قد أجد نفسى مضطرا لتفسير هذا العنوان «أم كلثوم القدْر والقدَر»؛ وكل الظروف المهيئة بترتيب وتنسيق نادر لتصبح أمُ كلثوم أمَ كلثوم، تلك التى تعد الإنسان ليكون فنانا وصاحب رسالة وتأثيرا وقدوة فى المجتمع على الصعيد المصرى والإقليمي؛ قد توفرت لأم كلثوم، بلا معهد ولا دراسة موسيقية، لكنه القدَر الذى اختارها لتكون القدْر الممنوح من الله لمصر ورموزها.
هى اسم، لكنه جملة مفيدة، اسم وخبر فى آن واحد؛ اسمها يعنى المنحة الإلهية التى وهبها لمصر، وتعويضها عن فترة زمنية طويلة لم يكن لمصر فرص لتبوأ مكانتها المرجوة؛ وتمثل فى ظهور جيل صنيعة عصر تنوير، ممتد لقرن تقريبا منذ تولية محمد على الحكم فى بدايات القرن التاسع عشر؛ وكان ثمار وإنجازات إنسانية تلك الحقبة؛ أحمد شوقى، حافظ إبراهيم، محمود سامى البارودى، العقاد، طه حسين، عبد الرحمن الرافعى، نجيب الريحانى، المازنى، سيد درويش، بيرم التونسى، أحمد رامى، وغيرهم، ودرة الفن أم كلثوم.
توفرت الظروف وتشابكت لتكوين شخصية فنية مبهرة بحجم أم كلثوم، النشأة؛ أولا: أب فنان منشد ومقيم شعائر، محب للفن؛ أفنى حياته فى تربيتها وتعليمها فنيا، ومرافقتها وهاديا يحميها من كل ما يمكن أن يؤثر عليها بالسلب أو تعطيل مسيرتها، وكذا دخولها الكُتَّاب وحفظ القرآن الكريم، إذ ساهم بشكل مباشر وأساسى فى ضبط أداء أم كلثوم لغويا وموسيقيا؛ ومن هذه النشأة أيضا، أخلاقها وأدبها فى الحوار مع الآخرين، بل فصاحتها أيضا؛ ثانيا؛ الإشادة بصوتها من كبراء الفن حين استمعوا لها بالصدفة فى بلدها طماى الزهايرة، أمثال:
الشيخ أبى العلا محمد، وزكريا أحمد، بل الحرص على نصح الأهل بضرورة سفر ابنتهم إلى القاهرة؛ حيث الشهرة والأفاق الأوسع والأكبر؛ ثالثا، التفاف الأعيان والأسر الأرستقراطية حول صوت أم كلثوم، أمثال: محمد البابلى، الشيخ مصطفى عبد الرازق، على البارودى، أمين بك المهدى؛ وتقديمها فى كافة المحافل المتاحة، وإحياء الحفلات الفنية فى بيوتهم؛ رابعا، تعرفها على شخصيتين أساسيتين فى توجيه مسارها إلى الأفضل والأرقى، أحمد رامى، محمد القصبجى؛ حيث كان رامى لها بمثابة البوصلة الثقافية التى تسير على هديها سواء فى اختيارها للكلمات أو تغيير زيها الريفى من العقال – رغم جماله - إلى اللباس الغربى الحديث مع مراعاة ما يناسب الذوق العربى والشرقى، علاوة على تذكير أم كلثوم دائما بقدرها ومكانتها مما يثبت الثقة لديها فى فنها وما تؤديه، وإمداد أم كلثوم بمعلومات ثقافية وتاريخية عن الأدب والشعر والفنون عامة، ونقل تجربته فى باريس إلى ما يساهم فى تعضيد والحفاظ على مكانة أم كلثوم، وأخيرا، صيغة المونولوجات التى أبدعها رامى، وأتحف بها الفن المصرى فى أشعاره لأم كلثوم؛ وكان القصبجى - غير ألحانه العظيمة لها - مستشارها الدائم فى كل نغمة يقدمها لها ملحن آخر، وكذا مرافقتها بعزفه الجبار على العود، وضبط بعض الألحان لشباب الملحنين – لا عن خطأ منهم – بل بما يتناسب مع أصول الموسيقى العربية؛ خامسا، روائع ألحان كل من زكريا أحمد ورياض السنباطى، إذ بدأ زكريا معها فى أوائل الثلاثينيات والسنباطى فى منتصف الثلاثينيات، بداية من فيلم وداد (1936)، وقد اكتفت أم كلثوم بألحان الثلاثة زمنا كبيرا قدمت من خلالهم أروع وأبدع الأعمال الفنية، وقد سبقهم الشيخ أبو العلا وأحمد صبرى النجريدى فى البدايات، وكذا داود حسنى حتى وفاته 1938؛ كما كان لشعر بيرم التونسى البديع دور مؤثر فى مسيرة أم كلثوم، إذ كانت أشعاره العامية الخالدة بأبعادها الإنسانية وقيمها الجمالية والمستمدة من روح الحياة، وذات صياغة متأنقة وطريفة فى الحب والوطنية. ولم تكتف أم كلثوم بهؤلاء الكبار بل استعانت بمن نجح فى إثبات وجوده الفنى والثقافى، أمثال الشعراء: كامل الشناوى، عبدالفتاح مصطفى، عزيز أباظة، بديع خيرى، طاهر أبو فاشا، محمود حسن إسماعيل، وأحمد فتحى، محمد الأسمر، صلاح جاهين، عبد المنعم السباعى، عبد الوهاب محمد، صالح جودت؛ وشعراء قدامى ومن أساطينه:
أبو فراس الحمدانى، الشريف الرضى، عباس بن الأحنف، بكر بن النطاح، ابن النبيه المصرى، عمر بن الفارض، عبد الله الشبراوى؛ ومن شعراء العرب: على أحمد باكثير، الأمير عبد الله الفيصل، جورج جرداق، الهادى آدم، نزار قبانى، أحمد العدوانى؛ وقبل كل هؤلاء نهلت من منبع أحمد شوقى، وأدت له 11 لحنا من شوامخ الشعر، كما غنت لشاعر النيل إبراهيم ناجى، كما استعانت بالعالم الموسيقى والشاعر كامل الخلعى ليكتب لها نصوصا مناسبة لصيغة "الدور" التى لحنها لها داوود حسنى؛ وكذلك كان لملحنى الخمسينيات البارعين الشباب والذين وضعوا بصماتهم واضحة فى الأغنية المصرية، قدْر عند أم كلثوم، الموجى، الطويل، بليغ حمدى، وأخيرا سيد مكاوى. وأخيرا الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وقد كان لقاؤهما شبيها بتوجه سياسى للدولة للجمع بينهما، إذ كان طلبا أو لنقل أمرا من الزعيم الخالد جمال عبد الناصر بسماع صوت أم كلثوم على ألحان عبدالوهاب. وبنظرة سريعة للأسماء الرواد والرموز الكبار الواردة يتبين كم كانت أم كلثوم كالبوصلة التى كانت هاديا وهدفا ووسيلة لالتفاف الكبار حولها. كل ذلك مزيج ما بين الحظ "القدَر" وما بين الشطارة "القدْر"، ربما تكون تلك السطور تفسيرا ملائما لـ : "لم كانت أم كلثوم قدَرا وقدْرا ؟.
ولنحاول بشئ من التفصيل أن نلقى الضوء على أم كلثوم الفنانة بما يمكن أن نسميه مقومات أم كلثوم ثقافيا وفنا. لمحات من عبقرية أم كلثوم -إحساسها بالشعر، واستيعاب اللغة، تغيير كلمة "بلى" إلى "نعم" فى قصيدة "أراك عصى الدمع" لا عن عدم فهم بل تناسبا مع الجرس السمعى للكلمة. -وقد غيرت أم كلثوم فى بعض كلمات قصيدة "زهر الربيع"، مثل "أنجبته إلى "أبصرته"، وكلمة "وجنبهما" إلى "وجنبها" عائدة إلى بلاد العرب، أو أن الفعل "جنبهما" يعود على العاقل.
-وكذا براعة في استخدامها اللغوى وصفاته؛ فمثلا الحرف المرقق فى جملة "سقط النقاب"، لم ترقق السين بسبب تأثير حرف "القاف المفخم على السين فصارت قريبة من الصاد، وكذلك لسرعة اللحن ومناسبته (نكسة 67) لأن تؤدى حروفه بكل قوة. وبالمثل أداؤها لحرف الدال من كلمة "قدّر" مفخما في المقطع الغنائى "إنا إن قدّر الإله مماتى"، على غير صفته الأصلية، إذ من غير الممكن أداء حرف الدال هنا مرققا بعد حرف القاف المفخم. -حين غنت قصيدة "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيع"؛ كان بها بيت يختتم بجملة "فؤاد موجعا"؛ غنته على أسطوانة بذات النص؛ وحين غنتها فى حفل حضره الملك فؤاد، غيرتها إلى "فؤادا مولعا" بمعنى الولع وليس الوجع، حتى لا يفهم بأنه تمليح على اسم الملك.
- ومن إعجاب الجمهور بأداء أم كلثوم الشعرى، كانت ترد للإذاعة خطابات من الجمهور، تطلب أن تؤدى أم كلثوم أشعار أغنياتها إلقاء قبل الحفل. خفة الظل، وسرعة البديهة - ولأم كلثوم مواقف غاية في الظرف؛ مثلا حين التقاها لأول مرة الإذاعى الناشئ فهمى عمر، وعرفها بنفسه وأنه من الصعيد، فقالت له: إذن أقول لك "صعيدة" بدلا من "سعيدة"؛ وحين لاحظت وجود أحد الثقلاء بجوارها ولم يفارقها طول الجلسة، أشارت بأن تلك الجلسة موفقة وتضم فلانا وفلانا وأن "فلانا" جالس بجوار "علان" وأن علانا جار لـ "ترتان"؛ ولما وصلت إلى الشخص الجالس بجوارها قالت بأنه "جار سومة" بتورية "جرثومة"؛. - الثقافة الأدبية وتأهيلها للتعامل مع القادة والزعماء ومخاطبتهم بكل أصول الدبلوماسية والرقى، وحسن تصرفها وسرعة بديهيتها، وارتجالها كلمات فورية تنم عن بلاغة وفطنة فى المواقف التى تستدعى الرد، مثل كلمتها للملك فاروق بعد إهدائها وسام الكمال عام 1944. - علاوة على البساطة والشياكة فى زيها، وحسن اختيارها لأعضاء فرقتها. تساؤلات في مسيرة أم كلثوم
- عدم استعانتها بالشاعر الكبير حسين السيد، لسببين، الأول اقتناعها بالشاعر الكبير أحمد رامى، الذى كان يمدها بأرقى الكلمات وأسماها معنى؛ الثانى، إن حسين السيد محسوب على المنافس الأكبر والأوحد لأم كلثوم، هو محمد عبد الوهاب، وربما أنها اعتقدت أن عبدالوهاب قد لا يسمح لحسين السيد أن يؤلف أغنية لأم كلثوم قبل أن تمر أشعاره عليه، ويختار منها مايشاء قبل أم كلثوم. - ابتعادها عن التعامل مع زكريا أحمد لمدة اثنى عشر عاما (1948 - 1960)، والتوقف تماما عن الاستعانة بمحمد القصبجى حتى وفاته 1966. - ندرة استخدامها للتوزيع الموسيقى، عدا بعض الأغنيات (إنا فدائيون – على باب مصر- الثلاثية المقدسة)؛ وأنها رفضت تسجيل أغنية "أصبح عندى الآن بندقية"، بعد أن أعدها عبد الوهاب مع الأوركسترا، ولم يسمعها الجمهور إلا بعد وفاتها. - رفضها التعامل مع فريد الأطرش، وتعثر لقاؤها مع أحمد صدقى .
القيمة التاريخية لأم كلثوم - وجد فيها الشيخ أبو العلا الأمل والمنقذ لإحياء القصيدة العربية، نظرا لما وجده من أخلاقيات دينية، ولطبيعتها الريفية النقية، ولصلاحية صوتها لأداء القصائد نظرا لتأثير الكتاب عليها.
- تطور الطقطوقة والمونولوج على يد ملحنيها ونهاية قالب الدور على يدها وعبدالوهاب، وتلاشى المسرح الغنائى تدريجيا، انطلاق الأغنية السينمائية. - تحويل المستمع العادى إلى متذوق للشعر، وزيّن التجار واجهات محالهم بأغنيات لأم كلثوم، مثل شمس الأصيل، وعلى العربات اللورى كتب السائقون "واثق الخطوة يمشى ملكا"، وكأنهم اطلعوا على ديوان إبراهيم ناجى وفهموا معانيه. - وعيها للشعر وقيمة الكلمة، ولم تغن سوى أغنية "الخلاعة والدلاعة مذهبى"، وهى التى كانت سائدة آنئذ، وكانت موجهة لعرب المهجر بناء على رغبة الشركة المنتجة؛ ثم غيرتها إلى "الخفافة واللطافة مذهبى". - تستطيع أغنية واحدة لأم كلثوم أو محمد عبد الوهاب أو عبد الحليم حافظ، على سبيل المثال؛ يمكنها وبكل بساطة، تحقيق ما لا تستطعه خطب فصحاء السياسة، ووعود وآمال كبار الزعماء.
ويؤكد هذه الحقيقة أحد أهم السياسيين المصريين المؤثرين، فى العصر الملكى، هو أحمد باشا حسنين، بأن أم كلثوم تستطيع بأغانيها أن تحرك الشعب أكثر مما يفعله الزعماء. -السلطة دائما تخشى من الإيماءات التى تلمح بها الأغنية، وتجعلها فى موقف الحذر المترقب منها، مثلما حدث أثناء تسجيل قصيدة "سلوا قلبى" لأم كلثوم، إذ جاء المندوب الإنجليزى للإذاعة المصرية معترضا على البيت القائل: "وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"، وطالب بحذفه من الأغنية، معللا بأن هذه الجملة قد تثير الحمية لدى القوى الداخلية، فيستلهموا منها المعانى الثورية، وتحفزهم للتظاهر؛ ولكن أم كلثوم رفضت، وأذيعت القصيدة كاملة.
- الشىء بالشىء يذكر، وبضده أيضا، وهو موقف الحكومة الإيطالية أثناء الحرب العالمية الثانية؛ فقد حاولت عن طريق الإذاعة الإيطالية توقيع عقد مع أم كلثوم، لكى تغنى عبر أثيرها، لضمان اتجاه مؤشر المصريين إليها، وتدعوهم للمعارضة والهجوم على الإنجليز والحكومة المصرية، والدعوة للثورة، وإطلاق الأمانى والأحلام لآذان المستمعين، وذلك لجذبهم لحب إيطاليا وحليفتها ألمانيا، وقوبل هذا، أيضا، برفض من أم كلثوم. ويؤكد هذا ما جاء على لسان الصحفى الكبير "محمد التابعى" بأن وكلاء المحور راحوا يجمعون أسطوانات كل من محمد عبد الوهاب وأم كلثوم من الأسواق استعدادا لحرب الدعاية ضد الحلفاء؛ الأمر الذى جعل الإنجليز حين أحسوا بشبح الهزيمة من الألمان فى العلمين، يتخذون ثلاثة قرارات سرية للرحيل من مصر، كان ثالثها:
خطف أم كلثوم وعبد الوهاب، والهرب بهما إلى فلسطين أو سوريا؛ لأنهم - الإنجليز- من الممكن أن يحكموا بهما العالم العربى. - ذكرت إحدى الصحف الأمريكية أن أم كلثوم و محمد عبد الوهاب سلاحان من أخطر أسلحة ثورة يوليو. - لما قامت الثورة، اعتبرها بعض المتسرعين من رجال الثورة، هى وعبد الوهاب من مطربى العهد البائد، ولم تذع أغنيات لأم كلثوم، وحين ثبت عدم صحة تلك الخزعبلات، سارعت قيادة الثورة إلى دعوة أم كلثوم وعبد الوهاب للغناء فى حفل بنادى الفرسان عام 1954 لتكريم الرئيس جمال عبد الناصر، بعد تعرضه لمحاولة اغتيال بميدان المنشية بالإسكندرية ، فغنت أم كلثوم: "يا جمال يا مثال الوطنية"، وغنى عبد الوهاب: "تسلم يا غالى، ألفين سلامة"، واشتملت الأغنيتان على تأييد وتعضيد لحكم "ناصر"، بل استخدم لحن "يا جمال يا مثال الوطنية" - مع بعض تغيير فى النص - ليواكب توليه رئاسة الجمهورية عام 1956. وفى مارس من عام 1965 يعاد انتخاب (استفتاء) عبد الناصر رئيسا لفترة ثانية، فتغنى له أم كلثوم: "يا سلام على الأمة"، من ألحان المبدع محمد الموجى؛ ويتحول الحفل إلى مظاهرة تأييد ودعاية للزعيم الخالد. - حين وقع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وقفت الأغنية إلى جانب المقاومة، مؤازرة وداعية إلى الصمود والكفاح ضد العدوان الغاشم، فكانت أغنيات: "إلى المعركة"، و"الأرض دى أرضنا" و"ح اضرب لآخر نقطة فى دمى"، و"يا ويل عدو الدار"، و"على خط النار"، و"نشيد الفدا"، وغيرها. وقدمت الإذاعة، أيضا، برامج موسيقية لإذكاء الروح الوطنية لدى المواطنين، مثل:
برنامج "ألحان الحرية"، وكان يقدمه جلال معوض، وعباس أحمد، ومن إعداد المؤرخ الموسيقى العالم "أحمد المصرى"؛ فقامت القوات المعتدية بضرب محطة الإرسال بأبى زعبل، فتستخدم الإذاعة محطة متنقلة خاصة بالجيش، لبث أغنيات المقاومة - والتى أصبحت محطة أم كلثوم فيما بعد.
- حين عُرِضت على الزعيم ناصر صور تدمير المطارات والطائرات المصرية، وهى جاثمة على الأرض، فى حرب يونيو 1967، أصيب بذهول من هول ما رأى، وكاد يجن، لولا أنه تماسك على الفور، وصمت برهة، وكأنه يتذكر مشهدا مماثلا مر أمام عينيه، قد حدث بالفعل، وعلق قائلا: "يبدو أن أننا سنعود لأيام: "والله زمان يا سلاحى"، مشيرا لحرب 1956، التى دمرت فيها الطائرات المصرية، أيضا. وكأن حرب 1956 قد اختُزلت في تلك الحرب. - لما اشتكى "فتحى رضوان" وزير الثقافة والإرشاد القومى المصرى فى الخمسينات، إلى الرئيس عبد الناصر؛ من طول الحفلات الغنائية، التى تقام فى الأعياد، كحفلات أضواء المدينة، وعلى وجه الخصوص حفلات أم كلثوم، وترديدها المقاطع أكثر من مرة، مما يزيد زمن سهر الناس إلى الصباح، فيناموا متأخرين، ويستيقظوا متعبين، وغير قادرين على التركيز والعمل والإنتاج؛ ووصف هذه الحفلات بـ "عملية تعذيب"، وطالب بتحديد زمنى لتلك الحفلات؛ فكان رد عبد الناصر أن تغيير هذا بمثابة الوقوف فى وجه التيار؛ وفى نهاية الحوار وافقه عبد الناصر، ووعده بأن هذا لن يستمر طويلا، ثم توقف قائلا:
"لكن إياك أن تغضب أم كلثوم". - أرسل الزعيم الخالد سيارة خاصة من رئاسة الجمهورية إلى أم كلثوم، إبان العدوان الثلاثى على مصر 1956، لتنقلها وتؤمن طريقها أثناء الذهاب والإياب إلى الإذاعة أثناء تسجيلها نشيد "والله زمان يا سلاحى"، لحمايتها من قصف الطائرات المغيرة، والتى كانت، آنئذ، تدك أرض المحروسة بوحشية وشراسة. - وهو الذى تدخل لترجيح أغنيتها "والله زمان يا سلاحى" لتصبح النشيد الوطنى المصرى، بعد أن اتفقت الآراء على اختيار لحن "الله أكبر" من غناء المجموعة؛ موضحا أنه: "كيف تغنى أم كلثوم ولا يصبح نشيدها هو النشيد الوطنى". - ويصل تقدير - لا إعجاب فقط - عبد الناصر لأم كلثوم، بأن يصفها: " من أكبر دعاة القومية".
وقلما تجد زعيما يتدخل لجمع قمتين فى الموسيقى والغناء فى عمل واحد، أم كلثوم بألحان محمد عبد الوهاب؛ فأثمر عن عشرة ألحان أولها: "إنت عمرى". - بعد نكسة يونيو 1967، غنت أم كلثوم فى جميع أنحاء مصر، والعالم العربى، وفرنسا، من أجل ولصالح المجهود الحربى، وإعادة تسليح الجيش المصرى، ووصلت إيرادات تلك الحفلات إلى مليون جنيه، غير المجوهرات والحلى الثمينة التى وصلت قيمتها المادية إلى 24،000 جنيها. - طلب أحد الأسرى الإسرائيليين، أثناء استجوابه فى حرب أكتوبر 73، سماع أغانى أم كلثوم، التى كان يعشق صوتها، وكانت النتيجة إيجابية؛ إذ حصل المحقق على معلومات هامة. إمكاناتها الصوتية - المساحة الصوتية حوالى أوكتاف ونصف، بما يعادل سبع عشرة درجة صوتية، تقريبا، من نغمة "اليكاه" صول أسفل المدرج حتى جواب الجهاركاه. - الإمكانات الصوتية للسلالم والمقامات الموسيقية من تأدية سلسة النغمات، والقفزات والأربيجات، وغناء السيكاه المصورة مثل:
شمس الأصيل، أروح لمين لمين، ياللى كان يشجيك أنينى، وأداؤها للحن واحد بثلاثة أشكال، سيكاه فبياتى ثم صبا؛ فى قصيدة: "قولى لطيفك ينثنى"، فى فيلم دنانير؛ وأدأؤها لمقام الجهاركاه المصرى فى المقطع:
"والسواقى اللى مانامت ليلة من ألف عام" من أغنية "طوف وشوف"، ومقطع "أطاوع فى هواك قلبى" من مونولوج "يا ظالمنى". - أداؤها للون البدوى ببراعة وإتقان، مثل أغنيات فيلم سلامة: "الفوازير"، "سلام على الحاضرين".
- تأديتها الحليات والزخارف (أتشيكاتورا – جربتو – موردانت ....إلخ)، ببراعة لا مثيل لها. - طول نفسها، وسلامة بنيان جهاز إخراج الصوت البشرى، واستمرارها فى الغناء على المسرح لأكثر من أربع ساعات؛ وهذا نادر بالنسبة لسيدة. - التعبير فى الأداء، ويعبر عن ذلك أداؤها فى مشهد "أوبرا عايدة" من فيلم عايدة؛ وأغنياتها فى أوبريت "عازفة الناى" بالإذاعة فى ألحان مؤثرة مثل: "عينى بكت عينى"، "يا صحبة الراح"، "عرفت الهوى"، "لغيرك ما مددت يدا"؛ وغيرها. علاوة على أدائها الوطنى الملىء حبا للوطن ومشاعر قومية فياضة.
- فهمها للتعبير عن الكلمة، مثل المقطع "وارفعوا دولتى" من قصيدة "وقف الخلق" ظلت مستمرة في أداء حرف الواو دون نزول، للتعبير عن الارتفاع؛ وأيضا التأكيد على حرف الواو المشدد في المقطع "قوِّى" من البيت "وصاح من الشعب صوت طليق" من قصيدة "على باب مصر". - كانت مقلة فى تأدية الضروب الشرقية سوى بعض الأعمال، مثل: "ياللى تشكى م الهوى" (إيقاع نوخت)، و"ابتسام الزهر" (دور هندى)، و"موشح يا بعيد الدار" (المصمودى الكبير)، و"السماعى الثقيل" فى "رق الحبيب". و"السماعى الدارج" فى "آه يا سلام زاد وجدى".
- تحويل أشعار صوفية إلى أغانى فى حب الوطن، مثل "يا حبنا الكبير الأول والأخير"، وإلى أغان عاطفية مثل "ح أقوللك إيه عن الشوق".