في المنطقة الوسطي بين العلم بحقائقه ومعلوماته ونظرياته، والخيال العلمي باستشرافه للمستقبل وتنبؤاته بكل طريف وجديد في عالمنا الذي لا تنتهي عجائبه، يقع تصنيف هذا الكتاب الذي ظهر مؤخرا (2023) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة ضمن سلسلة «دنيا العلم» التي يشرف على تحريرها عالم الوراثة ورائد الثقافة العلمية وتبسيط العلوم د.أحمد شوقي، الأستاذ المتفرغ بكلية الزراعة ـ جامعة الزقازيق بمصر.
الكتاب من الناحية الببليوجرافية:
وهذا الكتاب ـ التي تندر نوعيته باللغة العربية ـ هو العدد رقم 27 ضمن سلسلة "دنيا العلم" من تأليف د. حسين ثابت، وهو أستاذ علم الوراثة، ووكيل كلية التكنولوجيا الحيوية بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، كما هو مدون بغلاف الكتاب.
ويقع هذا الكتاب في 174 صفحة من القطع المتوسط، لينتظم في سبعة فصول إضافة إلى المراجع، وهي كلها باللغة الإنجليزية، وتشغل 8 صفحات. كما يحتوي الكتاب على مقدمة وتمهيد. أما المقدمة فقد تحدث فيها المؤلف عما يحتويه الكتاب من فصول نوَّه إليها بإشارات مقتضبة خاطفة، وأما التمهيد الذي كنت أود أن يدمجه المؤلف في المقدمة ـ أو بالأحرى ـ في الفصل الأول الذي يتناول باختصار نشأة الحضارة البشرية على كوكبنا.
محتويات الكتاب:
أما من الناحية الموضوعية، فيكرِّس المؤلف الفصلَ الأول ـ في عُجالة دالة ـ نشأة الحضارة التي لم يتعقبها تفصيليا خطوة تلو أخرى ـ كما أشار المؤلف نفسه ـ ولكنه أشار إلى القفزات النوعية في تطورها العام إلى الأمام؛ وذلك طبقا لطبيعة الكتاب، الذي لم يُخصَّص لمثل هذا النوع من التأريخ، فالمفروض أن هذا االكتاب يسبح بنا في بحور المستقبل؛ ومن ثم يهتم ـ في المقام الأول ـ بالمستقبليات Futurology ، ولا يرتد بنا إلى الماضي السحيق!.
وقد توقف المؤلف عند محطات مهمة منها على سبيل المثال قوله: انفصل البشر عن أسلافهم أشباه البشر قبل نحو ستة ملايين من السنين، ثم تكيف للمشي على قدمين منتصبا قبل أربعة ملايين ومائة ألف سنة، وفي غضون المليوني سنة التالية تكيف البشر مع المشي لمسافات طويلة بحثا عن الغذاء، وهو ما دعمته عظْمة الورك القوية وعظم الفخذ المستطيل. وقبل نصف مليون سنة تطور حجم الدماغ، ما مكنهم من التعاطي مع رموز الطبيعة والتفكير.
ثم يقول: تطور البشر الحاليون (الإنسان العاقل أو الحكيم Homo sapiens) في إفريقيا قبل مائتيْ ألف سنة. وقد تعايش نوعان من البشر مع الإنسان العاقل، إلا أنهما انقرضا ما بين 17 و70 ألف سنة، ولم يبق إلا نحن.
ثم ينتقل إلى مرحلة ما قبل اختراع الكتابة في العصر الحجري القديم والحديث، ليشهد الأخير الثورة الزراعية قبل 10ـ 5 آلاف سنة قبل الميلاد في منطقة الهلال الخصيب في الشرق الأدنى، وقبل 7 آلاف سنة في الصين، وقبل 6 آلاف سنة في أوربا، وقبل 4 آلاف سنة في الأمريكتين. ثم تعلم الإنسان باستئناس الحيوانات لاستغلالها في الزراعة والاعتماد عليها في الغذاء. ثم عرف الإنسان في أثناء ذلك توفير الغذاء، وتبادل السلع تجاريا. ونشأت المستعمرات البشرية بجوار الأنهار لحاجته للماء، كما هى الحال في نهر النيل وبلاد ما بين النهرين بالعراق ووادي النهر الأصفر بالصين، ومع تعقد واشتباك المصالح تظهر المدن والمراكز الصناعية البدائية ويؤسس كل هذا للإرهاصات الأولى لظهور الحضارة.
أما الفصل الثاني فقد تناول تأثيرات التكنولوجيا المتسارعة، دائمة التغير والتطور، لاسيما تأثيراتها على البنية المجتمعية، وعلى الإنسان الفرد بشكل خاص، وكيف انعكس مثل هذا التطور التكنولوجي على علاقات الأفراد ببعضهم البعض، سواء في محيط الأسرة أو على مستوى المجتمع ككل. كما تعرض أيضا للجانب المظلم للتطور التكنولوجي، الذي بقدر ما أضاف للإنسان فقد سلبه أيضا الكثير من إنسانيته!.
أما الفصل الثالث فقد كرسه المؤلف لمناقشة إرهاصات الثورة التكنولوجية التالية التي أفضت إلى نشأة الإنسان الآلي (السايبورج)، أو الروبوت، وأوضح إلى أي مدى توغل الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية بشكل لا يمكن إنكاره أو حتى تجنبه والوقاية من تأثيراته. كما توقف متفرسًا متأملا أمام ما سيؤول إليه حال البشر مع الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي الذي يعٍدُ بما لا يحلم به البشر! ثم يتساءل: هل تظهر روبوتات مسيطرة؟ ويتخوف المؤلف مما ستفضي إليه هذه التطورات التي ربما يكون فيها هلاك الإنسان ذاته، حيث يقول: الإشكالية الكبيرة في تطوير تلك الروبوتات بالذكاء الاصطناعي تكمن في قدرة هذه الأجسام المعدنية على التفكير كما لم يفكر البشر؛ ومن ثمَّ اتخاذ القرارات الصائبة في التوقيت والمكان المناسبين. لن يقف الأمر عند كون الروبوتات مجرد أجسام حديدية لديها ذكاء آلة، وإنما امتد لكون تلك الآلات ربما ـ بما أوتيت من قوة النفكير العقلاني ـ أن تتخذ قرارات بتصنيع نسخ من نفسها في مكان منعزل، وهو ما يمكن أن نسميه التكاثر الإلكتروني Electronic reproduction ومن ثمَّ تظهر فجأة الملايين من هذه الكائنات التي لن ينفع أمامها استخدام وسائل الحرب التقليدية، فهي بالقطع سوف تطور تقنيات دفاعية لم يتسنَّ لك أيها الإنسان البائس ـ الذي صنعتها ـ أن تفكر بها!.
ثم يستغرق المؤلف في الخيال ـ الذي قد يصبح يوما ما حقيقة مزعجة ـ ليتوقع زواج الإنسان بالآلة، وقد يقع فريسة لها ويكون خادمها المطيع وعندها ستنقلب الآية من كون البشر هم المسيطرون إلى كونهم العبيد الجدد، عبيد الذكاء الاصطناعي!.
وقد تعرض المؤلف في الفصل الرابع ـ الذي جاء بعنوان : "إعادة تحرير البشر" ـ لمناقشة جانب آخر مهم في حياتنا العلمية المعاصرة خاص بالتكنولوجيا الحيوية ـ وهو مجال تخصصه الرئيسى ـ خاصة بعد نجاح العلماء في تعيين الطاقم الوراثي للإنسان (الجينوم البشري) في 26 يونيه من العام 2000، وأصبح بإمكان العلماء إجراء تعديلات في هذا الجينوم الخاص ببعض الأفراد من خلال تقنية كريسبر (تقنية في الهندسة الوراثية يمكن من خلالها تعديل جينومات الكائنات الحية. وهي طريقة من طرق تعديل الكائنات الحية وراثيا على أساس نسخة مبسطة من بروتين كريسبر المضاد للفيروسات. وهذه الظاهرة تتمثل في دفاع البكتيريا عن نفسها عندما تغزوها الفيروسات من خلال تكاثرها أي الفيروسات داخل البكتيريا فتقتلها).
ويعني إعادة تحرير البشر التدخل من خلال التعديل الجيني لثروته الوراثية ـ سواء بالحذف أو الإضافة أو التغيير والتحرير ـ كما يتدخل المحرر في تعديل نص الكتاب أو المقال مثلا. ومن أمثلة هذا التغيير أو "إعادة التحرير": التدخل بإدراج أو قطع أو إصلاح أو إتلاف جينات بعينها في الجينوم البشري بهدف السيطرة على مرض معين أو علاجه، أو لإدراج صفة معينة أو حذفها. وهذه التقنيات لا تقتصر على الإنسان فحسب ـ بطبيعة الحال ـ ولكنها تمتد إلى الكائنات الحية الأخرى، وربما امتدت إليها أيدي العلماء أولا على سبيل التجارب التي تسبق عادة التوغل في الميدان الإنساني.
وهذا الجانب يعتبر ـ حقيقة وليس مجازا ـ لعبا بالنار التي قد تكتوي بها البشرية كيًّا لا يمكن علاجه أو تدارك نتائجه الخطيرة على مستقبل الإنسان والكائنات الحية؛ ما يذكرنا برواية الخيال العلمي للأديبة الإنجليزية ماري شيلي Mary Shelley (1797 ـ 1851) بعنوان "فرانكشتاين". وقد حملت الرواية التي كتبتها شيلي عنوان "فرانكشتاين"، وتناولت قصة عالم من مدينة جنيف يُدعى فيكتور فرانكنشتاين، ابتكر تقنية لبث الحياة في مادة غير حية، وندم على ذلك طيلة ما تبقى له من عمر؛ فقد انقلب السحر على الساحر؛ وعلى هذا فمن يضمن لنا أن التعديل الجيني سيتم دائما لاستبدال جين "صالح" أو مرغوب فيه بجين آخر "طالح" أو غير مرغوب فيه ؟!.
وهذا التعديل الجيني قد يُسرع من عجلة التطور البشري الذي يتسم بالبُطء الشديد. وعلى هذا فإن المؤلف قد ركز هنا على إلقاء مزيد من الضوء على ما يمكن أن تؤدى إليه تقنيات التحرير الجيني من إنتاج سلالات بشرية جديدة قد تختلف كليا عن السلالة البشرية الحالية، بحيث لا يمكن ـ بعد عدة أجيال ـ أن تتلاقح سلالتان مختلفتان؛ فنكون بذلك أمام إحدى أهم عمليات التطور عبر ملايين السنين (وهي ظاهرة الانعزال Splitting). ويدَّعي أنصار التطور أنه من خلال هذه العملية قد انفصل البشر عن الشيمبانزي والأخير عن أقرانه من البونبو والغوريلا والأوانج أوتان. وقد توقف المؤلف عند قدرة هذه التقنية المذهلة على تعديل خصائص الأجنة لإنتاج أطفال حسب الطلب كما يقولون Designer babies.
أما الفصل الخامس فقد خصصه المؤلف لمناقشة واحدة من أهم القضايا الفلسفية المتعلقة بالموت والخلود. وجدير بالذكر أن المؤلف لم يناقش هذه القضية من منظورها الديني البحت وذلك لضيق المجال كما يقول، وجدير بالذكر أن للمؤلف كتابا ظهر في العام 2017 عن دار إبداع بعنوان "آدم: أسطورة الخلق". ولو أني أعترض على هذا العنوان، ولا أوافق المؤلف عليه وبما يوحي إليه.
أما ما أولاه العناية الفائقة في هذا الفصل فهو النظرة العلمية لمسألة الخلود، وإمكانية تحقيق ما يُعرف بالخلود الافتراضي، من خلال تلك التقنية الواعدة التي ستذهب بالبشر إلى مدًى لم يكن متوقعا أو حتى يمكن تخيله، وهي تقنية التحميل الدماغي، وهي التقنية التي أفرد لها الفصل السادس لمناقشتها بالتفصيل. كما ناقش من خلاله أيضا السناريوهات المحتملة لنتائج ما بعد تحميل الدماغ الذي يتوقع العلماء أن يكون مُتاحا بحلول منتصف القرن الحالي، إن لم يكن قبل هذا التاريخ.
وبهذا يكون الكاتب قد قدم لنا من خلال فصول هذا الكتاب ـ طبقا للأدبيات العلمية وما يمكن رصده من بحوث جارية على قدم وساق ـ رؤية عامة لعالمنا بعد أو خلال قرن من الزمان من الآن، وما يمكن أن يسفر عنه كل هذا من تأثيرات على حياتنا سواء كنا ومازلنا في كوكبنا الأرضي، أو فى أي كوكب آخر يمكن أن نصل إليه.