الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

بيروت منارة الثقافة العربية التي نسَّقت مع القاهرة دائمًا

  • 5-11-2024 | 11:43
طباعة

سافرت إلى لبنان مرة واحدة فى ظروف صعبة وعصيبة كانت تمر به. قضيت يوماً وعُدتُ آخر النهار. لكنى أدركت يومها أن بيروت مع القاهرة وغيرها من العواصم العربية الأخرى يُمكن أن تقود نهضة ثقافية عربية شاملة. وعبر الزمان عند التضييق على النشر فى مصر، كان المؤلفون المصريون يلجأون إلى بيروت. 

نفس الشيء فعله المثقفون السوريون والعراقيون والأردنيون والمثقفون فى شمال إفريقيا كله. وكان دور بيروت دائماً وأبداً يأتى بعد القاهرة، أو بالتعاون والتنسيق معها. وحتى عندما ضاقت الأمور على النشر فى بيروت لم يجدوا أمامهم سوى المجيء إلى القاهرة أو الرحيل إلى أوروبا.

ولعل من أهم الصحفيين فى لبنان المعروف بعروبته وانتمائه القومى لكل ما هو عربى طلال سلمان صاحب جريدة السفير التى كانت توزع فى كل أنحاء الوطن العربى، وشكَّلت فاصلاً مهماً فى تاريخ الصحافة العربية فى لبنان. قصة لبنان مع الثقافة والمثقفين والإبداع الأدبى تستحق أن تُروى هنا والآن.

ظهرت ثقافة لبنان والشعب اللبنانى من مختلف الحضارات على مدى آلاف السنين، وكانت موطن الفينيقيين واحتلها وغزاها الآشوريين والفُرس والإغريق والرومان والعرب والصليبيين والعثمانيين والفرنسيين، ويعبر هذا التنوع عن نفسه فى تنوع سكان لبنان وثقافتهم، كتابة وقراءة. وتآلفه مع مجموعة من الديانات المختلفة وتميزه بالمهرجانات والأنماط الموسيقية والأدب والهندسة المعمارية اللبنانية.

واستناداً إلى المادة 11 من الدستور اللبنانى، والتى تنص على أن اللغة العربية هى اللغة الوطنية الرسمية، ويحدد القانون الحالات التى تستخدم فيها اللغة الفرنسية، ويتحدث اللبنانيون اللغة العربية فى الأماكن العامة والموسيقى والأدب الأصيل فى منطقة البحر الأبيض المتوسط، وقد لعبت جغرافيا البحر الأبيض المتوسط الجبلى فى لبنان دوراً فى تشكيل تاريخ لبنان القديمة وثقافتها. أجرى علم الآثار من لبنان اكتشاف حول المنطقة القديمة.

فنـون لبنانيـة

تنافست بيروت مع القاهرة فى مطلع القرن العشرين لتكون مركزاً رئيسياً للفكر العربى المعاصر، بالإضافة إلى العديد من الصحف والمجلات والجمعيات الأدبية، وأصبحت بيروت مركزاً مزدهراً للثقافة العربية.

الأسماء الأدبية التى خرجت من لبنان صنعت حضارة أدبية سرعان ما أصبحت جزءاً من الحضارة العربية، وقُرِأ أدباء لبنان فى كل مكان فى الوطن العربى والأمة الإسلامية، ومن أبرزهم: جبران خليل جبران "1883 – 1931"، معروف بشكل خاص بكتابه النبى (1923)، الذى تُرجِمَ إلى أكثر من عشرين لغة مختلفة. حقق العديد من الكُتَّاب اللبنانيين المعاصرين نجاحاً دولياً أيضاً، بما فى ذلك إلياس خورى وأمين معلوف، وحنان الشيخ، وجورج شحادة، وسهيل إدريس الروائى وصاحب دار الآداب أهم دار نشر فى بيروت، والأديبة غادة السمَّان.

وسعيد عقل وهو سياسى وشاعر وكاتب ولد عام 1912 فى لبنان، بالتحديد فى زحلة، وتوفى عام 2014، وهو شاعر لبنانى يعتبر من أبرز الشعراء اللبنانيين المعاصرين، عمل فى التعليم والصحافة، كما أنه من أكبر المدافعين عن تداول اللهجة اللبنانية، غنى شعره كثير من كبار مطربى لبنان.

بلد الشعراء والأدباء

أنسى الحاج، شاعر وصحفى وكاتب ومترجم "1937 – 2014"، يعود له الفضل فى إثراء المحتوى الفكرى والشعرى العربى بالعديد من الأعمال الخالدة، إضافة إلى ترجمته للكثير من مسرحيات شكسبير وألبير كامو وغيرهما الكثير. وإيليا أبو ماضى "1889 – 1957" شاعر وصحفى وناشر لبنانى من شعراء المهجر ومؤسسى الرابطة القلمية التى ضمت جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة، وغيرهم العديد من الأدباء والشعراء الذين خطّوا بأقلامهم أجمل أثر.

طلال حيدر "1937" شاعر وكاتب مسرحى ومدرس وممثل، غنى لبنان من قصائده، ليشدو به فنانوها. تشهد الدواوين على تاريخه وعلى براعة ما خط قلمه لنا لندرك الحقيقة الكامنة وراء التفاصيل الصغيرة، والجمال القابع خلف أسوار قلبه. هناك أيضاً جوزيف حرب "1943 – 2014" شاعر وكاتب ومحامى ومدرس، وكتب أجمل أغانى فيروز مطربة لبنان الأولى، ومستمعيها يعدون بالملايين.

جبران خليل جبران "1883 – 1931" رسام وشاعر وفيلسوف ورسام وكاتب مقالات، أقام العديد من المعارض للوحات التى كان يرسمها، وقدم العديد من المؤلفات من روايات وأشعار باللغتين العربية والإنجليزية. وعاصى الرحبانى "1923 – 1986" كاتب مسرحى وملحن وموسيقى، وواحد من اثنين شكلا فى تاريخ الموسيقى العربية ما عُرِفَ بالأخوين رحبانى وهما عاصى ومنصور رحبانى.

ثقافة بيروت

غياب الدور الفاعل لوزارة الثقافة هو غياب للمُبادر الذى تقع عليه مسؤولية التخطيط وتأمين الدعم المالى واللوجستى من أجل إنماء قطاع يمكن أن يكون مساهماً أساسياً فى الاقتصاد، مثلما تحل الثقافة كقطاع منتج فى نماذج اقتصادية عدة حول العالم.

تأسست وزارة الثقافة فى لبنان عام 2000، قبل هذا التاريخ كان القطاع الثقافى ملحقاً بالتعليم منذ استحداث وزارة الثقافة والتعليم العالى عام 1993، أما عام 2008، فقد تم إقرار مجموعة من القوانين التى أعطت وزارة الثقافة تنظيمها الحالى فأصبحت تضم تحت جناحها: مديرية الآثار والمتاحف، والمتحف الوطنى، والمعهد العالى الوطنى للموسيقى بفروعه، والمكتبة الوطنية فى الصنائع، وشبكة المكتبات العامة بفروعها، والمتحف الافتراضى، والمركز الدولى لعلوم الإنسان، واللجنة الوطنية اللبنانية للتربية والعلم والثقافة. أما ميزانية الدولة، فهى مكلفة بكل المهام المذكورة بميزانية سنوية تساوى ميزانية 4 مراكز ثقافية مستقلة فى بيروت فقط.

وبالتالى يمكن لأى مواطن عامل فى القطاع الثقافى أم لا، أن يسأل: هل لدى الوزارة بيانات وقوائم بالفنانين والمراكز الثقافية والفنية فى لبنان؟ هل لدى الوزارة إحصائيات حول الجمهور فى المركز والأطراف؟ ميولهم؟ حاجاتهم؟ هل لدى الوزارة خطة محددة زمنياً وميزانية واضحة من أجل تنظيم ودعم القطاع الثقافى؟ هل الوزارة وهى المبادرة فى الرقابة على المنتجات الثقافية تقوم بدورها؟.

الجواب على هذه الأسئلة بين نعم ولا. كيف يعمل هذا القطاع إذن؟ وكيف تتم عملية الرقابة على الأعمال والمنتجات الفنية والثقافية؟. ومن أجل تبسيط الإجابة، يمكن القول إن واقع القطاع الثقافى فى لبنان يشبه إلى حدٍ كبير القطاعات الاقتصادية الأخرى. من ناحية، هو قطاع يعتمد على رعاية الممولين من القطاع الخاص، كالمصارف والشركات الكبيرة. ومن ناحية أخرى، هو قطاعٌ يعتمد على التمويل الخارجى من خلال المنظمات والمؤسسات المانحة. فتكون الوزارة فى هذه الحالات، إما وسيط تمر تمويلات المشاريع الرسمية من خلاله، أو مجرد راع معنوى للفعاليات الثقافية.

قطاع ثقافى مستقل

إن هذا النهج الذى تم إرساءه فى لبنان ما بعد الحرب الأهلية سمح من ناحية بإنشاء قطاع ثقافى مستقل يعمل فى شتَّى المجالات الثقافية فى المركز والأطراف (وإن كان مازال يعانى من المركزية إلى حدٍ كبير)، ولكنه، من ناحية ثانية ساهم بإضعاف الوزارة كقطاع عام، وبالتالى حصر دورها وتقليصه.

السؤال فى القطاع الثقافى، شأنه شأن القطاعات الأخرى، هو كيفية إدارة المال العام.. أما فيما يخص الرقابة، فإن توثيق حالات الرقابة على الأعمال الفنية تشير فى السنوات الماضية إلى جهات عدة غير وزارة الثقافة قامت بالمنع أو القمع أو المحاسبة. تضم هذه الجهات مكتب الرقابة التابع للأمن العام، والسلطات الدينية على اختلافها، إلى جانب مكتب مقاطعة "إسرائيل" الذى يعمل على إيقاف الأعمال الفنية المرتبطة بالاحتلال، وبالتالى لا يمكن الادعاء بأن لوزارة الثقافة فى لبنان دور فعال فى تصنيف المهن الثقافية وتحديد مجالاتها بشكل يسمح لها بوضع خطط داعمة للقطاع.

هل يريد القطاع الثقافى المستقل أن تقوم الوزارة بتفعيل دورها، وبالتالى أن تتمكَّن من فرض شروط على العاملين فيه؟ لا شك أن معظم العاملين فى القطاع سيجيبون بالنفى. فإن العمل دون قيد أو شرط يعطى هامشاً واسعاً من حرية الإبداع والتعبير للعاملين فى القطاع من مؤسسات وأفراد. وهو حق من الطبيعى أن يتمسك به الأفراد والمجموعات. ولكن هذا الجواب ينطلق من اعتبار أن تفعيل دور الوزارة يساوى فتح باب إضافى للرقابة على الأعمال والمنتجاب الفنية، وبالتالى تضييق مساحة الحرية والإبداع.

سياسات لبنان الثقافية

ولكن، إذا ما ذهبنا أبعد من مجرد تخيل دور الوزارة كأداة إضافية للرقابة، نستطيع طرح مفهوم السياسات الثقافية التى تتشارك مسؤولية وضعها وسير تنفيذها وتطويرها جهات عدة. ومن ناحية أخرى المؤسسات المعنية فى القطاع المستقل والنقابات إلى جانب الجهات الرسمية التشريعية (ودورها فى سن قوانين جديدة راعية لعمل هذا القطاع وتطوير القوانين الموجودة).

وقد عقد منتدى الفكر العربى لقاءً حوارياً عبر تقنية الاتصال المرئى، حاضرت فيه الباحثة والإعلامية الشاعرة ماجدة داغر، تحت عنوان: الوطن الأيقونة: لبنان بين التراث والحداثة والإشعاع الفكرى الحضارى.

وشارك بالمداخلات فى هذا اللقاء الذى أداره الوزير الأسبق الدكتور محمد أبو حمّور، كل من الكاتب والإعلامى إلياس الزغبى، والمسرحى والناقد عبيدو باشا، والأديب سليمان بختى، والروائية والأديبة اللبنانية نرمين الخنسا، والكاتب والإعلامى العراقى الدكتور على الموسوى.

أوضحت المحاضرة ماجدة داغر أن للبنان دور رائد فى الشرق، وأنه بوابة الثقافات والنهضة والتنوير، والحرية والانفتاح، والصحافة والفنون والثقافة، وكان دوره هذا أقوى من محاولات حاربت التقدم والجمال والازدهار فيه، مشيرة إلى أن غِنى أرض لبنان وتعدد مواردها الطبيعية والإنسانية وتراثها التاريخى عبر أكثر من سبعة آلاف عام.

المسرح والموسيقى

تناول المتداخلون دور لبنان فى الصحافة والإعلام والمسرح والموسقى والفن، والنشر ودوره فى النهضة الأدبية والثقافية العربية، وأهمية معرض بيروت العربى الدولى للكتاب فى التعبير عن الحركة الثقافية والوحدة الاجتماعية والوطنية اللبنانية. وأشار المتداخلون إلى دور لبنان فى الحوار الدينى والإنسانى والتنوع والتعددية، والانفتاح على العالم شرقاً وغرباً، والأسباب المؤدية إلى النهضة الثقافية فى لبنان، وسبل استعادة فاعليته الثقافية.

وأشارت داغر إلى أن الصحافة فى لبنان تولت الدفاع عن كيان لبنان واستقلاليته وحريته، والدفاع عن القومية العربية والحركة الاستقلالية والنضال ضد المحتل والمستعمر، فكانت صحافة عربية على نطاق شعبى واسع، وفى جبل لبنان تأسست أول المطابع اللبنانية.

وأشار الدكتور محمد أبو حمور إلى أن رئيس منتدى الفكر العربى وراعيه الأمير الحسن بن طلال أكد فى عدة مناسبات دور لبنان الحضارى، ووصف بيروت فى كلمته الافتتاحية لمؤتمر المواطنة فى المجال العربى: الإشكالية والحل بأنها منارة لبنانية، وهى التاريخ والحضارة ومن ينابيع الفكر القانونى والفكر الإنسانى فى القضايا الكُبرى.
ضرورة الصحافة والإعلام

وقال المحامى اللبنانى الأستاذ إلياس الزغبى: إن الصحافة والإعلام فى لبنان كانا ضرورة مُلحّة لتنشيط حركة النشر ومواكبة النهضة العربية فى القرن التاسع عشر، كما أنهما كانا وسيلة للشعب اللبنانى للنهوض بأشكاله كافة، وأن دور الصحافة والإعلام الرائد فى نشر الثقافة والحضارة فى لبنان قام على تفاعل طبيعة لبنان الجغرافية والبشرية والعيش المشترك فى حالة الانفتاح على العالم، ورابطة الحبر والدم التى ميزته فى الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.

ذلك أن الصحافة قدمت العديد من الإعلاميين الصحفيين وأصحاب الرأى والأدباء كشهداء، مؤكداً بأن لبنان سيظل صامداً على الرغم مما يعصف به من أزمات وصعوبات، وأنه سيبقى طالما بقيت الصحافة والكلمة فهما أساس التنوير والثقافة فيه.

وأشار المسرحى والناقد عبيدو باشا إلى أن الشخصية اللبنانية تتسم بأنها حرة وبعيدة عن السلطة المركزية، وقد صنعت العديد من الأحداث المهمة والمفصلية فى تاريخ الدولة، مؤكداً أن ما يميز لبنان تعرضه إلى صراعات وأزمات عديدة منذ نشأته إلى اليوم ساهمت فى تشكيل هويته الثقافية والحضارية.

وقال الأديب والناشر سليمان بختى: إن لبنان شهد تاريخاً مميزاً ومضيئاً فى مجالات النشر والنهضة الأدبية، وهذا امتداد لدوره فى حركة التعليم والثقافة والفنون، مشيراً إلى قيام لبنان بدور أساسى فى الحفاظ على اللغة العربية والثقافة والإرث العربى، كما أكد ضرورة الاستمرار فى الحفاظ على الروافد التى صنعت الإرث الثقافى فى لبنان، والحفاظ عليها وتطويرها والعمل على تحويل الإبداع والفكرة إلى نهضة، موضحاً الأثر الكبير للعقول الثقافية المهاجرة، والبحث عن سبل الخروج من تداعيات انهيار الاقتصاد اللبنانى وكذلك أثر جائحة كورونا على المناشط الثقافية العربية واللبنانية، وتأثيرات الحرب الأخيرة عليها.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة