الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

أبو العلائنا.. عميد التحدي

  • 13-11-2024 | 18:34
طباعة

لم يكن ثمة ضرير وضع نفسه موضع الفارس مثلما فعل طه حسين، متمرد رسم طريقاً مغايراً لأمثاله من العميان، صغير فقد بصره في الرابعة من عمره فكانت هذه الإعاقة نقطة انطلاق كفاحه من كُتّاب قريته إلى وزارة المعارف.

 شبيه أبي العلاء رهين المحبسين، وصديقه الأثير تجمعهما آفة العمى و يميزهما نفاذ البصيرة، وهذا ما جعل لطفي السيد يطلق على طه حسين "أبو العلائنا" -بمخالفة القواعد النحوية- نسبة إلى أبي العلاء المعري الشاعر العباسي الذي كف بصره في نفس العمر الذي فقد فيه طه حسين بصره.

 نهل طه حسين من أدب صاحبه شعراً و نثراً و تأثر به إلى حد بعيد وسار على  نهجه في أكثر دروب حياته، فقد عاش طه حسين حياة ليست باليسيرة اجتماعياً واقتصادياً ظهر أثرها في إنتاجه الأدبي مثله مثل المعري، فظهر التشاؤم والسوداوية سمة مشتركة لازمت الصديقين جراء ما مر بهما، وليس هذا ما اشترك فيه الصاحبان فقط، فقد فُتن طه حسين بحرية المعري العقلية ورفضه التبعية الفكرية وسلوكه طريق العزلة متسلحاً بإرادة فولاذية وكبرياء فكري وثقة بلا حدود في نفسه، مما جرّ عليه ويلات التهميش والثورة عليه والتشكيك في عقيدته.

 واجه طه حسين ما واجه صاحبه عندما أخذ بالمنهج العلمي في التفكير وتصدى للمتجمدين الذين رأى فيهم كتلة صلبة في طريق البحث وإعمال العقل، وما كان له أن يخوض هذه المعارك إلا بمساندة صاحبه الذي مشى على خطاه وحاول أن يحيا حياته ويتعمق في فهم فلسفته، غير أن طه حسين تخطى المعري أستاذه الذي أخذ عنه نظراً لاختلاف العصرين و الظروف التي تيسرت له دون صاحبه، حيث إن مجتمع طه حسين كان يعيش آنئذٍ موجة تغيير خدمت أفكاره ورؤيته، كذلك حالة الشك التي لازمت كل منهما قد وضعت طه حسين في صدام مع النقاد و خلقت حالة من الانقسام بين القراء والمثقفين من مجايليه ومن أتى بعدهم ، بعضهم أيّده وشجع أفكاره وآراءه وما توصل إليه في كثير من القضايا الأدبية و البعض الآخر تصدى لما فرغ من دلوه حتى اتهمه بعضهم أنه آلة استعمارية هدامة، و اشتعل الحقل الأدبي حينها بقضايا عديدة جراء آراء طه حسين كان لها أثر واضح في الحرب عليه، منها قضية انتحال الشعر الجاهلي عندما صدر كتابه " في الشعر الجاهلي" عام 1926، وغيرها من القضايا التي كان لها أثرها في الأدب العربي الحديث.

اتسع عالم طه حسين عن عالم صاحبه وملهمه أبي العلاء المعري، فعالم أبي العلاء محدود ضيق بحدود بيته الذي يعيش فيه تأججت فيه حالة التشاؤم والسخط ، فقد كان حبيس البصر وحبيس بيته، ومن هنا سُمى "رهين المحبسين" ، أما عالم طه حسين فقد اتسع ليسع سفره إلى بلدان عديدة وصالونه ومحاضراته وزواجه من فرنسية وإنجابه منها، كل هذا لم يحظ به عالم المعري الذي حرم على نفسه الزواج والإنجاب، بل إنه اعتبر أن الإنجاب جناية جناها عليه والده، فكان أن لزم بيته حتى النهاية، وقد قال طه حسين في ذلك إن أبا العلاء قد أيأسه من الخير و ألقى في روعه أن الحياة جهد كلها ومشقة كلها وعناء كلها، ويمكننا أن نقول إن تشاؤم المعري و بؤسه كان كلياً مستداما ، أما تشاؤم طه حسين كان مؤقتاً لم يدم، بل إنه انطلق إلى عالم رحب كان له فيه قصب السبق في عديد من جوانبه فكان أول من حصل على الدكتوراه من الجامعة المصرية، وتقلد مناصب لم يتولها مثله فكان عميدا لكلية الآداب ووزيرا للمعارف، ولم يتقيد بقيود محبسه كما فعل صاحبه.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة