الأربعاء 7 مايو 2025

مقالات

بدايات الموسيقى في المسرح من مصر لإيطاليا من حضارة الفراعنة للأوبرا

  • 19-4-2025 | 12:38
طباعة

ظهرت بوادر ميلاد المسرح فى عهد قدماء المصريين، فى عمق تلك الحضارة، والتى جسدت على نقوش وجدران المعابد، حيث يبعث الفرعون قائد الجيش إلى المعارك ويرافقهم بعض العبيد، وبعد عودتهم يقوم هؤلاء العبيد بمحاكاة المعركة بأداء حركى تمثيلى صامت “الإيماء Mime” حتى يتمكن الحاكم من تخيل الحدث بأكمله. وبالتالى كانت تلك بدايات أولية لاكتشاف هذا الفن الوليد. 

ومن رقصات الحروب وطقوس تقديم القرابين للآلهة، إلى حضارات الشرق الأقصى وفن التمثيل الإيمائى الذى أخذ شكلاً متكاملاً قبل أن تعرفه الحضارات الغربية، بحيث تترافق الرواية الدرامية مع الرقص والإيماء، فيقوم الممثل بأداء الحدث حركياً فى حين يقوم الراوى بسرده كلامياً. 

ومن عمق الحضارة الإغريقية نشأت الدراما أو فن المسرح، وكان منذ بداياته غنائياً، حيث يقوم المغنى بآداء الترانيم القديمة المعروفة باسم ديثرامبس احتفالاً بالإله ديونيسوس Dionysus، وكان ثيسبس Thespis أول من فاز لأدائه مأساة خلال مهرجان الإله ديونيسوس فى المسابقات التى كانت تجرى فى اليونان، حيث تذكر المصادر أنه "كان يحضر عرضا موسيقيا في 534 ق.م فاعتلى خشبة المسرح حين استفزه العرض فصاحب الموسيقى بالرقص،  ومن هنا بزغت فكرة التمثيل الدرامى، وتطورت وأصبح المغنى يرتدى أقنعة وملابس لأداء أكثر من دور بالغناء والرقص، فكانت بداية الدراما والمسرح مرتكزة على الغناء كمكون رئيس للعرض، وزاد عدد الجوقة وأصبحت من الرجال المقنعين الذين يؤدون طقوساً دينية -وبطبيعة الحال لم يكن الأمر أشبه بمفهوم المسرح الذى نعرفه اليوم- وإنما بنى عليه قوام العرض الدرامى. 

وكانت المسرحية في المسرح اليوناني القديم  فى القرن السادس قبل الميلاد عبارة عن الجوقة التى تتكون من رجال يقومون بالتصفيق والغناء، ويقوم بالأداء التمثيلى ممثل واحد فقط، وتطور الأمر شيئاً فشيئاً حتى وصل عدد الممثلين إلى ثلاثة. وكان المسرح خشبياً متنقلاً، إلى أن تغير الأمر وتحول لبناء حجرى ثابت فى القرن الخامس قبل الميلاد، وكان المسرح يشمل الأوركسترا وتعنى آنذاك حلبة الرقص، وهى المكان المستدير الذى تستخدمه الجوقة فى الغناء والرقص، وفى المنتصف مذبح Altar يستخدم فى أغلب المسرحيات اليونانية لتقديم القرابين للإله ديونيسيوس، وعلى الجانبين ممران يستخدمان لدخول الممثل إلى الأوركسترا. وكان الجمهور يجلس فى حلقات دائرية تستند على سفح تل، كبناء حجرى على شكل الرواق أو الجدار المرصع بالأعمدة وكأنها كواليس، يختبئ خلفها الممثل لوضع الأقنعة وتغيير الملابس، حينما ظهر الممثل الأوحد فى البداية على يد ثيسبس، فاضطر الجمهور لمغادرة ناحية من المدرجات لكى يستطيع مشاهدة أداء الممثل، فجلسوا فى شكل حدوة الحصان حتى تسهل الفرجة.

وكانت الجوقة فى البداية متجولة أثناء أداء الطقوس الدينية والاحتفالات، وانتقلت منها إلى الدراما اليونانية، وكانت الجوقة تتمتع بتكوينات بصرية ذات دلالة درامية. وكان لها رئيس يمثل الشاعر ويتحاور مع أفرادها، مما أفرز بدايات الحوار المسرحى، ويتم التحضير للعمل وتدريب أفراد الجوقة فى غضون شهر قبل بداية العرض، وتعمل المقاطع الغنائية للجوقة على تخفيف حدة التوتر الدرامى. وارتباط الموسيقى بالمسرح كفن فى البدايات ليس فقط من خلال الجوقة الغنائية، وإنما بتلازم وجود بعض الآلات الموسيقية المرافقة لهذه الجوقة منها الناى والقيثارة فى الدراما الإغريقية.

أما مفهوم المسرح الغنائى فظهر عند إسخيليوس، حيث استطاع أن يطور التراجيديا الإغريقية لخلق حالة من الصراع والتفاعل لإثراء الحالة الدرامية والتى كانت قاصرة على تفاعل الشخصيات مع الجوقة فقط. مما جعله يدرك حالة القصور الدرامى لأداء الممثل لدورى الإله والبطل، من خلال الأقنعة أو تغيير شكل الوجه، ما جعله يضيف ممثلا آخر ويدخل تعديلات على دور الجوقة التى وصل عددها إلى اثنى عشر شخصاً، وأضفى حالة من الواقعية والاندماج على العرض الدرامى. وكانت مسرحياته تسودها المسحة الغنائية المصحوبة بحالة من التشاؤم، الذى ينزوى تدريجياً نتيجة لتطور الصراع بين الإله والبشر. وظلت الجوقة تشغل أهمية بارزة بل تجسد دور بطولة وكأنها بطل داخل العرض الدرامى، كما يتجلى فى مسرحيتى "أجاممنون"، و"حاملات القرابين" حيث لعبت الجوقة ركيزة أساسية لبنية التطور الدرامى بما قدمته من أغنيات، وكانت تدخل العرض لأداء الغناء أو الرقص فى مسيرة جماعية منتظمة، وأحياناً بشكل فردى، أو مقسمة لمجموعتين بالتناوب، وقد تتبادل بعض المقاطع الحوارية مع الممثلين فى حدود ضيقة إذا أسند إليهم إلقاء جمل بعينها.

كما أقدم سوفوكليس على تطوير الدراما اليونانية على حساب الجوقة الغنائية التى تقلصت عن سابقتها، فرغم زيادة عددها على يديه لتصل إلى خمسة عشر مغنياً، إلا أنه أضعف تأثيرها الغنائى عما كان معمولاً به فى عروض إسخيليوس، وجعلها جزءاً عضوياً من العمل المسرحى، واهتم بالكتابة الأدبية والفكرية لنصوصه المسرحية، وأضاف الممثل الثالث، فأصبح المشهد والحوار فى حالة أكثر ثراءً ومتعة عن ذى قبل. وكانت الدراما اليونانية تتألف من المقدمة التى تمهد للعرض وتكون فى صورة مونولوج يؤديه الممثل، ثم انتقال الجوقة إلى الأوركسترا فى حالة من الإنشاد والغناء والرقص، يليها مشاهد تمثيلية، ويتخللها فواصل غنائية من الجوقة تعمل على الترفيه وتخفيف حدة التوتر الناجمة عن الصراع الدرامى المحتدم فى التراجيديا الإغريقية، وكذلك لإتاحة الفرصة للممثل لتغيير الملابس أو ملامح الشخصية إما بطلاء الوجه أو إضافة أقنعة تتناسب والشخصيات، وكانت الجوقة جزءا ضروريا لا يمكن الاستغناء عنه كمكون يستوجب التوظيف درامياً فى المسرح الإغريقى. ومع يوربيدس تراجع دور الجوقة، وأصبح وجودها يقتصر على كونها عادة مألوفة وكأنها قطعة ديكور داخل المنظر المسرحى، حيث اعتبرها عائقا لتنامى الأحداث الدرامية، واقتصر دورها على غناء بعد الفواصل بين مشاهد المسرحية، وفى كثير من الأحيان لا تربط موضوعاتها أى علاقة مع الموضوعات الدرامية المطروحة فى العرض.

