في أروقة التاريخ وإشراقة الحضارة، تتلألأ صور «نساء الإسلام» كنجومٍ سطعت في سماء الإيمان والعطاء، خلدهن إيمانهن و مواقفهن القوية دفاعًا عن ديننا الحنيف ينشدون ثواب الآخرة والهدى للبشرية كلها فتركن أثرًا كبيرًا محفوظًا في ذاكرتنا ووجداننا وهدى وبوصلة لنا في الطريق.
ومع بوابة «دار الهلال» في أيام شهر رمضان الكريم لعام 1446 هجريًا نقدم كل يوم حلقة من سلسلة «نساء في الإسلام» لتأخذنا إلى عمق النفوس، حيث تتجسد شجاعة المرأة وعزمها في مواجهة تقلبات الزمان، في كل حلقةٍ، نكتشف حكاياتٍ نسجت بخيوط العزيمة والإيمان، رسمت بمسحاتٍ من النور ملامح الحضارة الإسلامية هنا، يتلاقى الجمال الروحي مع القوة الإنسانية، وتنبثق من رحم التحديات أروع معاني التضحية والكرامة، لتكون المرأة ركيزة لا غنى عنها في بناء حضارتنا وإرثها العريق.
ولقاءنا في اليوم السابع عشر من رمضان 1446 هجريًا الموافق 17 مارس 2025 ميلاديًا مع الصحابية الجليلة..المجاهدة المقاتلة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها
الشاعرة كريمة النفس
السيدة صفية بنت عبد المطلب بن هاشم، هي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهي الأخت الشقيقة لحمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأخي الرسول صلى الله عليه وسلم في الرضاعة، وأمها هالة بنت وهيب بن عبد مناف وبحكم نسبها وتربيتها كانت كريمة النفس شديدة البأس، وكانت شاعرة مطبوعة.
ولدت السيدة صفية بنت عبد المطلب سنة 570 م، قبل الهجرة بثلاثة وخمسين عامًا، وتزوجت في الجاهلية من الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس فولدت له ابنا يدعى صفيًا، ومات عنها الحارث فتزوجت العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى أخا أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، أولى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فولدت له ثلاثة من الأولاد هم.. الأمير والسائب وعبد الكعبة .
أسلمت السيدة «صفية» مع ولدها الزبير وأخيها حمزة قبل الهجرة، وذكر ابن إسحاق ومن تابعه إنه لم يسلم من عمات النبي محمد غير صفية،و لم بدأ المسلمون في الهجرة إلى المدينة.
الشُجاعة في ميادين القتال
كانت السيدة «صفية» من أوائل المهاجرات، وكانت تخرج إلى ساحات القتال تسقي المجاهدين وتداويهم وتحمل معهم السيف عندما يحتم عليها المشهد ذلك، وموقفها في غزوة أحد لا ينسى ويتناقله المؤرخون للغزوات والفتوحات الإسلامية، فعندما لاحت مقدمات النصر في أحد ترك الرماة من المسلمين مواقعهم، وشغلوا أنفسهم بجمع الغنائم وهنا انقضت عليهم قوات المشركين، فتحول النصر إلى هزيمة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم واصل الجهاد مع فريق من المجاهدين حتى أصيب، وفي هذا الوقت ظهرت شجاعة صفية بنت عبد المطلب، حيث ألقت وعاء الماء الذي تسقي به المجاهدين وانطلقت تجاهد برمحها في سبيل الله، وتصرخ في الفارين المتخاذلين: «ويحكم . . انهزمتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!»، وهنا تقدمت الصفوف تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لأنه ابن شقيقها عبدالله، ولكن لأنه رسول الله، وصاحب دعوة الحق إلى الناس في كل مكان ،وفجأة وهي تقاتل بالسيف في مقدمة الصفوف إلى جوار رسول الله، رأت عن بعد جسد أخيها «حمزة بن عبد المطلب» وسط أجساد المجاهدين الطاهرة ولما همت بالإسراع إليه لفحصه وإلقاء نظرة الوداع عليه رآها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لابنها الزبير: «ردها عن رؤيته».
قال الزبير لأمه: «يا أماه، إن رسول الله يأمرك أن ترجعي، فدفعته في صدره وقالت: ولم؟ وغضبت للتمثيل بجثة شقيقها في أول الأمر غضبًا شديدًا، ثم عادت وصبرت واحتسبته عند الله الذي لا تضيع ودائعه وقالت: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ودعت دعاء الصابرين: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدفنه مع عبد الله بن جحش ابن أخته وأخيه في الرضاعة.
الشجاعة المجاهدة في الحرب
قدمت السيدة «صفية» الكثير في ساحات القتال إلى جوار المجاهدين بالسيف والرمح، وكانت تقوم على خدمتهم وشحنهم معنويًا ونفسيًا لبذل كل ما في وسعهم في ميادين الشرف والعطاء.
وربت السيدة «صفية» فارسًا مغوارًا هو الزبير بن العوام أول فارس في الإسلام، أعدته - بعد وفاة أبيه - ليكون جنديًا من جنود الله، وكما تربى على الأخلاق الكريمة تدرب على خوض المعارك وفنون القتال، وأخذ عنه أبناؤه هذه الخصال وساروا على المنهج نفسه ونسجوا على نفس المنوال.
المشاركة في علاج المجاهدين
وكان للسيدة صفية بنت عبد المطلب صولات وجولات مشهودة في علاج المجاهدين وتضميد جراحهم، والتخفيف عنهم نفسيًا ودفعهم إلى المزيد من التضحيات بعد الاستشفاء، وفي غزوة خيبر قامت صفية بتخصيص خيمة مع عدد من النساء المسلمات لتقديم الخدمة الطبية للمقاتلين في سبيل الله، وهي بذلك صاحبة أول مستشفى ميداني بمفهوم العصر الحديث، وقد حدد لهن الرسول صلى الله عليه وسلم نصيباً من الغنائم اعترافاً بهذا الدور الكبير، لكنها كانت عفيفة النفس زاهدة في متع الدنيا، فلم تكن تريد مالاً ولكنها تتطلع إلى الجزاء الأوفى من الله عز وجل .
أول امرأة مسلمة تقتل رجلًا
ويروى عن السيدة صفية بنت عبد المطلب، موقفًا جليلًا لها في غزوة الخندق كان دليلًا جديدًا على شجاعتها وشدة حرصها من الأعداء والتربص بهم، فقد تحالفت في يوم الخندق قريش، وغطفان ويهود بني قريظة لحرب المسلمين وحاصروا المدينة، وقام رسول الله والمسلمون بحفر خندق حول المدينة المنورة، وكان الرسول حريصًا على حماية النساء والولدان وتوفير الأمن لهم حتى يصون أعراض المسلمين، وحتى لا ينشغل المقاتلون ببيوتهم، فأمر بنسائه ونساء المسلمين وأطفالهم فجعلوا في الحصون والقلاع ونزلت «صفية» وعدد من نساء المسلمين في حصن الصحابي حسان بن ثابت، وكان من أقوى الحصون في المدينة، وبينما «صفية» تراقب ما يجري خارج الحصن رأت يهوديًا من بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله وتحالفوا مع أعدائه وخشيت أن تتركه يذهب ويأتي بمن ينال من النساء، ولم ترد تشغل النبي وأصحابه بهذا الأمر في هذا الوقت العصيب، فطلبت من حسان بن ثابت أن ينزل إليه فيقتله حتى لا يذهب إلى اليهود ويفشي سرهم ويعرضهم للقتل أو السبي، ولأن «حسان» كان مسنا ومريضا ولا قدرة له على القتال، قال لها: «يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب، والله قد عرفت ما أنا بصاحب هذا»، فتركته صفية وأخذت عمودًا من حديد من خيمتها ومضت إلى باب الحصن ففتحته ومضت إلى اليهودي فضربته بالعمود على رأسه فقتلته .
وتقول السيدة صفية بنت عبد المطلب، عن هذا الحدث «أنا أول امرأة تقتل رجلًا «تعني من اليهود أو المشركين»، فلم تكن النساء مطالبات بالقتال ولكنها رأت في القتال ضرورة فقامت بواجبها .
وكانت السيدة صفية بنت عبد المطلب شاعرة مصقولة لها أشعار في رثاء أبيها وأخيها حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم
عاشت السيدة صفية بنت عبد المطلب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد الخلفاء الراشدين كريمة عزيزة يجلون قدرها، ويعترف الصحابة الكرام رضي الله عنهم بفضلها، وانتقلت إلى جوار ربها في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة عشرين من الهجرة، بعد أن بلغت من العمر أكثر من سبعين عاماً: فصلى عليها عمر ودفنت بالبقيع .