الكتابة عن معرض القاهرة الدولى للكتاب، لا تبتعد كثيرًا، فى رأيي، عن الكتابة عن حالة الثقافة والمثقفين فى مصر.
لا شك ولا خلاف على أن قوة مصر النسبية تكمن فى ثقافتها وتراثها بالمعنى الأشمل والأوسع للتعريف، ولا خلاف على أن مصر تمتلك، كما نحب أن نقول ونفتخر، قوة ناعمة قد لا تتاح لمثيلاتها، ولكن إذا تحدثت مع أى مثقف أو أحد المطلعين على الأمور عن رأيه فى واقع الثقافة المصرية وما ينتظره منها، ستجده يتنهد، وتعلو وجهه أمارات عدم الرضا، ليبدأ لا إراديًا فى المقارنة بين واقع القوة الناعمة اليوم، وما كانت عليه بالأمس، ويبدأ فى ترديد عشرات الأسماء فى شتى المجالات الإبداعية وكيف شكلوا وجدان العرب، قبل المصريين على مدار عقود، ثم يتساءل عن نظرائهم فى واقعنا اليوم.. ونقلق من تنامى المشاريع الثقافية العربية شرقًا وغربًا، وبعضنا يتعامل معها بمنطق خاطيء، ويصل به شطط الرأى إلى الاعتقاد عن خطأ، أنها انتقاص من ريادة مصر، أو أنها تستهدف النيل من الدور المصرى لصالح قوى أخرى تبحث عن صناعة أدوار إقليمية، وترى فى الثقافة أحد أدوات تحقيق ذلك.
وبنفس هذا المنطق ما زالت أعداد كبيرة من المحسوبين على دنيا الثقافة، يتعاملون مع معرض القاهرة الدولى للكتاب، فهو المعرض الرائد عربيًا (وإن كانت هناك كتابات عربية تشكك فى هذه الريادة) وهو المعرض الأكبر والأهم من حيث أعداد المترددين، ومن حيث أعداد وتنوع دور النشر المشاركة فيه، هذا أمر طبيعى فمصر هى السوق الأكبر فى العالم العربى، نحن نتحدث قوة شرائية ضخمة، قوامتها أكثر من مائة مليون نسمة، ونتحدث عن صناعة وتوزيع ونشر الكتاب، فمن الطبيعى أن تضع كل دور النشر العربية والأجنبية أعينها على هذه السوق الأكبر فى المنطقة.. ولسنوات طويلة كان معرض القاهرة الدولى للكتاب هو قبلة الكتاب والروائيين والقراء العرب، من أراد شهادة ميلاده كأديب، فلا سبيل أمامه سوى معرض القاهرة للكتاب، وكبار المثقفين والكتاب العرب كانوا يضبطون مواعيد أجازاتهم على موعد المعرض، لكى يضمنوا لقاء نظرائهم فى أكبر ملتقى للكتاب وللأنشطة الثقافية، وكانت ندواته تتميز بالسخونة، لأن الناس كانت تتعامل معها باعتبارها المنفذ الرئيسى للحوارات حتى السياسية منها، ونعرف جميعنا واقعة الراحل صلاح عبدالصبور مع جناح إسرائيل التى كانت تسعى بكل الوسائل إلى التطبيع مع المصريين عبر كل الوسائل بما فيها معرض الكتاب.
مر معرض القاهرة الدولى للكتاب بفترات كثيرة، فترات مد وتألق وازدهار، وفترات انحسار، وانتقل مكانه من الجزيرة إلى أرض المعارض فى مدينة نصر، ثم إلى أرض أخرى أكثر تطورًا أيضا فى مدينة نصر، ثم عاد إلى مكانه فى أرض المعارض، قبل أن ينتقل بصورة نهائية إلى الأرض الجديدة فى التجمع الخامس فى مكان رائع تتوافر فيه إمكانيات عصرية تليق بالمعرض وبتاريخه.
ولكن..
ولكن تبقى دائمًا الملاحظات السلبية هى الطابع الأغلب.
لا ننكر أن عدد زوار المعرض بالملايين، أعداد يحسدنا عليها أى معرض مماثل، ليس فى المنطقة، بل فى العالم، فهناك ظواهر بدأت تترسخ فى السنين الأخيرة تتعلق بالباصات التى تخرج أحيانًا من قرى وتتجه إلى المعرض، ولا ننكر أن الزحام يصل أحيانًا إلى الحد الذى قد تتوقف فيه الحركة فى بعض القاعات.. ولكن لا يواكب هذا نشاط ثقافى يتم إعداده بما يليق، نشاط كثير ومكثف لكنه فى أغلبه غث، سواء من حيث الأسماء المشاركة أو العناوين، ولأسباب اقتصادية ومالية تراجعت الأسماء العربية والدولية التى يتم دعوتها للحضور والمشاركة فى أنشطة المعرض.
لم نعد وحدنا فى الملعب، هناك منافسون جُدد، قوية شوكتهم وأصبح لهم تصنيف دولى، ومعرض مثل معرض الشارقة استطاع أن يكون الأول على مستوى العالم فى بيع وشراء حقوق النشر والترجمة، ويخطون خطوات واسعة فى تطوير صناعة النشر وتوزيع الكتاب، هناك بالتأكيد قفزة نوعية حدثت فى مستوى تجهيزات معرض القاهرة، ولكننا إذا أردنا أن نحافظ على التفوق النوعى والريادة، يجب أن ننظر إلى ما يفعله غيرنا، الصغار شبوا عن الطوق وأصبحت لهم مشاريع تنافس كثيرًا، لا يجب أن نخاطب أنفسنا ونردد كلمات معلبة عن ريادتنا وتفوقنا.... إلخ.
المؤكد أن العالم تغير، وصناعة النشر تغيرت هى الأخرى، وأدواتها كلها تغيرت، وما كان مقبولًا فى معارض الثمانينيات والتسعينيات لم يعد مقبولًا فى عالم السوشيال ميديا وعالم الـ (AI) وهناك نشر إلكترونى، وهناك منصات رقمية، والأمر اختلف أيضًا فى العامين الأخيرين بعد دخول الذكاء الاصطناعى على صناعة النشر، وهناك أيضا ارتفاع وإقبال على الكتب المطبوعة عكس ما كان الجميع يتوقعون، النشر صناعة ضخمة ومهمة وتعد بحق أحد أدوات قوة مصر الناعمة التى لا تحظى بالاهتمام الضرورى، وحتى الآن لا تتعامل معها أجهزة الدولة بما يجب من تقدير واحترام، لكى تكون رافدًا للدخل القومى وتعزز فى الوقت نفسه من الدور القومى المصرى.
لا أسعى للمقارنة بين المعارض الخليجية التى تملك الوفرة المالية التى تتيح لها التنظيم المبهر ودعوة الأسماء اللامعة عالميًا فى دنيا الأدب والثقافة، هذه مقارنة ظالمة وغير عادلة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، هناك أسماء لها وزنها عربيًا تسعى لأن تطل على قرائها عبر معرض القاهرة الدولى للكتاب، ولا يتطلب الأمر أكثر من أدوات اتصال جيدة..
المعرض هو السوق السنوى لمنتج هو الكتاب، وصناعة النشر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعرض، فأغلب دور النشر تعول على مبيعاتها فيه، وبعضها تمثل مبيعاتها فى المعرض أكثر من 70بالمائة من مبيعات العام كله، لذا لا بد من دعم هذه الصناعة وإزالة جميع العقبات أمام انطلاقتها.. وقد شاركت زملاء أفاضل لى فى لجنة الكتاب والنشر عندما كنت عضوًا فيها فى الدورة الماضية فى وضع استراتيجية متكاملة لنهضة صناعة النشر، المهم فيها أنها لم تترك شاردة ولا واردة إلا وفندتها ووضعت لها الحلول.
ويبقى معرض القاهرة الدولى للكتاب هو العرس السنوى الذى نسعى إليه وننتظره كل عام.