الثلاثاء 4 مارس 2025

مقالات

دور ريادي


  • 4-3-2025 | 15:14

د. حسن السيد حامد خطاب

طباعة
  • د. حسن السيد حامد خطاب

تلاوة القرآن الكريم، عبادة من أفضل العبادات، وقربة من أعظم القربات التي يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى، ولا شيء أحب إلى الله من الاستماع إلى قرآنه المجيد.

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ).

فتلاوة القرآن من القرب المحببة إلى العباد، وإلى الله تعالى، ولهذا يتنافس فيها المتنافسون  على مستوى الأفراد والأمم والدول  ومنذ عقود الإسلام الأولى، وتحتل مصر الصدارة في العالم الإسلامي، في الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية، والاهتمام بمصادر الثقافة، ومعالم الحضارة التي دائمًا يكون لها دور رائد في صناعتها وتطورها، والحفاظ على معالمها.

وليس هذا مقصورًا على الحضارة الإسلامية فحسب؛ وإنما دور مصر دائمًا دور ريادي متميز في كل الحضارات التي ولدت وتأسست بأرض مصر.

وليس هذا غريبًا على دولة كمصر، فلم تذكر دولة أو بلد باسمها الصريح في القرآن الكريم مثل مصر، ولم يهتم القرآن الكريم ببلد كما اهتم بمصر، وهذا فيه دلالة على أهميتها ودورها الرائد في صنع التاريخ، وتحقيق التنمية الريادية في كل المجالات وفي كل الصناعات التي تبنى في العالم سواء كانت مادية أو معنوية وسواء كانت فكرية ثقافية أو دينية. فمصر أولا ومصر دائمًا. في كل ميادين ومجالات الحياة.

وهذا ظاهر في خدمة القرآن الكريم وتلاوة القرآن الكريم بكافة أنواع التلاوة، فلا يوجد إبداع وتألق في تلاوات القرآن الكريم في بلد كما في مصر حتى تستحق أن تسمى بدولة التلاوة، وهذا لم يأت من فراغ وإنما لريادتها في تلاوة القرآن الكريم بكل القراءات واللهجات المعروفة في كل دول العالم، فلا يوجد دولة تغطي دول العالم بقرائها بل وعلمائها في التلاوة والقراءة مثل مصر.

وتوجد مؤلفات مهمة تبين جهود مصر في تلاوة القرآن الكريم، وأنها ليست وليدة عقد أو عقود وإنما منذ قرون بعيدة ومصر تحتل هذه المكانة وتمتاز بهذه الصفة: دولة التلاوة. ومن ذلك :

- كتاب نجوم العصر الذهبي لدولة التلاوة  د. نبيل حنفى وهو كتاب تحدث عن المشايخ الكبار مؤسسي دولة التلاوة المصرية بدءا من الشيخ أحمد ندا والمنشاوي وعبد الباسط وعلي محمود والبهتيمي وغيرهم مكون من خمسة عشر فصلا استعرض الكاتب سيرة أعلام مقرئي القرآن في مصر والذين سطروا أسماءهم في التاريخ الشعبي المصري مثل محمد صديق المنشاوي وعبدالباسط عبدالصمد، كما أنه أشار إلى أن تأسيس دولة التلاوة في مصر جاء مع الدولة الفاطمية وانتشار الكتاتيب في كل مدن وقرى ونجوع مصر.

- دولة التلاوة المصرية  د. حسام الدين طاهر  وهو كتاب  قام فيه بعرض مجمل وموجز لمعالم دولة التلاوة المصرية وأهم أعلامها ومدارسها.

- كتاب "مزامير القرآن: العظماء السبعة لدولة التلاوة"، الصادر عن منشورات إبييدي للنشر، في يناير 2022م، يُقدم لنا الكاتب الصحفي أيمن الحكيم، تاريخ المدرسة المصرية للتلاوة في تجربة جديدة، ترتكز على علاقة هؤلاء القُرّاء بالموسيقى والغناء، وتأثيرهما على تلاوة القرآن..

- ويوجد كتب أخرى تناولت تاريخ مدرسة التلاوة المصرية، أبرزها: "ألحان السماء" للكاتب الراحل محمود السعدني، "عباقرة التلاوة في القرن العشرين" للصحفي شكري القاضي، و"القرآن بصوت مصر" للمؤلف أبو طالب محمود، "سفراء القرآن الكريم" للإذاعي أحمد همام . رواد التلاوة في مصر د.أسعد النوبي .