وكان لاستخدام الجوقة فى المسرح اليونانى عدة وظائف كانت النواة الرئيسة لكيفية توظيف الموسيقى فيما بعد فى الأعمال الدرامية بأنواعها وأشكالها المختلفة، من المسرح إلى السينما ومن بعدها الدراما التليفزيونية، ثم دراما الوسائط المتعددة. حيث اعتمد على الجوقة فى أداء وظائف درامية ومسرحية باعتبارها فاصلا بين المشاهد تعطى فرصة للممثل للاستعداد للمشهد التالى، ربط الأحداث الدرامية، والتعبير عن الانفعالات الحسية والمشاعر الوجدانية، ضبط إيقاع العرض المسرحى، كما تقوم بدور المؤثر الصوتى، وجميع هذه الوظائف ما زالت تقوم بها الموسيقى باعتبارها البديل للجوقة فى هذه المرحلة.

وكانت الدولة اليونانية تتولى الإنفاق على الممثل، أما الجوقة فنظراً لعددها الكبير، الذى وصل إلى خمسة عشر فرداً فى التراجيديا بينما بلغ أربعة وعشرين فرداً فى الكوميديا، فكان الخرجوس الكوريجوس (الممول) باعتباره أحد الأثرياء فى المدينة يكلف بواجب الخدمة العامة، ومنها تمويل الكورس granting chorus، أو من خلال رجال السياسة لينالوا شعبية لدى المواطنين.

وفى القرن الثالث قبل الميلاد كان المسرح الرومانى امتداداً للمسرح الإغريقى، وفى هذا العهد زاد عدد الممثلين وتراجع دور الجوقة، شاركت المرأة فى الجوقة الغنائية، وأصبحت العروض المسرحية تأخذ الطابع الترفيهى، وكانت المسرحية الرومانية تكتب بالتعاون مع مؤلف موسيقى يذكر اسمه على رأس المخطوطة، وكان يفترض وجود عازفين بجوار الجوقة على منصة المسرح، بينما فى أواخر الإمبراطورية الرومانية شغلت الموسيقى حيزاً كبيراً من العرض، وكان الموسيقيون يتواجدون فى الكواليس أو على خشبة المسرح أو فى فتحة الأوركسترا، وظلت فتحة الأوركسترا المخصصة للموسيقيين موجودة حتى القرن التاسع عشر.

وإبان الفترة من 448-380 قبل الميلاد بعد أرسطوفان Aristophane اقتصر دور الجوقة على المقطع التعليقى فى نهاية العرض المسرحى، وعلى تقديم بعض الفواصل الغنائية بين المشاهد فى العروض الكوميدية، بينما اختفت تقريباً فى عروض التراجيديا الرومانية. ويعتبر هذا الانحسار التدريجى أحد أسباب زوال شكل العرض المسرحى الإغريقى. وساعد فى ذلك زيادة حجم الحوار، وارتفاع نفقات العروض المسرحية ما نجم عنه تراجع كبير فى دور الجوقة.

وفى القرون الوسطى ارتبط الفن بالدين وبالكنيسة بشكل كبير وعادت الجوقة فى الظهور فى هذه العروض ذات الصبغة الدينية، وكانت مقسمة لمجموعتين من المنشدين، للتعليق والربط بين المقاطع. وفى القرنين السادس عشر والسابع عشر تراجع دورها مرة أخرى، واستقل المسرح عن الموسيقى والغناء وأخذ طابعاً كلامياً مع زيادة الاهتمام بالنص المكتوب، فى حين ظهر المسرح الغنائى مع ولادة فن الأوبرا، وأصبحت الجوقة عنصراً شكلياً أكثر منه فاعلاً فى العرض المسرحى، واستعيض عن دورها الدرامى بشخصية المهرج المعلق على الأحداث فى المسرح الكلاسيكى الفرنسى، ويعتبر آخر ظهور للجوقة بشكلها التقليدى فى المسرح الأوروبى فى القرن الثامن عشر فى مسرحيات الألمان جوته Goethe، وشيللر Shiller.

وقبل ظهور الأوبرا كان هناك محاولات لإخضاع الموسيقى للنص من خلال بعض الصيغ الموسيقية مثل المادريجال والشانسون، لكنها لم تحظ على التحديث أو النتيجة التى جاهدوا للوصول إليها، لكن مع ظهور مجموعة من الشعراء والأدباء والنبلاء والمؤلفين فى إيطاليا وتحديداً بمدينة فلورنسا تحت اسم جماعة الكاميراتا فى أواخر عصر النهضة حوالى عام 1590 كرد فعل للبوليفونية الصارمة التى أضاعت معانى كلمات الشعر، فبحثوا عن وسيلة جديدة لم يتطرق إليها أحد، ووجدوا الحل فى إحياء المسرح اليونانى القديم المعتمد على الموسيقى وكيفية استخدامهم لها بمصاحبة التمثيل، مع مصاحبة آلية محدودة، حيث كان الغناء يؤدى بوضوح تام لمعانى الشعر. وبالفعل نتيجة لمحاولاتهم الأولى فى هذا الاتجاه ما أفرز عنه فن "الأوبرا" والذى ظهر عام 1594 بعرض أسطورة ملحنة بعنوان "دافنى" للمؤلف الموسيقى الإيطالى (J.Peri (1561- 1633 على شعر من نظم رينوتشينى Rinuccini وقدمت أمام جمهور خاص عام 1598، لكن موسيقى هذا العمل فقدت منذ أمد بعيد، وتعتبر أول أوبرا بالمعنى الذى نعرفه أوبرا "يوريديتشى" لبيرى أيضاً على قصيدة رينوتشينى والتى عرضت ضمن احتفال زفاف هنرى الرابع ملك فرنسا على مارى دى ميديتشى فى فلورنسا بإيطاليا فى أكتوبر عام 1600. 

وقد حاول بيرى فى هذه الأوبرا بجانب الغناء اكتشاف أسلوب جديد تمثل فى الإلقاء المنغم Recitative وهو تلفظ مترنم يتوسط الغناء والتكلم بمصاحبة الموسيقى، لكن فى إطار الحوار الكلامى، وكانت هذه البداية لانطلاق هذا الفن الرفيع فى إيطاليا والذى عرفته الإنسانية لأول مرة بكل ما ينطوى عليه من فنون رفيعة جاذبة. وبعد تجربة يوريديتشى أدخل الإيطالى مونتفردى  (C.Monteverdi 1567- 1643) كثيرا من التعديلات والتحسينات على هذه الصيغة وجعل للموسيقى دورا أكبر وزاد من عدد الآلات المشاركة فى الأوركسترا، وقدم أوبراه الأولى "أورفيو" والتى عرضت عام 1607 فى مانتوا، ثم جاءت أوبراه الجديدة قائمة على تلحينه لقصيدة "آريانا" والتى حملت أوبراه نفس عنوانها حين قدمت لجمهور مانتوا عام 1608، وتصاعدت شعبية فن الأوبرا، وافتتحت أول دار عامة لها فى البندقية تحت اسم "تياترو سان كاسيانو" عام 1637 وتبعتها دار "تياترو سان ماركو"، وأصبحت الأوبرا منذ هذا الحين من أهم المؤلفات الموسيقية التى تتكامل فيها الفنون السمعية والمرئية وانتشرت بشكل كبير فى إيطاليا وخارجها وأنشئت كثير من المسارح ودور العرض التى تتواءم مع قيمة هذه الأعمال فنياً وحتى تتناسب أيضاً مع الأعداد الكبيرة المشاركة فى مثل هذه العروض.

طفنا معاً فى رحلة قصيرة لتاريخ نشأة المسرح منذ حضارة المصريين القدماء ووصولاً بالأوبرا واحدة من أهم الفنون وأرقاها والتى ارتبطت بشكل مباشر بالمسرح وتنبنى كامل فكرتها على الموسيقى المحور الأساسى والمحرك الديناميكى لهذا الفن المسرحى الرصين.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة