الأربعاء 8 يناير 2025

مقالات

اللغة.. مخزون الهوية

  • 4-1-2025 | 16:57
طباعة

اللغة عنوان سيادة الهُوية والتعبير الجلي عنها وعنصر أساسي من عناصر جوهرها، فالعلاقة بين اللغة والهوية جذرية أصلية، فالهوية تقوم على عناصر عدة لعل من أهمها اللغة فهى أداة التواصل والوعي وهي أداة التعبير، فالدين، التاريخ، الثقافة، العادات، التقاليد، والمصير المشترك من مرتكزات الهوية، لا يمكن لنا أن نعبر عنها بغير اللغة فهي ترجمان المعاني وقالبها البديع. إن الصلات بين اللغة والهوية تجعلنا نقف أمام مداخل عدة التعريف باللغة وأهميتها وعلاقتها بمفهوم الهوية محاولين الكشف عن التحديات التي تَعترض تعزيز اللغة والهوية وكيفية مواجهتها وتأثير ذلك على الفرد والمجتمع خاصةً في تلك الآونة الأخيرة التي شهدت تقدماً تكنولوجيًا وثورة معلوماتية واسعة وبروز العديد من التأثيرات التي تنوعت بين الإيجابية والسلبية.

تعد اللغات الإنسانية هي الوسيلة الأساسية للتواصل بين البشر للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم وهي عامل أساسي لنقل الثقافة والمعرفة عبر الأجيال، ويستطيع الإنسان بواسطتها  التعبير عن ذاته، وفهم الآخرين فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه لا يعيش منعزلا عن غيره من البشر، وفضلاً عن أن الله قد شرف اللغة العربية بأن جعلها لغة القرآن الكريم، فقد حظيت اللغة العربية، وهي أقدم اللغات السامية، بأهمية كبيرة على امتداد العصور القديمة والحديثة، فعلى الرغم من وجود لهجات عديدة فإن العربية الفصحي تعد أساس الوحدة اللغوية، والعامل المشترك بين دول المنطقة العربية بأسرها. كما أنها إحدى لغات العمل الدولية الست المعترف بها في منطقة الأمم المتحدة منذ عام 1973م، وبعد انضمامها إلى اللغات الإنجليزية، الفرنسية، الصينية، الروسية، الإسبانية.. فصار العالم أجمع يحتفل باليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، تقديرًا لتاريخ تلك اللغة واحترامًا لثقافتها ومنجزها الحضاري.

.. ومنذ أن اتسعت الرقعة الإسلامية خرجت اللغة العربية إلى بلاد العالم شرقًا وغربًا فصنعت الحضارة المشرقية. كما شكلت معالم الحضارة على مدار ثمانية قرون في الأندلس، التي أصبحت بوابة الحضارة العربية إلى أوروبا.

فاللغة إرث يحمل الثقافات وحضارات الشعوب عبر الزمن، ولذا فقد حظى التأليف الموسوعي بأهمية كبيرة، ونتيجة لوعي العرب بقيمة التراث في الفترات التي تعرضت فيها اللغة إلى هجمات المحو والإقصاء فقد قاموا بتأليف الموسوعات الضخمة وسجلوا في بطونها تراث الأمة، لحفظه من الضياع فكان كتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني و"نفخ الطيب في غصن الأندلس الرطيب" للمقري و"الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لابن بسام، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه وغيره من المؤلفات الموسوعية التي حفظت لنا تراث اللغة العربية شرقًا وغربًا.

..وفي العصر الجاهلي نجد أن وعي العربي بأهمية الهوية والاعتزاز بها قد ارتبط بالمقولة المأثورة "الشعر ديوان العرب" فكان لكل قبيلة شاعرها الذي يمثل بوقًا إعلاميًا لتسجيل مفاخرها، ومآثرها، وتاريخها.

واستمر هذا الوعي مع وجود فكرة "الرواة" وتجلي دورهم في عمليات الحفظ والنقل، إلى أن ظهر جيل جديد من "النسّاخ" فتولى عملية نشر الثقافة، وحفظها عبر الزمن، ثم اتسعت عمليات حفظ الثقافة ونشرها بعد ظهور "المطابع" التي يسرت حركة التأليف في شتى المجالات.

لم يتوقف الوعي بأهمية اللغة والحفاظ على التراث بتأليف الموسوعات وإنما سجل العرب وعيهم المبكر بأهمية الانفتاح على حضارات الشعوب الأخرى دون الانتماء إليها أو الذوبان فيها.. فسبقوا بعدة قرون مانادى به "روجيه جارودي" من فكرة "حوار الحضارات" وما جاء به "صموئيل هنتنحتون" عن "صدام الحضارات" في القرن العشرين، وذلك عندما أسس الخليفة المأمون "دار الحكمة" في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وجعلها منوطة بترجمة علوم الفيزياء، والطب، والهندسة، والرياضيات، والكيمياء، والفلك وغيرها من العلوم من مختلف الثقافات، ونقلها إلى اللغة العربية فازدهرت اللغة العربية.

وامتدادًا لتك الفكرة الرائدة في تاريخ الحضارة العربية، كان تأسيس المركز القومي للترجمة عام 2006م. من أهم المنجزات الثقافية والمشروعات القومية التي قدمتها مصر في العصر الحديث.

فقد استطاعت نقل آلاف الكتب إلى اللغة العربية ومن أكثر من خمس وثلاثين لغة على المستوى العالم، فإن حركة الترجمة التي بدأت قبل ذلك كانت تستند إلى جهود فردية وأكاديمية.

وهذا الدور الرائد للمركز القومي للترجمة يدعونا اقتراح إنشاء عدة مراكز قومية للترجمة، وذلك لتيسير حركة الترجمة، وجعلها مواكبة لمستجدات البحث العلمي على مستوى العالم.

أن الأواصر التي تربط بين اللغة والهوية متعددة.. فاللغة حاملة الثقافة التي تصنع نسيج الهوية والهوية هي الكُنه أو الوجود أو الماهية، أو الأنا التي تتجلى بواسطة اللغة "تكلم لأعرفك"، "والإنسان مخبوء تحت لسانه"، سواء أكانت "لأنا الفردية" أم "لأنا الجمعية" وليست "الأنا الفردية" بمعزل عن "الأنا الجمعية". 

لذا يمكننا أن نقسم وسائل تعزيز الهوية إلى مرحلتين فالمرحلة الأولى هي المرحلة الأساسية التي يتم فيها بناء الهوية لدى النشء، أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التالية لعملية البناء يتم فيها تعزيز هذا البناء.

المرحلة الأولى منوط بها تشكٌّل الهوية وهي متحققة على المستوى الرسمي حيث إن لغة البلاد الرسمية التي يتعلمها النشء وفقا للدستور هي اللغة العربية، ولكن يجب الالتفات إلى أن هناك فترة مهمة في حياة النشء تسبق مرحلة التعلم في المدرسة، يعتمد فيها بناء الشخصية على الأسرة، والأقارب والأصدقاء بشكل كبير وفي هذه المرحلة وما بعدها، يجب التماس كل السبل التي تستهدف تنشئة الأطفال على حب اللغة العربية، والوعي بأهميتها، والتعود على استخدامها في العديد من المجالات الحياتية. مع الاستعانة بما تنتجه تقنيات الذكاء الاصطناعي في العصر الحديث. لدعم تلك التنشئة من خلال القصص المصورة والرسوم المتحركة والقنوات المتعددة والبرامج المخصصة للنشء.

فاللغة هي حاملة الثقافة والفكر والعادات والتقاليد والقيم، والآداب الإنسانية العامة التي تعكس هوية أبنائها. ولذا فإن الإرشادات التربوية التي كانت تطبع على أغلفة الكتب المدرسية على الرغم من بساطة لغتها، وقصر حجمها، فإنها تحوي العديد من القيم الإنسانية العامة التي نحن في أشد الحاجة إلى استرجاعها اليوم.

أما المرحلة التالية فهي مرحلة تعزيز الهوية وهي مرحلة مصاحبة لمسيرة الإنسان في كل مراحل حياته. يحققها الدعم المستمر عبر أشكال التواصل المحيطة به.. وهنا يأتي الدور الرئيس لجميع وسائل الإعلام في الإذاعة والتليفزيون والسينما والأدب والمسرح. والصحف الورقية والإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بكل أشكالها. حيث تواجه اللغة العربية تحديات كثيرة في ظل العولمة والانفتاح على الثقافات الأخرى، ومحاولات طمس الهوية وإضعاف اللغة بالتخلي عن استعمالها. أو الترويج لاستخدام العامية أو الدعوات التي تهدف إلى التقليل من شأن الفصحى أو انتشار الإدعاءات الكاذبة بصعوبة اللغة العربية أو أنها لم تعد لغة العلم والثقافة وليست لها القدرة على استيعاب منجزات العلوم الحديثة. بالإضافة إلى محاولات طمس الهوية العربية، باستخدام لغة الفرانكو، والحروف اللاتينية في المحادثات، وتغلغل القوى الناعمة ذات المفاهيم الغربية البعيدة عن عادات مجتمعنا وأفكاره وقيمه في الفنون والأدب في ظل الانبهار بالعولمة والانفتاح على الآخر وتحت مظلة الرغبة في التجديد.

يضاف إلى ذلك وسيلة أخرى من أنجح الوسائل في تعزيز الهوية هي تنمية الوعي بالمنجزات الحضارية ولأن اللغة العربية هي ذاكرة الأمة الثقافية والحضارية فقد حظيت بزخم هائل من المنجزات العلمية والثقافية في شتى المجالات. فتميز "الكندى" في الفلسفة، و"ابن البيطار" في الصيدلة، و"ابن الهيثم" في البصريات، و"ابن خلدون" في علم الاجتماع، وكان أول كتاب في النحو العربي لمؤلفه الفارسي "سيبويه". وقدم "الجرجاني" للمكتبة العربية كتابيه الرائدين "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة"،  وأثرى "أبو علي الفارسي" الحركة اللغوية بمؤلفاته، وكذلك "ابن جنى" صاحب كتاب "سر صناعة الأعراب"، و"الزمخشري" صاحب "معجم أساس البلاغة"، و"ابن سينا" صاحب كتاب "القانون في الطب" الذي كان أشهر موسوعة طبية تدرس في جامعات أوروبا حتى أواخر القرن التاسع عشر، وترجمت كُتبه إلى اللغة اللاتينية لأهميتها وكذلك "الحاوي في الطب"، و"الخوارزمي" مؤسس علم الجبر.

واستمراراً لهذا المنجز الحضاري العربي برزت إسهامات العلماء المتميزين والمثقفين الواعين في العصر الحديث واستطاعت أن تحقق ثراءً معرفياً للغة والهوية.

ولقد تنبه العالم منذ مطلع القرن العشرين إلى الدور الخطير الذي تلعبه اللغة في تنمية الاقتصاد على كثير من الأصعدة ومما لا شك فيه أن اجتياز حاجز اللغة يسهل عملية التواصل في سوق العمل ومعرفة ثقافة الشعوب، ومعرفة جذب الجمهور، وإمكانية التحول من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع إنتاجي.

ومن الملفت للنظر منذ مطالع القرن العشرين تزايد الإقبال الشديد على تعلم اللغة العربية في أكثر مجالات علم اللغة التطبيقي اهتماما وشيوعا. وهو مجال تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها.. سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي، وهو أمر أكثر تأثيرًا وفعالية في الترويج للغة العربية في الداخل والخارج. فضلا عن أنه يعد وسيلة ناجحة من وسائل  الترويج للسياحة التعليمية، مما يعود بالنفع على الفرد و المجتمع.

ومما يستحق الإشادة به حقًا في هذا المجال، تلك المبادرات التنويرية التي تهتم باللغة العربية ودورها الثقافي على مستوى العالم. مثل مبادرة "ادرس في مصر" التي أطلقتها وزارة التعليم العالي المصرية لتشجيع الطلاب الأجانب على الدراسة في الجامعات المصرية، ومبادرة "نوابغ العرب" التي أطلقتها دولة الإمارات العربية، لتعزيز دور العلم والمعرفة.

مثل هذه المبادرات وغيرها من المشروعات التنموية خير حائط صّد في مواجهة ما تتعرض له الهوية العربية من هجمات شرسة تحاول النيل منها، أو طمسها بأساليب غير مباشرة تبهر المرء بثقافة الآخر ليضيف على شخصيته شيئاً من الرقي والتطور عن طريق النطق باللغة الأجنبية بين العرب فبدلاً أن يقول حسناً أو طيب أو جيد يقول OK، فتحفزه على الانفتاح عليها والاندماج فيها، أو عبر عمليات التغريب في أسماء الشوارع، والمحال التجارية، وأثمن ما قام به المستشار حنفي الجبالي رئيس مجلس النواب بمناشدة جميع النواب الالتزام بالحديث باللغة العربية وعدم استخدام أية مصطلحات أجنبية أثناء حديثهم تحت القبة حفاظاً واعتزازاً بلغتنا العربية، وأنها من صميم الوطنية والانتماء والحرص على حماية الهوية، وكذلك ما قامت به النخبة الدينية في البرلمان من تقديم مقترح مشروع للحفاظ على لغتنا العربية سواء داخل البرلمان أو في المجتمع بصفة عامة ومواجهة دعوات التخلي عن اللغة العربية فهذه دعوات خطيرة على المجتمع وعلى الأجيال القادمة. فلابد من تضافر الجهود الفردية والمؤسساتية للحفاظ على لغتنا وهويتنا. 

..ما زلت أتذكر مقولة لطه حسين التي كان يبدأ بها مقدمة لأحاديثه الإذاعية من خلال الإذاعة المصرية، في نهاية الستينيات من القرن الماضي "اللغة يُسر لا عُسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها كما أضاف إليها الأقدمون".

وقول أحمد شوقي "إن الذي ملأ اللغات محاسناً.. جعل الجمال وسره في الضاد".

..اللغة العربية هي لغة عالمية بامتياز، لغة حية تساير العصر وتتجدد باستمرار في أفق إنساني منفتح على كل اللغات والثقافات العالمية الأخرى.. هذا ما أرى.  

فمن المقترحات التي نقدمها في هذا الصدد دعم المشروعات القومية والمبادرات التي تربط اللغة العربية بقاطرة التنمية. كأن تخصص وزارة السياحة بالتعاون مع وزارة الثقافة المصرية قناة سياحية باللغة الفصحى تعرف أنواع السياحة في مصر، إعادة الثقة لغتنا العربية وغرسها في نفوس أبنائها والعمل على مواكبتها للعلوم العصرية، وكذلك بدعم إنشاء دوائر للمعارف الموسوعية باللغة العربية، تعرف بأشهر العلماء العرب ورواد الفكر والثقافة -قديما وحديثا- ليكون قدوة يحتذى بها الأجيال القادمة، ويرتقي بها الذوق العام، مما يسهم في تعزيز الهوية، وتنوير العالم بقيمة اللغة العربية ودورها الحضاري لأن اللغة من أهم دعائم الهوية.. فإذا كانت اللغة مكتسبة فإن الهوية أيضا مكتسبة. وتتشكل وفق عوامل عديدة وإذا كانت اللغة منظومة تواصلية -تحمل الثقافة والفكر والقيم والعادات والتقاليد والتاريخ والحضارة- فإن الهوية هي البوتقة التي تنصهر فيها هذه المنظومة، لتصنع تميز الشعوب عبر العصور 

.. اللغة هي قلب الهوية وهي عامل اساسي في الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز الوحدة بين الشعوب العربية في مختلف أنحاء العالم..

الاكثر قراءة