كان عبد الوهاب المسيرى (193٨/2008) متخصصا فى الأدب والنقد الإنجليزى وأعد نفسه ليكون أستاذا جامعيا وباحثا فى هذا المجال النقدى والأدبى، غير أنه بعد حرب يونيه 1967، واشتعال حرب الاستنزاف قام بتعديل تخصصه، حيث اكتفى بالمشروع والفكرة الصهيونية، والحكاية كما سمعتها منه فى حوار معه لمجلة المصور أن رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل كان بدأ في تأسيس مركز الدراسات الفلسطينية بالأهرام، الذي صار وإلى يومنا هذا مركزا للدراسات السياسية والاستراتيجية، وقد استعان هيكل بمجموعة من شباب الباحثين، كان المسيري واحدا منهم، وبدأ يبحث ويكتب في الصهيونية والإسرائيليات فقدم لنا عشرات الدراسات، من بينها «الأيديولوجية الصهيونية» وصدر فى جزأين عن سلسلة «عالم المعرفة» بالكويت وتوج دراساته بموسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية».
لم يكن المسيرى وحيدا في هذا المجال، بل هناك عدد آخر من الباحثين فعلوا الشيء نفسه، أستاذ علم النفس السياسى د. قدرى حنفى، أعد رسالته "تجسيد الوهم" تناول فيها تحليل الشخصية الصهيونية، وتواصلت دراساته وترجماته في هذا الجانب، ولا يمكن أن ننسى باحثا مفكرا في وزن د. حامد ربيع أستاذ النظرية السياسية بكلية السياسة الذى قدم لنا عدة كتب مهمة حتى يومنا هذا عن طبيعة العقلية والسياسة الإسرائيلية، خاصة الثقافى منها، عشرات الأسماء من كتاب كبار وصحفيين ومترجمين انشغلوا بالشأن الإسرائيلى، بحثا عن دراسة وتقديم الأفكار حولها، حتى صار لدينا ما يمكن أن نعده مكتبة كاملة، حول ما يتعلق بالصراع العربى – الإسرائيلى في مراحله وأشكاله المختلفة.
هؤلاء جميعا من خارج المجال إن صحت التسمية، أما من هم أبناء المجال فلدينا أقسام الدراسات العبرية وقدمت لنا اسماء مضيئة، هؤلاء جميعا ركزوا دراستهم على تلك القضية، اسماء مثل د. رشاد الشامى صاحب الموسوعة المهمة عن اليهود والديانة اليهودية، د. إبراهيم البحراوى المترجم والباحث الوطنى المتميز، وهناك المعلم الرائد د.حسن ظاظا الذى قدم مبكرا العديد من الاجتهادات، وإلى يومنا هذا، لدينا اسماء كثر، يكفى أن نذكر اسم عميدة آداب عين شمس أ.د"حنان كمال" عنوانا لجيل بأكمله يسير على هذا الدرب. وهناك تصور سائد لدى بعضنا أن الباحثين والكتاب المصريين تحديدا والعرب عموما كانوا منشغلين عن هذه القضية لعقود بسبب الانشغال بقضية الاحتلال البريطانى لمصر وبطلب الجلاء، وأنهم انتبهوا إلا مع قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 ثم مع حرب 1948، بل إن هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك متهما الكتاب المصريين بالصمت عمداً عما كان يجرى، ثم زاد البعض إلى الاتهام بالتواطؤ، وهكذا وجدنا اتهاما مضللا وكاذبا لعميد الأدب العربى د. طه حسين أنه لم يكتب عن فلسطين ، وأنه كان متعاطفا مع اليهود، شمل الاتهام كذلك معظم رموز المدرسة الليبرالية المصرية، فيما بدا وكأنها معركة تصفية حسابات أيديولوجية، وهذه الإدعاءات كلها كاذبة ومضللة، سبق لنا الرد عليها، لكن من المهم إعادة التذكير والتأكيد على موقف المفكرين والكتاب والصحفيين المصريين الواضح من هذه القضية، مبكرا جدا، أى منذ نهاية القرن التاسع عشر ومن حسن الحظ، أن دار الكتب تحفظ لنا الدوريات المصرية من صحف ومجلات فضلا عن الكتب التى تشهد بأنهم نبهوا مبكراً جدا جدا.
بعد انتهاء الحروب الصليبية على النحو المعروف، بمغادرة الفرنجة، بلاد المنطقة مهزومين وفشل مشروعهم، استقرت الأمور في فلسطين للعرب وبقى الحنين الأوروبى إلى القدس وبيت لحم في الاطار الدينى فقط، أى في حدود الحج وزيارة الأراضى المقدسة، خاصة لدى اليهود، واحترم العرب ذلك وأتاحوا لهم الزيارة،إلى أن أطل علينا عصر الاستعمار مع حملة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر على مصر والشام، وانكشاف ضعف وترهل الدولة العثمانية وطمع الأجانب في ممتلكاتها، هنا أطل الحلم الصهيونى في فلسطين، هجرات مكثفة لليهود الأوروبيين، وهى هجرات بقصد الإقامة النهائية ليس الزيارة للحج والتبرك، وصاحب ذلك سعى حثيث للمهاجرين إلى التملك وحيازة الأرض، مساحات واسعة ومجمعة داخل فلسطين، وإقامة وحدات إدارية واقتصادية مستقلة، كانت تسمى مستعمرات، يملكها يهود فقط وهم وحدهم الذين يسكنون بها.
شعر أهالى فلسطين بما يجرى حولهم، فراحوا يرصدون الظاهرة ويشكون، كانت الشكاوى تتجه إلى الباب العالى، حيث مولانا السلطان "فى اسطنبول"، وشكاوى أخرى كانت إلى الصحف والمجلات في القاهرة وفى دمشق. الأمر في صحف القاهرة، تحول إلى قضية عامة، تبحث باهتمام من الكتاب الكبار، مثل رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان وشبلى شميل وغيرهم، صحف ومجلات مثل المؤيد والأهرام والمنار والهلال، أفردت مساحات واسعة لهذه القضية، فضلا عن الاهتمام بكل ما يرد إلى الصحف من داخل فلسطين، هذه الشكاوى كانت تقدم وقائع كاملة وبالاسماء لعمليات بيع الأراضى وطرد الأسر الفلسطينية منها وإقامة منشآت عليها.
ويمكن القول إن كتاب تلك المرحلة توزعوا بين فكرتين رئيسيتين، الأولى أن الهجرة اليهودية المتزايدة إلى فلسطين، هى قضية إنسانية في المقام الأول ولا يجب أن تزعجنا ولا أن نقلق منها، كما لا يجب على الفلسطينيين أن يقلقوا. الثانى أن هذه الهجرات ليست فقط قضية إنسانية، بل انها مشروع سياسى واستيطانى يجب التصدى له.
من الذين تصوروها قضية إنسانية كان الأمير شكيب أرسلان، فقد اعتبرها شهادة للدولة العلية العثمانية، أنها دولة الأمن والأمان وأن اليهود المضطهدين في أوروبا المغلوبين هناك، يجدون السعة والرحابة في ظل الدولة العلية، حيث الاسلام يؤاخى بين الناس ولا يفرق بين البشر، وأما المخاوف السياسية فلا مبرر لها عنده، خاصة وأن الدولة العلية يقظة ومنتبهة ولا يمكن أن تسمح بتحقيق تلك المخاوف، مع ملاحظة أن متصرفية القدس "نتبع مولانا السلطان مباشرة". وذهب شبلى شميل، بعيدا في هذا الجانب، إذ رأى أن الأرض لمن يعمرها ويزرعها، وهؤلاء المهاجرون جاءوا ليزرعوا الأراضى البور ويستصلحوا منها ما لم يكن مهيأ للزراعة، لذا يرى شميل، أن واجبنا الترحيب بأولئك المهاجرين ولا ننزعج من وجودهم وتعاظم نفوذهم واتساع ممتلكاتهم. السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة "المنار" وتلميذ الشيخ محمد عبده، كان موقفه متأرجحا، تارة يراها هجرة إنسانية ولا يجب القلق منها وتارة يذهب إلى المخاوف السياسية، لكنه على صفحات المنار وجه إلى فكرة محددة، وهى إما أن نتفق على أنها مسألة إنسانية ويتم التوقف عن الجدل بشأنها، وإذا لم يكن الأمر كذلك فليتخذ قراراً صارما بمنع تلك الهجرات تماما إلى فلسطين، بل طرد ممن جاءوا والتفاصيل كاملة في كتابى :"المفكرون العرب والصهيونية وفلسطين".
ويجب القول أن الصحف المصرية خاصة كان بها عدد من الكتاب والصحفيين اليهود، هؤلاء كانوا يصرون على أنها هجرات هربا من الاضطهاد وكراهية اليهود والعداء للسامية، خاصة في بلاد شرق أوربا، وأنهم اختاروا المنطقة العربية لأنها الأكثر أمانا وتسامحا". على مستوى السلطنة العثمانية، تحديدا السلطان عبدالحميد والمحيطين به، هناك ما يشير بوضوح إلى الانتباه والاقتناع بأن هذه الهجرات خلفها مشروع سياسى، وهو إقامة كيان يهودى أو دولة على أرض فلسطين، هناك محادثة شهيرة سنة 1903 بين السفير العثمانى في باريس مع كبير حاخامات فرنسا، يقول له السفير، وكان فلسطينى إننا على علم بأنكم تريدون إقامة دولة في فلسطين، ولم ينكر كبير الحاخامات الأمر، كما لم يعترف به.
وقد اتخذت الدولة العلية بعض الإجراءات واهتم السلطان عبدالحميد، فقد منع تملك اليهود أراضي ومبانى حول المسجد الأقصى لكن لم يمنع تملكهم في المدن الفلسطينية الأخرى، المشكلة لم تكن في السلطان ولكن في المسئولين المحليين، الولاة بالمدن الفلسطينية ومناطقها، هؤلاء كان فيهم الفاسد والمرتشى، فأهدروا فرمانات السلطان لحساب مصالحهم الصغيرة، الصحف المصرية بها شكاوى بأسماء هؤلاء جميعا وما كانوا يقومون به من فساد وإفساد، أدى في النهاية إلى النتيجة التى نعرفها جميعا، فساد المحليات مبكرا.
ويمكن القول إن المسألة الفلسطينية والهجرات اليهودية ظلت متأرجحة بين الاعتبارين الإنساني والسياسى حتى صدور وعد بلفور في نوفمبر سنة 1917، وقبل نهاية الحرب العالمية الأولى، الوعد المشئوم -حسم هذه المسألة تماما، إذ أكد على تعاطف حكومة بريطانيا العظمى مع أهالى اليهود في "إقامة وطن قومى في فلسطين"، وقد ذهب البعض، دفاعا عن الوعد له، إلى القول أنه تحدث عن "وطن قومى لليهود".
ولم يتحدث عن دولة، لكن وزير خارجية بريطانيا العظمى سير آرثر بلفور، لم يكن رجل إنسانيات يهتم بقضايا المشردين واللاجئين، وقتها كانت بريطانيا تحتل نصف العالم تقريبا، يكفى أنها كانت تحتل الهند ومصر، ويتناسى هؤلاء أن الوطن، لا تكتمل له معناه بدون دولة، الوطن يفترض ضمنيا وجود الدولة، ثم إنه تحدث عن وطن لليهود، أى على أساس دينى وطائفى، لم يقل وطنا للمهجرين أو المضطهدين في أوروبا مثلا، بل أصر على أنه لليهود فقط، لم يقل حتى ليهود أوروبا "المضطهدين" بل عموم اليهود، فضلا عن أنه اعتبرها قضية"حق". قبل وعد بلفور وقبل نشوب الحرب العالمية الأولى بعام قام مؤسس "الهلال" ورئيس تحريرها جورجى زيدان بزيارة إلى فلسطين، كان زيدان يزور الشام بين حين وآخر، وله العديد من الرحلات، لكنه صيف سنة 1913 قرر أن يزور فلسطين، الواضح أنه اختار فلسطين تحديدا بعد أن تعددت الشكاوى مما يجرى هناك، فذهب هو كمحقق صحفى، جاب فلسطين كلها مدنها وقراها، ثم عاد لينشر على صفحات "الهلال" تحقيقاته الموسعة، وقد توفاه الله قبل أن تكتمل الحلقات، لكن الواضح أنه كان قد انتهى من كتابتها، فتواصل النشر بعد وفاته، ومن أسف أن تلك الرحلة لم تجد من الدارسين الاهتمام المناسب.
كان زيدان أول من أكد بالمعلومة والصورة أن ما يجرى في فلسطين هو الشروع في تأسيس دولة عبرية، وقال حرفيا ، إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإن فلسطين خلال عشرات السنوات سوف تضيع من أيدى العرب والمسلمين، توفى زيدان سنة 1914، وبعد وفاته بأقل من ثلاثة عقود، كانت الدولة العبرية جاهزة للإعلان ولكن كانوا بانتظار التوقيت المناسب، وقد حدث في مايو سنة 1948. رصد زيدان إحياء اللغة العبرية بين المهاجرين وأنها لغة التعليم والدراسة لديهم، وقد أسسوا المدرسة العبرية لهذا الغرض وسوف تصبح فيما بعد الجامعة العبرية في القدس. بالإضافة إلى اللغة، هناك شركة بريد خاصة بهم ومواصلات لهم هم فقط، ناهيك عن المصانع التى شرعوا في بنائها، بينها مصانع للسلاح.. لكن أهم ما لاحظه هو بناء مدينة "تل أبيب"، كانت على انقاض قرية "تل الربيع"، قرية فلسطينية قاموا بشرائها وأسسوا المدينة "عاصمة" الدولة التى بصدد تأسيسها.
كان وصفا مثيرا ودقيقا، وحتى لحظتها كان بالإمكان تدارك الموقف، لكن الدولة العثمانية، كانت وصلت إلى حالة من الشلل والعجز التام من اتخاذ أى إجراءات ، وكان المشروع الاستعمارى يتقدم، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى لتفرض متغيرات جديدة في العالم وفى المنطقة، تغيرات سمحت في نهاية الأمر بتأسيس الدولة العبرية. المهم أنه في كل هذا لم يكن الكتاب والمفكرون – كما يتصور البعض – غير مدركين ولا معنيين بما يجرى على حدودنا وفى قلب المنطقة، كتبوا ونبهوا مبكراً، جيلا وراء جيل، حتى يومنا هذا.