- بالإضافة إلى مقالات متعددة في الصحف والجرائد اليومية كالأهرام والأخبار وغيرهما، وبعض البرامج التليفزيونية التي جعلت من دولة التلاوة وخصائصها حديثا لها، وتناولت عناوين مهمة مثل: مزامير دولة التلاوة – عمدة دولة التلاوة – أعمدة دولة التلاوة. ومن ذلك:

أ- الشيخ محمود خليل الحصري، عميد دولة التلاوة، وأول من سجل المصحف المُعلم، والذي ينسب إليه أنه كان أول من وثق القرآن الكريم صوتًا، وأحد مؤسسي إذاعة القرآن الكريم، وظلت الإذاعة تفتتح برامجها بصوته منفردا عدة سنوات.

ب- القارئ الشيخ محمد رفعت، صاحب أول تسجيل إذاعي للقرآن، الذي عُرف بــ قيثارة السماء.

ج- الشيخ محمد صديق المنشاوي، الملقب بالصوت الباكي، ومقرئ الجمهورية العربية المتحدة، والذي كان أحد أعلام تلاوة القرآن المجود على مستوى العالم العربي والإسلامي.

د- الشيخ محمود علي البنا، أحد أعلام هذا المجال البارزين، الملقب بأمير قرآن الفجر، وملك القفلات، والذي درس علوم المقامات على يد الشيخ درويش الحريري.

وليس الأمر مقصورا على هؤلاء وإنما هناك الكثير من أعلام القراء الذين يمثلون عناصر مهمة في دولة التلاوة المصرية والتي جعلت لمصر مكانة تتميز بها في هذا الميدان، ومع ذلك لا يمكن حصر مميزات دولة التلاوة المصرية  فبالإضافة إلى ما سبق يوجد مميزات كثيرة لمصر لا توجد في بلد أو دولة إلا بمصر منها ما يلي:

  * الدور الريادي الذي تقوم به وزارة الأوقاف برعاية رئيس الجمهورية في كل عام من المسابقات الدولية والمحلية المتنوعة والمتعددة، والتي تعبر عن حب أهل مصر للقرآن الكريم ورعايتهم له، ودور مؤسسة الأزهر الشريف برعاية شيخ الازهر. وكذلك المؤسسات الوطنية والدينية التي تدعم حفظ القرآن الكريم وتلاوته. ومن ذلك:

1 - الحفاظ على تحفيظ القرآن الكريم في شتى البلاد والقرى منذ الصغر بما يسمى بالكتاتيب.

2 - تعدد القراءات في التعليم والحفظ.

3 - الاهتمام بطباعة المصحف الشريف.

4 - تدريس القرآن الكريم في كل كليات جامعة الأزهر والمعاهد الأزهرية منذ النشأة.

5 - الاهتمام بالمسابقات القرآنية تلاوة وتجويدًا وحفظًا ومعنى في ميادين كثيرة وأزمنة عدة.

6 - الاهتمام بإذاعة القرآن الكريم وتطويرها وتغطيتها للعالم وشمولها لكل أنواع التلاوة المرتلة والمجودة وبالقراءات المشهورة.

7 - إيفاد القراء إلى مختلف دول العالم لتلاوة القرآن الكريم في المواسم والمناسبات الدينية.

8 - إرسال المتخصصين في التجويد والتلاوة لتعليم القرآن الكريم وتحفيظه بالقراءات والمعاني بكافة أنواعها ومستوياتها.

9 - المسابقات العالمية للقرآن الكريم في التلاوة والقراءات والمعاني بكافة أنواعها ومستوياتها.

10 - وجود نقابة للقراء الذين يحافظون على تلاوة القرآن الكريم مجودًا أو مرتلا، وتوفير قاعدة بيانات لما يقرب من عشرة آلاف قارئ منتسب للنقابة، فضلا عن الأساتذة والشيوخ بالمعاهد والجامعات.

وهذا يفسر لنا سر المقولة المشهورة: القرآن نزل بمكة وطبع بتركيا وقرئ بمصر.

مما يعني الاهتمام الكبير بالتلاوة في مصر والتنوع والتعدد في التلاوات القرآنية حتى أثر عن الشيخ الشعراوي إمام الدعاة –رحمه الله-أنه قال:

 من أراد الإتقان في سماع القرآن فليستمع إلى الشيخ الحصري.

ومن أراد نقاء الصوت فليستمع إلى الشيخ عبد الباسط عبدالصمد.

ومن أراد الفن في التلاوة فليستمع إلى الشيخ مصطفى أبو إسماعيل.

ومن أراد كل ذلك فليستمع إلى الشيخ محمد رفعت فهو مدرسة.

ومن المآثر المصرية أن في مصر قارئ مخصص لرئيس الدولة أو الملك كما هو معروف عن الشيخ مصطفي إسماعيل رحمه الله – ومن بعده الشيخ أحمد نعينع. وهكذا.

بالإضافة إلى إحياء المناسبات العامة على مستوى الدولة رسميًّا وعلى المستوى الفردي للأفراد في العزاء والأفراح عادة بتلاوة القرآن الكريم. ومصطلحات خاصة في مصر (قرآن الجمعة – قرآن الفجر – قرآن السهرة – قرآن الصباح) وهذه الظاهرة ربما لا توجد إلا في مصر، مما تعنى حب المصريين للتلاوة ومدى تعلقهم بالقرآن الكريم وتشوقهم إلى سماعه في كل وقت سواء في المناسبات المتعلقة بالحزن أو في الأفراح، وهذا من جماليات شعب مصر وعشقه للقرآن الكريم وحبه لتلاوة القرآن الكريم والاستماع إليه، ومما يؤيد ذلك أن من يمشي في شوارع أي مدينة أو قرية أو أي حي من الأحياء لا يكاد يمضي من أمام محل أو دكانة أو مقهى أو حتى ورشة إلا ويجد الغالبية منها يخرج منها صوت تلاوة القرآن الكريم سواء مرتلا أو مجودا سواء من الإذاعة المصرية أو من شرائط كاسيت خاصة، بل إنك لا تسافر في وسيلة نقل غالبا، إلا وتجد فيها صوت تلاوة القرآن الكريم، في كل وقت، صباحا أو مساء، بل وفى كل وقت، فضلا عن إحياء المناسبات العامة أو الليالي الفاضلة بالقرآن عادة مصرية لم تكن في البلاد الأخرى، ولازالت موجودة بمصر، رغم محاربة البعض؛ لكنها تدل على أهمية التلاوة بمصر وإن مصر فعلا دولة التلاوة؛ حتى إن كل الدول الإسلامية في أوروبا وأمريكا تطلب من مصر قراء لتلاوة القرآن الكريم في المواسم الدينية مثل: شهر رمضان ولا يزال ذلك مشهورًا عن قراء مصر دون غيرها؛ ولعل السر وراء ذلك كله يكمن في ثلاثة أشياء:

الأول: الكتاتيب التي ازدهرت واشتهرت في مصر في تعليم وحفظ القرآن الكريم.

الثاني: أن أول إذاعة للقرآن الكريم كانت من مصر عام 1964م. وأول من سجل القرآن الكريم مرتلا الشيخ محمود الحصري مما كان سببًا في بث روح المنافسة بين أصحاب الأصوات الحسنة واللقاءات الفعالة.

الثالث: تبني مصر للمسابقات العالمية والدولية المتعددة المتنوعة للحفظ والتلاوة.

كما تتميز مصر بالأزهر الشريف في مراحله التعليمية التي يكون فيها مقرر القرآن الكريم أحد المقررات الأساسية في كل المستويات التعليمية من الابتدائي حتى الجامعة. وهذا المقرر يقوم على أمرين مهمين الأول التلاوة للتصحيح ثم الحفظ والتسميع، ومن ثم يقوم الشيخ أو مدرس القرآن أو المدرسة بالتلاوة أولا لمعرفة الطلاب كيفية القراءة الصحيحة وأحكام التجويد؛ حتى يتم الحفظ بشكل منهجي وصحيح بدون أخطاء، ثم بعد الإتقان للتلاوة وهي المسماة بالتصحيح يكون على الطالب تكراراها عدة، وهذا يحدث في المعاهد ومكاتب التحفيظ والكتاتيب التي تعد مراكز التلاوة القرآنية بمصر.

كما تنفرد مصر بأن في جامعة الأزهر كلية خاصة بالقرآن الكريم وقراءاته، وهي كلية القرآن الكريم وعلومه بطنطا، وهي كلية متخصصة في تعليم القرآن وتلاوته بالقراءات المتعددة المعروفة والثابتة عن النبي –صلى الله عليه وسلم-لما ورد في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف».

وعن أبي بن كعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، قال: فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم أتاه الثانية، فقال: «إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين»، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا.

بالإضافة إلى أقسام خاصة بالتفسير وعلوم القرآن الكريم في كليات أصول الدعوة بكل فروع جامعة الأزهر بالدولة المصرية، بالإضافة إلى أقسام الدراسات الإسلامية، وهي أقسام لها علاقة قوية بدراسة القرآن ودراسة أحكام التجويد والتلاوة والتفسير ونحوها، فكل هذه المزايا التي اختصت بها مصر تجعل لها الأولوية والسبق في استحقاقها بجدارة لقب دولة التلاوة، بل مصر رائدة التلاوة القرآنية وراعية التلاوة في العالم الإسلامي حفظ الله مصر وشعبها وقرائها وجيشها وقائدها وسائر بلاد المسلمين.

 وصلى الله على سيدنا محمد وآلة وصحبه وسلم.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة