تُعد معارض الكتب من أهم الفعاليات الثقافية الجماهيرية يجتمع فيها الإرث الفكري والابتكار الإبداعي، مما تيح سياقات حية وتفاعلية تبرز قُدرة الإنسان على التعبير عن أفكاره وصياغة هويته الثقافية عبر الزمن. فهي ليست سوقًا تُعرض فيها المؤلفات الورقية والمطبوعة أو المرقمنة؛ بل هي فضاءات ثقافية معرفية نابضة بروح الكلمة ومزدانة بألق الإبداع، تقدم ما أنتجه العقل البشري إبداعًا وفكرًا وعلمًا. إضافة إلى كونها مساقًا رئيسًا وحيويًا يسهم في تطوير الصناعات الإبداعية وتعزيز ثقافة القراءة ونشرها وضمان استمرارية تقاليدها عبر الأجيال. كما أنها تعبد طريق الاتصال بين الثقافة الإنسانية بمفرداتها وإبداعها، بوصفها نسيجًا يظهر فسيفساء التنوع الثقافي للبشرية.
ويتخذ معرض القاهرة الدولي للكتاب مكانة مرموقة إقليميًا ودوليًا ينهل من مكانة مصر الحضارية وقوتها المعرفية الضاربة في عمق التاريخ، فالمعرض أضحى مركز التقاء الثقافات، ونافذة للقارئ ينهل من كنوز الفكر. وعلى مدار أكثر من نصف قرن، نجح في ترسيخ مكانته بوصفه حدثًا ثقافيًا قوميًا يُسهم في تعزيز الحوار الثقافي وإرساء تقاليده، ودعم صناعة النشر والكتاب وتوفيره للقارئ المصري في مركز مصر للمعارض والمؤتمرات الذي أضحى جغرافيا قبلة ثقافية تستقطب كل مهتم بالثقافة والكتاب والمعرفة وقت معرض القاهرة الدولي للكتاب.
لقد أضحى المعرض واحدًا من الركائز الأساسية للصناعات الإبداعية المصرية، التي تسهم بدور فاعل في التنمية الثقافية والاقتصادية. فهو حاضن الأفكار ومحفز الابتكار والإنتاج الثقافي. ويسعى المعرض وفق رؤية ثقافية مصرية إلى استنهاض حركة النشر وإتاحة المجال للناشرين والمؤلفين لتقديم منجزهم عبر منصة دولية معبرة عن مكانة مصر ومقدرتها الثقافية والحضارية الفاعلة والمؤثرة. ففي المعرض تتلاقى الخبرات وتناقش الأفكار ويعلو صوت الإبداع.
وفي هذا السياق، يُبرز معرض القاهرة الدولي للكتاب كمنصة جامعة تُسهم في تقديم الكتاب كمنتج إبداعي يُلهم الأجيال ويمد جسور التفاهم بين الشعوب. من خلال الفعاليات المصاحبة مثل الندوات الفكرية وحلقات النقاش الأدبية، يُصبح المعرض مُحفزًا لنهضة ثقافية قائمة على المعرفة والإبداع.
إن لمعرض القاهرة الدولي للكتاب جانبًا إنسانيًا، فلكل واحد منا حكايته معه، إنه يحمل تاريخًا شفاهيًا حيًا كامنا في وجداننا، فعندما يذكر المعرض أجد جيلًا يتذكره عندما أقيم في الجزيرة في باحة الأوبرا المصرية عام 1969، متزامنًا مع الاحتفال بالعيد الألفي لمدينة القاهرة، متأسسًا على يدي علمين بارزين في تاريخ الثقافة المصرية هما: الوزير الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة، والدكتورة سهير القلماوي أول رئيس له ورئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب آنذاك. وهي نشأة حملت بين طياتها معاني كثار للثقافة المصرية التي رعتها الدولة المصرية مما منح المعرض انطلاقة بارزة في تاريخ الثقافة العربية. كنت وما زلت أفتش في ذاكرة من شهدوا هذه الانطلاقة أوثق منهم وأنصت مستمتعًا بحكايات يرويها المثقفون والناشرون عن هذه التجربة التي دشنت فيها مصر معرضها للكتاب وحفزت انطلاقة مهمة لمعارض الكتب الإقليمية، وعبدت الطريق نحو تنافسية عربية في صوغ هذه الصناعة وإرساء تقاليدها في وقت أظهرت فيه الدولة المصرية قوتها في وضع أطر راسخة في إنتاج الكتب وتسويقها ودعم ورعاية المبدعين والمفكرين وترجمة الفكر العالمي إلى اللغة العربية.
وانطلق الجيل الثاني لمعرض الكتاب في أرض المعارض بمدينة نصر، وشهد انتقاله إليها حالة ثقافية وجماهيرية لافتة، حيث اتسع وزاد عدد المشاركين فيه من دور النشر والمثقفين والكتاب، وترك بصمة لاتزال أصداؤها باقية في الذاكرة الشعبية. وأصبح حينها نزهة ثقافية وزادًا معرفيًا لجمهور الثقافة المصرية والعربية. فقد كان مواكبًا للقضايا الفكرية والسياسية والثقافية، وقبلة لمبدعين من الشرق والغرب، وظل محتفظًا بدوره في التأكيد على كون مصر حاضنة لهم، ووطنًا يمنح إبداعهم وفكرهم حياة جديدة حيث ندوات ولقاءات تتسم بجماهيرية طاغية تشارك فيها عقول تناقش وتتنافس في مضمار الثقافة والفن. وتتصل مع دول ضيف الشرف التي أظهرت تقليدًا جديدًا ومهمًا إبان ذلك، والتفاعل مع منتجها الثقافي والفكري. ليكون معرض القاهرة الدولي للكتاب حالة ثقافية قومية تعبر عن مفردات الثقافة بمفهومها الرحب باعتبارها نسقًا من القيم والعادات والتقاليد والمعارف المعبرة عن جوهر التجربة الإنسانية.
وفي عام 2019 في اليوبيل الذهبي للمعرض، بدأ الجيل الثالث للمعرض بانتقاله إلى مركز مصر للمعارض والمؤتمرات وحظي بدعم مهم من القيادة السياسية ورعاية كريمة من فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية، فقد خطى نحو العالمية معبرًا عن تقدير الجمهورية الجديدة لمكانة الثقافة ودور قيمها في بناء الشخصية الوطنية أملًا في دعم ثقافة جيل قادر على بناء وطنه والحفاظ على تماسك مجتمعه. لقد كانت نقلة المعرض على مستوى الشكل حضارية، وضعته في مكانة منافسة لمعارض الكتب العالمية، لقد وفرت الدولة المصرية السبل كلها من أجل أن يطمئن جمهور المعرض ويصل إليه، ولعلي أتذكر آراء الناشرين وانطباعاتهم الذين قدموا من كل حدب وصوب ووجدوا دولة قوية قادرة على النهوض بتنظيم الفعاليات بعامة والثقافية بخاصة وفق أرقى معايير التنظيم العالمية. ما منح المعرض روحًا جديدة متحلية بمسؤولية الحفاظ على الثقافة الوطنية واستيعاب الثقافة الإنسانية سواء فيما يقدمه الناشرون من كتب وفعاليات ثقافية تخاطب ذائقة الأجيال مجتمعة وبرامج مهنية. وتوسل بالتكنولوجيا الرقمية ربما سبق في ذلك معارض الكتب العالمية.
ونحن نستقبل الدورة السادسة والخمسين للمعرض والتي تحظى برعاية فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية، تحل سلطنة عمان ضيف شرف هذه الدورة، وهي جزء أصيل من الحضارة العربية، إذ تمتلك إرثًا ثقافيًا عريقًا غنيًا يتسم بتنوعه الثقافي الخلاب، وتسعى السلطنة إلى مشاركة تراثها الأدبي والفني مع العالم هنا في القاهرة. مما يمنح هذه الدورة روحًا عربية خالصة متصلة بالعالم بانية جسورًا من الاتصال الإنساني ومعلية قيم الثقافة التي ربما تكون ملاذًا حقيقيًا للتفاهم بين بني الإنسان في ظل راهن يمور بصراعات مصيرية قد ترسم مصيرا جديدًا لمستقبل البشرية في القرن الحالي. مما يجعلنا جميعا نفكر في الروابط الثقافية العربية في معرض الكتاب نفتش عنها ونتشبث بها، ونصون ثقافتنا الوطنية.
ولم يك مصادفة اختيار العالم المصري دكتور أحمد مستجير شخصية المعرض، وهو اختيار غير نمطي من لجنة استشارية تضم قامات فكرية وعلمية وإبداعية، تعمل بإخلاص لوطنها وثقافتها. وجاء اختيارها تكريمًا لمسيرة عالم أفنى حياته في مضمار العلم والإبداع. وقدم للبشرية منجزًا علميًا رصينًا في مجال الهندسة الوراثية والجينية. وسعى في مؤلفاته إلى تبسيط العلوم دون إخلال برصانتها إلى القارئ غير المتخصص فسبح في بحور العلم منقبًا عن كنوزه، ومترجمًا لأعمال فكرية تكشف عن المستقبل وعلومه، وأسهم في المجال الأدبي بأن قدم جهدًا مشهودًا في علم العربية الفريد العروض، وهو علم يدرك المتخصصون في العربية وعلومها أن تقديم جديد فيه يعد منجزًا حقيقيًا. حيث كان يفكر في الإبداع بعقلية العالم وفي العلم بخيال الأديب.
وتقديرًا لإبداع المرأة المصرية انحازت اللجنة الاستشارية للمعرض لاختيار الكاتبة فاطمة المعدول شخصية أدب الطفل في المعرض. وهي شخصية مصرية مبدعة تتحلى بجدية معروفة لا تخلو من مرح مستقى من أدب الطفل. عاشت حياتها متفانية لإنتاج أدب هادف لأطفالنا إبان توليها عددًا من المهمات الوطنية في مجال أدب الطفل، كما حرصت على دعم كتاب الأطفال ودعم كتاب جدد لهم نصيب اليوم في أدب الطفل.
ينطلق معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام مجسدًا لرحلة ممتدة من العطاء الثقافي والتميز الفكري. فعلى مر العقود، ظل شاهدًا على تطور الحركة الثقافية المصرية والعربية ومُحفزًا لها. ففي كل دورة جديدة، يُؤكد المعرض أن الكتاب سيظل دائمًا منارة تُضيء دروب الإنسانية نحو المعرفة والتقدم. ومرسخًا لمكانة الصناعات الإبداعية في مجتمعات المعرفة التي نحياها، ومؤكدًا أن القراءة والكتاب هما من أدوات البشرية الرئيسة في إبداع المعرفة وصوغ العقل. ومع استمرار هذه المسيرة، يُجدد معرض القاهرة الدولي للكتاب عهده مع محبي الثقافة والكتاب رمزًا للفكر المستنير والإبداع، ويبني جسرًا للتواصل بين الشعوب، وفضاءً يحتفى فيه بالفكر الإنساني.