القراءة هي الخطوة الأولى للتعلم والكتاب هو الوسيلة الأولى والأشهر للمعرفة التي هي بداية التطور والتغيير والتقدم، وقد خرج الكتاب من أرفف المكتبات ودور النشر إلى العامة مع أول معرض دولي عرفه العالم للكتاب في عام 1439 في مدينة فرانكفورت ومنذ ذلك التاريخ وشغف العالم باقتناء الكتب يزداد ويستقطب فئات وأنشطة مختلفة.
وسرعان ما تأسس الاتحاد الدولى للناشرين في عام 1896 في باريس كمنظمة غير حكومية غير هادفة للربح كان هدفها الأول العمل على تنفيذ اتفاقية برن 1886 لحماية الأدب والمصنفات الفنية والتي عملت على حماية حقوق التأليف والنشر وزادت أهداف الاتحاد التي تمحورت حول تعزيز النشر وحمايته وزيادة الوعي بأهميته في التنمية بمختلف جوانبها وازدادت أكثر بالتعاون مع المنظمات المعنية بحرية النشر والتعبير بكل أشكاله.
ورغم أن أول معرض للكتاب كانت وراءه أهداف اقتصادية لدور النشر والمهتمين بصناعة الكتاب إلا أنه تحول شيئا فشيئا نحو وسيلة من وسائل نشر المعرفة ومهرجان للقراءة والثقافة وشيئا فشيئا صاحب معارض الكتب أنشطة أخرى ارتبطت في أجزاء كبيرة منها بمجالات الثقافة والفنون المختلفة وبخاصة في الجزء الجنوبي من العالم، الذى توارى فيه الاهتمام بتطوير صناعة النشر وحقوقها وحرية التأليف والتعبير وفتح الباب أمام التيارات الفكرية الجديدة وهي قضايا ما زالت راسخة في أنشطة معارض الكتاب في شمال العالم.
إلا أن ما يشغل الكثيرين في ظل التسارع التكنولوجي والثورة العلمية الكبيرة هو البحث عن إجابة لسؤال مهم ما هو مستقبل معارض الكتاب في هذا العالم المتغير وأجياله الجديدة المختلفة في أفكارها واهتماماتها وطرق تأليفها وتعبيرها، لقد أصبحت هناك حاجة ماسة وعاجلة لدراسة مستبقل معارض الكتاب بكل جوانبها الاقتصادية والثقافية والسياسية، فلا شك أن النمط التقليدي لتلك المعارض سيتآكل بمرور الوقت ويصبح عبئًا على المؤسسات القائمة على رعايتها والأجيال الجديدة ستهجرها، لذا فإن العمل سريعا على عقد الحلقات النقاشية والبحثية لتقديم رؤية جادة لهذا النشاط توضع موضع التنفيذ أصبحت أمرا ملحا وعاجلا والتأخير فيه يسبب خسائر اقتصادية وثقافية كبيرة.
إن صناعة النشر في العالم في عام 2021 طبقا لما نشرته WIPO حققت ما يقرب من 151 مليار دولار، والولايات المتحدة كان نصيبها وحدها ما يقرب من 27 مليار دولار وألمانيا أكثر من 11 مليار دولار واليابان مثلها وكوريا الجنوبية ما يقرب من 6 مليارات دولار ومثلها المملكة المتحدة ومن المتوقع أن تصل عوائد النشر عام 2030 نحو 190 مليار دولار وتنمو الكتب الإلكترونية بنسبة 27%، وفي عالم النشر الرقمي يكفي أن نعرف أن حجم تلك الصناعة في الصين بلغ 1.618 تريليون يوان (حوالي 228.89 مليار دولار أمريكي) في عام 2023، بزيادة 19.08 في المائة على أساس سنوي، وأن مبيعات الكتب عن طريق الإنترنت في الولايات المتحدة تمثل 71% من حجم المبيعات؛ إن الأرقام كثيرة ومغرية ومحفزة للكثيرين ومحبطة لآخرين، ولعل ما يحبط أن العالم أنتج عام 2022 ما يزيد على 788 مليون كتاب مطبوع لم يصل نصيب العرب منها إلى 80 ألف كتاب مطبوع وهو ما يعد أمرا محبطا وغير معبر عن تلك الأمة.
عندما نبحث عن موقع عالمنا العربي أو مصر في تلك العوائد لا نجد شيئا يذكر رغم أن العرب عرفوا الطباعة بالحروف العربية منذ القرن الخامس عشر الميلادي وأقيم أول معرض تجاري للكتاب في بيروت عام 1956 ثم توالت في باقي العواصم العربية وعالمنا العربي يمتلك قوة بشرية كبيرة قاربت 500 مليون نسمة في عام 2024 وتتحدث بلغة واحدة وفي أرض متصلة وأكثر سكانا من الولايات المتحدة 335 مليونا وألمانيا 84 مليونا وكوريا الجنوبية 51 مليونا واليابان 123 مليونا ورغم هذا فإن صناعة النشر في عالمنا العربي لم تحقق عوائد أو تقترب مما حققته تلك الدول.
لقد كان لدينا سنوات عديدة سابقة كان يمكن أن نحقق فيها الكثير في مجال صناعة النشر وإنتاج المعرفة ولعلنا نحتاج إلى وقفة مع النفس مع انطلاق معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2025 ليكون مظلة ينطلق منه "المشروع العربي لصناعة النشر" في عالمنا العربي ولعل أهم ملامح هذا المشروع:
* توطين صناعة النشر في عالمنا العربي فلا يعقل أن وطننا الكبير ما زال يستورد أوراق الطباعة والأحبار ومختلف الأدوات التي نستخدمها في تلك الصناعة، إننا في حاجة لإنشاء شركة قابضة لصناعة الورق من خامات محلية متوفرة في عالمنا العربي وكذلك صناعة الأحبار وماكينات الطباعة وكل ما يتعلق بها؛ إن هذه الشركة لن تقف عند مثل هذه فقط؛ فإن اشتمال نشاطها على صناعة الوسائط الإلكترونية سينقل صناعة النشر إلى مستوى متقدم في هذا المجال، ولا شك فإن التجارة الإلكترونية ستكون كأحد أهم أذرع الشركة القابضة للوصول إلى أبعد الأسواق في أقصى أركان الأرض، ولعل التعاون مع شركات عالمية وبخاصة في جنوب شرق آسيا سيفيد كثيرا في سرعة الانطلاق، الأمر ليس بالصعوبة في تأسيس الشركة فيكفي توزيع أسهمها على جميع دور النشر العربية التي ولا شك لديها الملاءة المالية التي سوف تمكن تلك الشركة من العمل سريعا ولنا أن نتخيل حجم العوائد المختلفة التي سوف نجنيها ماديا ومعنويا من وراء إنشاء تلك الشركة.
* بناء استراتيجية نشر عربية تهتم بكل ما ينهض بتلك الأمة وينشر إرثها الحضاري ويقدمه للعالم ويسهم في بناء الحضارة الإنسانية بنتاج فكري عربي لملايين النوابغ العرب، ولا شك أن بناء تلك الاستراتيجية يحتاج إلى تخطيط وصياغة من كبار عقول العربية المتخصصين في أفرع المعرفة المختلفة.
* عقد الشراكات مع دور النشر المختلفة في الأقاليم الجغرافية المختلفة لبيع حقوق النشر لدور النشر العربية باللغة العربية وباللغات المختلفة وفتح أسواق جديدة في أنحاء العالم المختلفة ويكفي أن نعرف أن حجم الجالية العربية في أوروبا 23 مليون عربي وفي الولايات المتحدة يصل تعدادها لنحو 3.7 مليون وهم من الجاليات المتميزة علميا وثقافيا ومحبة للثقافة ومن ذوي الدخول المرتفعة الذي يتجاوز 54 ألف دولار سنويا في حين أن متوسط دخل الأسر الأمريكية غير العربية 43 ألف دولار سنويا، ويمكن أن تلعب معارض الكتب دورا في ربط تلك الجاليات العربية بثقافتها وحضارتها وقضاياها المختلفة، كما أن النتاج الفكري العربي سيكون أحد أدوات تقديمنا للآخر بأقلامنا؛ فنحن في حاجة لأن يعرفنا العالم من خلال مفكرينا وفلاسفتنا ومثقفينا ونتاج عقولنا وليس من خلال نتاج عقول الآخرين أو تصوراتهم عنا، فقضايانا خاسرة بسبب تقصيرنا في هذا المجال الذي هو أكثر مجال حيوي لأمننا الفكري والثقافي والسياسي وبمصطلحات اليوم الأشد خطورة "أمننا القومي".
•ضرورة تحفيز ورعاية الابتكار في مجال صناعة النشر بتبني الموهوبين ورعايتهم من خريجي الكليات التي تتصل تخصصاتها بمجالات صناعة النشر مثل كليات الهندسة والفنون الجملية والآداب وغيرها وللتحفيز والرعاية أوجه كثيرة تحتاج لمجال أرحب لشرحها باستفاضة.
•تنظيم المسابقات في المجالات الفكرية والثقافية والفنية العلمية وغيرها مما يتصل بهذا المجال الحيوي لاستقطاب مواهب جديدة تثري حركة النشر العربي وتميزه وتفتح له أسواقا جديدة.
* عقد اجتماع دوري وليكن سنويا خلال نشاط معرض الكتاب لمراجعة ما تم إنجازه وما يجب تصحيحه وما يجب عمله في مقبل الأيام.
* إن العوائد الاقتصادية التي يمكن أن تتحقق من خلال المشروع العربي الموحد لصناعة النشر عند اكتمال أركانه يمكن أن تصل لما يتراوح ما بين 40–50 مليار دولار سنويا.
إن فرصا كثيرة تلاشت في الأزمان السابقة لجعل صناعة النشر العربي أحد أهم أركان الدخل القومي فهل القائمون على صناعة النشر ومعارض الكتاب الآن يستطيعون تدارك ما فات وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ الأمل كبير وموجود والأيام القادمة لا بد وأن تحمل لنا تحقيق بعض ما يحلم به الجميع، ولنبدأ من مصر من معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية 2025 ولتقود مصر ضربة البداية والنجاح سيكون حليفنا إن شاء الله.