الثلاثاء 29 يوليو 2025

مقالات

يونيو والإنقاذ..الدولة الوطنية تحديات وجودية

  • 24-6-2025 | 10:05
طباعة

تواجه الدولة الوطنية في عدد من البلدان العربية مخاطر جمة؛ بعض هذه المخاطر يهدد وجود الدولة ذاته، أويضعف دورها ويحد من أدائها. من يتابع ما يجري في العاصمة الليبية طرابلس من اشتباكات مسلحة، وما يقع في السودان الشقيق، ثم هناك في سوريا ولبنان، يدرك وجود مخاطر حقيقية. لا يعني ذلك أن بقية البلدان مبرأة تمامًا، لكن حدة المخاطر قد تكون أقل.

معظم تلك المخاطر يتركز في ضعف الوعي بمفهوم الدولة ودورها ومعناها.

في بعض البلدان والمجتمعات، يعلو الحس والارتباط الطائفي؛ بالمعنى الديني والمذهبي، فيصبح الولاء للطائفة هو الذي يحكم ويتحكم، وشيخ الطائفة أو رمزها هو صاحب الكلمة العليا والأمر النافذ. ذلك كله يعد خصمًا من قوة الدولة وهيبتها، خاصة إذا لجأت كل طائفة أو أى منها إلى بناء قوة مسلحة خاصة بها؛ فهنا تصبح الدولة مجرد ديكور فقط.

وفي بعض البلدان، بدلًا من الطائفة والانتماء إليها، يكون الانتماء إلى القبيلة أو العشيرة، وقد يكون الانتماء إلى المنطقة والإقليم الضيق، أو حتى المدينة التي يعيشون بها، وهذا أيضًا يؤدي في النهاية إلى إضعاف أداء الدولة، وفي لحظة الضعف يبرز الانتماء القبلي ويعلو على ما هو وطنى عام. المشكلة هنا أن الانتماء للقبيلة أو العشيرة، وربما الطائفة، قد يوظف الدولة وسلطانها وفق المصالح القبلية أو الطائفية؛ فتجد قبيلة معينة تدفع بأبنائها إلى المناصب والمواقع البارزة في مؤسسة بعينها، ومع الوقت تتحول المؤسسة بأكملها إلى غطاء للقبيلة أو الطائفة أو فرع لها.

هناك كذلك ما أُطلق عليه في مصر سابقًا "مراكز القوى". كان الرئيس جمال عبد الناصر هو صاحب ذلك المصطلح، منذ سنة 1966، وتوسع في استعماله بعد ذلك الرئيس السادات. والمقصود به أن فردا أو مجموعة نافذة في موقع أو مؤسسة ما، يستغلون الموقع لبناء نفوذ خاص بها، وتحقيق مكاسب واستفادات مباشرة على حساب المجموع العام والصالح الوطني.

ويرتبط بوجود مراكز القوى ظهور الفساد الإداري، وربما المالي، الذي يمكن أن ينخر في الدولة ما لم يُواجَه بحسم وسرعة. خطورة هذا النوع من الفساد الإداري أنه يفقد المواطن الثقة في الدولة، ويضعف هيبتها وتأثيرها.

في بعض الحالات، تستفحل مراكز القوى وتهدد بالانشقاق على الدولة أو الخروج عليها، خاصة إذا كانت في وضع يتيح لها امتلاك القوة المسلحة. وأمامنا ما وقع في السودان منذ شهر أبريل سنة 2023 من قوات الدعم السريع.

المخاطر السابقة لا تبدأ ولا تتحرك من موقع رفض وجود الدولة أو معاداتها، لكنها تتحرك بدافع المصالح الفئوية أو الطائفية والمذهبية وغير ذلك.

لكن هناك فصائل ومجموعات تبدأ من رفض وجود الدولة الوطنية، قبل عدة عقود كانت هناك الجماعات الماركسية التى كانت تؤمن بأهمية الطبقة العاملة، على حساب المعنى الوطنى، لكن تراجع دور تلك الجماعات وانتهى بسقوط الاتحاد السوفييتى سنة 1990 وعودة روسيا مجددا دولة وطنية وقومية. حاليا تتركز التى تنكر وتحارب الدولة الوطنية في مجموعات الإسلام السياسي، التي خرجت من عباءة جماعة حسن البنا، المسماة "الإخوان المسلمون". هذه المجموعات تسخر من مفهوم ومعنى الوطنية، إذ إن الوطن لديهم "حفنة من طين عفن"، كما قال سيد قطب ذات يوم، وكما قال المرشد العام مهدي عاكف في حوار صحفي: "طُظ في مصر"، وأنه لا يجد غضاضة في أن يحكم مصر باكستاني أو ماليزي.

هنا نحن بإزاء تيار بأكمله لا يعترف بمفهوم ومعنى الوطن، بل يتحدثون عن "دار الإسلام"، وقد عرفها حسن البنا بأنها توجد حيث وُجد مسلم في أي مكان بالعالم. وهذه تعبيرات قد تُفهم على أنها حس شاعري لو أن قائلها أديب أو صوفي أو شاعر، أما وأن القائل هو مؤسس تلك الجماعة، فهذا إنكار تام لمفهوم ومعنى الوطن، وتجاهل للروح الوطنية.

هم كذلك لا يؤمنون بمفهوم ومعنى الدولة الحديثة؛ يتحدثون عن "الخلافة"، لكن الخلافة مفهوم بات في ذمة التاريخ، منذ سقوط الدولة العباسية. ويذهب البعض إلى أنها انتهت بنهاية زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم جميعًا. أما الدولة العثمانية، فكانت سلطنة ولم تكن خلافة. الوحيد الذى أطلق على نفسه لقب "خليفة" هو السلطان عبد الحميد الثاني، وفي العموم فقد وضع الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك حدًا لهذه الأفكار كلها سنة 1924، حين أعلن إسقاط الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية، وهي قائمة إلى يومنا هذا.

وكان يمكن القول إن هذه الجماعات تعبر عن موقف فكري أو تيار ثقافي مختلف، ويجب علينا التعامل معه من قاعدة الحرية الفكرية والثقافية، لكن المشكلة أن هؤلاء يقيمون تنظيمات، ويعملون تحت الأرض، يؤسسون ميليشيات مسلحة، يدربونها ويسلحونها، وتقوم بالاعتداء على رموز الدولة ومؤسساتها، أي إعلان الحرب على الدولة.

وتأمل ما قام به حسن البنا في مصر: تدبير اغتيال أحمد ماهر، رئيس الوزراء سنة 1945، ثم المستشار أحمد الخازندار، ومن بعده رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي. وهكذا، عمليات اغتيال لرموز الدولة، والهجوم على مؤسساتها ومنشآتها، ثم القيام بعمليات إرهابية في الشارع لبث الفزع بين المواطنين، واختتمت بتدبير محاولة لاغتيال الملك فاروق سنة 1950، وتم اكتشافها في اللحظات الأخيرة.

بمتابعة الميليشيات والعصابات الإرهابية التي تُكوِّنها تلك الجماعات، نجد أنها تضم عناصر من مختلف أنحاء العالم. في مدينة الموصل، حين استولى عليها "الدواعش"، طردوا طبيبًا مسيحيًا من المدينة، ابن أسرة عريقة وسلموا بيته لمقاتل شيشاني جاء من الشيشان ليستولى على بيت ابن المدينة أبا عن جد!

حدث مثل هذا في كل مكان تواجدوا فيه، سواء كانت سوريا أو ليبيا أو العراق في وقت ما.

السؤال الكبير هو: ماذا عنا نحن في مصر؟!

لست بحاجة إلى العودة للفصول المريرة التي عاناها المصريون مع تلك الجماعة، ولكننا عايشنا جميعا الأوضاع التي أدت إلى قيام ثورة 30 يونيو 2013 ضد جماعة حسن البنا، ثم المعارك المسلحة التي شنوها على المواطنين وعلى مؤسسات الدولة الوطنية بعد ذلك.

كانت ثورة 30 يونيو حراكًا شعبيًا مذهلًا، عشرات الملايين في الشوارع يهتفون: "يسقط... يسقط حكم المرشد"، لكن جماعة المرشد رفضوا احترام إرادة الشعب، وأطلقوا عناصر الإرهاب، واحتلوا منطقة رابعة العدوية بالكامل.

أخطر ما في هذه الجماعات، والأشد عداءً للوطن عندهم، هو أنهم يستعينون دومًا ضد أبناء الوطن ومؤسسات الدولة بالقوى الأجنبية التي تريد السيطرة على البلاد أو احتلالها. منذ البداية كانوا أعوان سلطات الاحتلال البريطاني، يكفى أن حسن البنا أسس جماعته بالدعم المالى الضخم من شركة قناة السويس وكانت إنجليزية فرنسية، وحين أطلقوا مقولة "الوطن حفنة من تراب عفن"، كان ذلك إبان العمليات الفدائية في منطقة القناة ضد القوات الإنجليزية بعد أن ألغت مصر معاهدة سنة ١٩٣٦ من جانب واحد فى أكتوبر ١٩٥١ كانوا يضعفون روح المقاومة ويهونون من معنى الوطن لحساب قوات ودولة الاحتلال.

وفي أثناء العمليات الإرهابية بعد ثورة 30 يونيو، اعتمدت الجماعة كليًا في تحركاتها السياسية وعلى أرض الواقع على نصائح وتوجيهات السيدة "آن باترسون"، السفيرة الأمريكية في مصر، تنفيذا لمشروع الرئيس باراك أوباما. بلغ الأمر حد تسريب وثائق سرية تتعلق بالدولة إلى الخارج، مع قوى ودول كانت تكنّ العداء للدولة المصرية.

من حسن حظ مصر والمصريين أن لدينا مؤسسات قوية ومتجذرة في المجتمع، فضلًا عن أن الوعي بضرورة وجود الدولة الوطنية وأهميتها عميق في الضمير المصري، منذ أن كانت مؤشرات هذه الدولة تقوم على ترويض نهر النيل ليصبح مصدرًا للخير وللحضارة. ترويض النهر كان يحتاج دائمًا إلى وجود دولة يمكنها السيطرة وإدارة الأمور بكفاءة ورُشد.

نجحت ثورة 30 يونيو، ثم خارطة الطريق يوم 3 يوليو، في مواجهة أطول وأعتى التحديات، المتمثلة في جماعات الإرهاب وميليشياتها وأفكارها. لكن يجب أن ننتبه: الأفكار لا تموت، يمكن أن تخبو وأن تتراجع، لكنها لا تموت، وتظل قابلة للإحياء مجددًا.

أهمية ما جرى في مصر يوم 30 يونيو 2013 وما بعدها، أنها كانت بمثابة فرملة شديدة لاندفاع جماعات التطرف والعنف والإرهاب نحو إسقاط الدولة الوطنية في المنطقة العربية برمتها. وما جرى في تونس بعد ذلك، وما جرى في المملكة الأردنية الهاشمية قبل أسابيع من جماعة حسن البنا، يؤكد أن الإصرار فى المنطقة على الدولة الوطنية موجود وقائم، برغم التحديات. ولا بديل عن الدولة الوطنية سوى الميليشيات، وجماعات العنف المتمرسة خلف فهم معين للدين أو الشعور الطائفي، أو الاستعانة بالمحتل الأجنبي، أيًّا كان اسمه أو عنوانه.

يرتبط وجود مراكز القوى بظهور الفساد الإدارى وربما المالى الذى يمكن أن ينخر في الدولة ما لم يواجه بحسم وسرعة

محمود فهمى النقراشى

أحمد الخازندار

جمال عبدالناصر

السادات

نجحت ثورة 30 يونيه ثم خارطة الطريق يوم 3يوليو في مواجهة أطول وأعتى التحديات، المتمثلة في جماعات الإرهاب وميليشياتها وأفكارها

الاكثر قراءة