اللبنانيين وغيرهم من المشرقيين الذين وصلوا إلى مصر متعلمين جيدًا ويتحدَّثون الفرنسية. فقد كان الكثير من هؤلاء يعيشون في القاهرة في القرن السابع عشر، وربما قبل ذلك. كان أكثر هؤلاء المهاجرين الشوام من طائفة الروم الكاثوليك، الذين أتوا إلى مصر للتجارة من فلسطين وسوريا. وازداد عددهم بعد الانقسام الذي دبّ في الكنيسة في دمشق عام 1724، حيث ادعى كل من كيرلس وسلفستروس تبوء سدة البطريركية. ومارس الأخير الاضطهاد على أنصار خصمه بفضل تأييد الباب العالي له، بإيعاز من البطاركة الأروام في القسطنطينية. كان معظم المهاجرين من أصحاب التجارة الواسعة وأهل الصناعات العالية كُتَّابًا في الدواوين، كما كان عددٌ منهم من الحرفيين وخاصة فئة نساجي الحرير، وجاء فريق آخر منهم إلى مصر طلبًا للعلم والدراسة في الأزهر.

أقام أكثر المهاجرين الشوام في أول الأمر في دمياط، الميناء المهم في مصر في ذلك الوقت. وإلى جانب الأرمن، شكَّل المهاجرون الشوام واسطة عقد كل تجارة بين الشرق والغرب. وسكن بعض كبار التجار الشوام في بولاق على النيل؛ ليكونوا على اتصالٍ بدمياط بطريق النهر. 

أما الإسكندرية فقد عمل فيها أكثر المهاجرين الشوام في النشاط التجاري والصناعي، فكان منهم تجار الجبن والتمر والبهارات والأخشاب والدخان والخبازين والطحانين والدباغين. وبحلول عام 1870 أو ما قبله، ومن خلال التجارة والصفقات الملكية، كانت عائلات سرسق ودبانة وزنانيري وزغيب، التي ترجع أصولها إلى بلاد الشام، قد أصبحت من أغنى العائلات في الإسكندرية.

كما استقر الشوام في الغربية بمدن المحلة الكبرى وطنطا ومحلة حسن، وكان أكثرهم من ذوي النشاط الحرفي الصناعي بجانب الفلاحة، إلى جانب أعداد قليلة في الجيزة والشرقية والصعيد.

ساهم الشوام في إثراء الحياة الثقافية والفكرية في مصر، وكان أغلبهم من ذوي التعليم العالي، وساعدتهم ثقافتهم وأفكارهم على تقبل المفاهيم الغربية والعمل بها. وقد ساعدهم ميلهم إلى العمل في ميدان الصحافة على نشر الأفكار والآراء الغربية الجديدة في المجتمع المصري . وهكذا برز في النقاش حول مسألة القومية العربية والتنوير الفكري، كلٌ من يعقوب صروف (1852- 1927) وشبلي شميل (1850-1917) وفرح أنطون (1874- 1922) وجورجي زيدان (1861- 1914)، وسليم النقاش وأديب إسحق (1856- 1885). كما ازدهر المسرح والدراما في مصر بفضل مشاركة الفرق الوافدة من الشام اعتبارًا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

وكانت أولى الفرق الشامية التي هاجرت إلى مصر هي فرقة سليم النقاش وأديب إسحق التي وفدت عام 1876. وأحدث أبو خليل القباني تأثيرًا هائلًا في المسرح المصري، ومن أبرز مسرحياته تلك التي اقتبسها من الفولكلور العربي والتاريخ الإسلامي ومن "ألف ليلة وليلة". وتعد فرقة إسكندر فرج آخر الفرق الشامية التي أسهمت في إرساء قواعد المسرح المصري. استمرت فرقته "الجوق المصري العربي" تعمل 18 عامًا (1891- 1909)، وكانت تمثل مسرحية جديدة كل شهر.

وعند الحديث عن الشوام في مصر، ثمة حقيقتان أساسيتان: الأولى، هي دور الشوام في تأسيس الصحافة المصرية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ("الأهرام"، "الهلال"، "المقطم".. إلخ). فقد أصدر الشوام في مصر أكثر من 220 صحيفة ومجلة في الفترة من 1866 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. والحقيقة الثانية هي دور مصر في استقبال الصحفيين والكُتاب الشوام، وفي فتح الأبواب الاقتصادية أمامهم وأمام الهجرة الكبرى من لبنان إلى الإسكندرية والمنصورة وبورسعيد والقاهرة. 

وإذا كانت الموجة الأولى لهجرة الصحفيين الشوام قد توقفت بعزل الخديو إسماعيل وتولي الخديو توفيق الذي أغلق عددًا من الصحف الشامية التي كانت تُعبِّر عن الحركة الوطنية، فإن الموجة الثانية من الصحفيين الشوام تدفقت على مصر عقب الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، واستمر هذا التدفق حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918.

لم يكن الشوام بارزين فقط في حقل الصحافة، بل الذي ساعدهم ودعم وجودهم هو بروزهم كمجموعة اقتصادية صناعية تجارية كبرى في بلد مفتوح للأجانب، يوم كانت الإسكندرية هي الحاضرة المتوسطية الأولى، وميناء المتوسط الذي لا يهدأ، تجارة ونقلًا ومبادلات. وكذلك كانت بورسعيد وحركة القناة. وقد حاز المهاجرون اللبنانيون على الاعتبار بسبب هذا الدور، وليس فقط بسبب دورهم في الصحافة. غير أن الصحافة بطبيعتها تبرز أصحابها وأهلها فيما يميل رجال المال والاقتصاد إلى الانزواء الاجتماعي. وقد برز من هؤلاء كثيرون: فاطمة اليوسف (1897- 1958)، وبشارة تقلا (1852- 1901)، وأنطون الجميّل (1887 -1948)، وجرجي زيدان، وكريم ثابت. وكان الجميّل رئيسًا لتحرير "الأهرام" وعضوًا بارزًا في مجلس الشيوخ. أما كريم ثابت فقد انتقل من الصحافة ليصبح المستشار الصحفي للملك فاروق، قبل أن تدور حوله شبهات بأنه كان أبرز الفاسدين الذين ورّطوا فاروق في سقطات أدت في نهاية الأمر إلى سقوط الملكية في مصر.

والثابت أن عددًا من السوريين واللبنانيين المتمصرين الذين نزحوا إلى مصر في شبابهم، وفقوا في جمع ثرواتٍ طائلة، ومنهم إلياس يوسف الذي اشتهر بتجارة القطن في القرن التاسع عشر. وفي مطلع القرن العشرين، تصدر قائمة الأغنياء من السوريين واللبنانيين المتمصرين كلٌ من حبيب باشا سكاكيني والكونت شديد.

وفي ثلاثينيات القرن العشرين، كانت القائمة المذكورة تضم سمعان صيدناوي بك صاحب المحل الشهير الذي يحمل اسمه، ولم يكن هناك في مصر من لا يعرف "بنك سمعان" كما يسميه العامة. قُدِّرت ثروة سمعان صيدناوي في تلك الفترة بنحو 3 ملايين جنيه. 

ومن كبار أغنياء السوريين واللبنانيين المتمصرين في الفترة نفسها، د.فارس نمر صاحب جريدة "المقطم". وبعد أن أتم فارس نمر دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت اشتغل بالتدريس فيها لسنوات. أنشأ مع زميله يعقوب صروف مجلة "المقتطف"، ثم نزحا إلى القاهرة وأصدرا "المقطم" مع زميلهما شاهين مكاريوس بك. كان د.نمر آنئذٍ في الثالثة والثلاثين من العمر، فلم يقصر جهوده على الصحافة بل اشتغل بالزراعة أيضًا.

امتلك د.فارس نمر أراضي واسعة تولى إدارتها نجله ألبرت بك، وبلغت ثروته عام 1932 نحو مليون جنيه. وكان الرجل شريكًا مع رفيق عمره يعقوب صروف في أملاكهما، ولم يعملا على تقسيمها إلا بعد أن تقدم بهما العمر وكبر أولادهما. وقد ظلا لفترةٍ طويلة يسكنان عمارةً واحدة ويذهبان إلى مكتبيهما معًا، إلى أن اشترى د.نمر بيتًا في المعادي، وبنى صروف لنفسه بيتًا في قصر الدوبارة.

ومن أغنى السوريين واللبنانيين المتمصرين في ثلاثينيات القرن العشرين، ألفريد شماس الذي عُيّن عام 1923 عضوًا في مجلس الشيوخ، واهتم بزراعة القطن، وقُدِّرَت ثروته بنحو 300 ألف جنيه. الطريف أنه كان قد خسر ثروته الأولى في فترةٍ سابقة، ثم عاد واستردها وزاد عليها. بنى ألفريد أفندي دارًا جميلة في مصر الجديدة وسماها "شاتو"، وأقام فيها حفلاتٍ عدة، لعل أشهرها الحفل التي أقامها لعددٍ من أصدقائه ومعارفه ليتفرجوا على جوادٍ عربي أهداه إلى ولي عهد البلجيك، عقب لقاء ودي بينهما في بروكسل. وبعد مدةٍ أنعم ملك بلجيكا على ألفريد شماس بنيشان التاج من رتبة كومندور، فأصبح الكومندور ألفريد شماس.

لم يكن في مظهر ألفريد شماس ما ينم على جاهٍ أو غنى؛ إذ كان قليل العناية بملبسه وهندامه. وقد ظل حتى عام 1930 يقتني مركبة يجرها جوادان مطهمان، ولا يتنقل باستخدام سيارة. لم يرزق ألفريد شماس وزوجته أبناء، فتبنى طفلا منحه اسمه، وأتى له بمربيةٍ إفرنجية.

ومن أغنياء السوريين واللبنانيين المتمصرين قبل الحرب العالمية الثانية، برز "الخواجة" أسعد باسيلي تاجر الخشب الشهير، و"الخواجة" شكرالله الذي اشتغل في تجارة الحديد، و"الخواجة" إدوار كرم شقيق توفيق كرم، الذي قتلته عصابة من الألمان -يتزعمها كلاوزن ودويلتش- في داره في "كارلتن" برمل الإسكندرية. حوكم المتهمان أمام محكمة القنصلية الألمانية وصدر حُكم بإدانتهما وسجنهما 8 سنوات جراء السرقات وبالأشغال الشاقة جراء قتل توفيق كرم .

وفي سيرته الشائقة "خارج المكان"، قدَّم إدوارد سعيد أحد أكثر التحليلات دقة وثراءً عن بقايا الشوام في مصر التي سكنوها بداية من مطلع القرن التاسع عشر، إلى أفول نجمهم في منتصف القرن العشرين، وبيَّن أنهم كانوا أكثر قربًا من الناحية الذهنية للأقليات الأجنبية من المصريين، وأنهم ظلوا يشكلون عالمًا شبه مغلق، يغلفه قلق متواصل من الاندماج الممزوج بدرجة من التعالي.

انحسرت ظاهرة الشوام في مصر بعد ثورة 1952، التي تعتبر الحد الرمزي الفاصل لقوة الأقليات الأجنبية، وإن كان دورهم الاقتصادي موجودًا على استحياء عبر عائلات ذات أصول شامية اختلطت بالمصريين وارتبطت معهم بعلاقات مصاهرة، ذابت فيها الكثير من الانتماءات، لتبقى الأصول الشامية مجرد جزءٍ من ذاكرة العائلة وألبومها القديم، وفرعًا من شجرة الأنساب التي يُقلِّبُ البعضُ صفحاتِها بين الفينة والأخرى.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة