الثلاثاء 29 يوليو 2025

مقالات

المودَّة في القُرْبَي


  • 30-6-2025 | 22:54

د. محمد عبد الدايم الجندي

طباعة
  • د. محمد عبد الدايم الجندي
 
الحمدُ للهِ الذي فتحَ بمفاتح الغيوب أقفالَ القلوبِ، وعجزت العقولُ عن إدراكِ كُنْهِ ذاتِهِ، وتاهتْ فهومُ الفحولِ في أنوارِ معرفةِ صفاتِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد بألوهيَّته الأزلي بأوليَّته، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد..
فما من قلب يسطر بمداده حروفا تسئ إلى قدر ومقدار آلِ البيتِ نفعَنا اللهُ بهم دُنْيَا وأخرى إلا رأَيْنا في مكتوباته استنباطاتٍ فاسدةً لا تقومُ على فَهْمٍ رشيدِ، وذلك أنه ليس كُلُّ فِكْرٍ صوابًا، والفرقُ بين الفكرِ الصحيحِ والفكرِ الفاسدِ: أنَّ الأوَّلَ محكومٌ بقواعد علمية، خلافًا للثاني الذي يسيرُ كيما اتفق له، ونحن لا نمنعُ أحدًا من التفكير، لكن نقول: إنَّ الكلامَ في الأمورِ الدينيَّةِ لا بُدَّ أنْ يكونَ مسبوقًا بالتمكُّنِ من العلومِ الضابطةِ للاستنباطِ، وأعلى تلك العلوم: علمُ المنطقِ وعلمُ أصولِ الفقهِ وعلمُ العقائدِ، فالأوَّلُ ضابِطٌ للفكرِ العامِ، والثاني ضابطٌ للفكرِ المُختص بالأحكام الفرعية، والثالثُ ضابطٌ للفكرِ المُختص بالأحكامِ العقدية، وليس كلُّ أحدٍ أهلًا لأخذِ الأحكامِ من النصوصِ.
لذلك أَرَدْنَا هنا أن نذكرَ بعضَ الأمورِ التي من خلالها نَعْرِفُ منزلةَ هذا البابِ من رحمةِ الله تعالى لخلقِه، ونعلم فسادَ تلك الانحرافاتِ في الفهم التي يَقِفُ وراءَها بِغْضةٌ لهؤلاء السادة.
 ولك أنْ تعلمَ أيُّها القارِئ ما خصَّ اللهُ به مصرَ من مزايا، والذي يُفكِّرُ بعُمْقٍ ويَلتمسُ الحِكَمَ من الأحداثِ يجد أنَّ من رحمةِ اللهِ أنْ جَرَتْ بعضُ الأحداثِ لآل البيت، فعُذِّبُوا وأُخْرِجُوا مِن ديارهم حتى آلَ كثيرٌ منهم إلى مصر واستقرَّوا بها حياةً وموتًا، ولولا هذه الأحداث التي ظاهرها العذاب ما قَدِمَ هؤلاء السادة إلى مصر، لكن أراد اللهُ ذلك؛ ليكونوا بابًا من أبوابِ رحمتِه بتلك البلاد التي استقرُّوا بها إلى يوم الدين، وهذا سِرٌّ من أسرارِ حِفْظِ الله لمصرنا الحبيبة.
 وقد بلغَ تعظيمُ آلِ البيتِ مبلغًا جعلَ سيدي علي الخوَّاص أنْ يخلَعَ نَعْلَيْه كما قرب من مقامِ السيدةِ زينب، وفي ذلك يقول سيدي عبد الوهاب الشعراني: «وقد أخبرني سيدي علي الخوَّاص ــ رحمه الله تعالى ــ أن السيدة زينب المدفونة بقناطر السباع ابنة الإمام علي ــ كرَّم الله وجهه ــ في هذا المكان بلا شك، وكان يخلع نعليه على عتبةِ الدرب، ويمشي حافيًا حتى يُجاوِزَ مسجدها، ويقف تجاه وجهها ويتوسَّل بها إلى الله تعالى في أن يغفر له».
المراد بآل البيت:
أخبَـرَ رسولُ اللهِ ﷺ أنَّ حُبَّ آلِ البيتِ والسَّيْـرَ على مَنهجِم عاصِمٌ من الزَّلَلِ، فقال ﷺ: «إني تارِكٌ فيكم الثَّقَلَيْنِ، أحدُهُمَا أكبَـرُ من الآخرِ: كتابُ اللهِ  حَبْلٌ ممدودٌ من السماءِ إلى الأرضِ، وعِتْرتي أهلُ بيتي، وإنهما لن يَفْتَرِقا حتى يَرِدَا عليَّ الحَوْضَ».
والمراد بآل البيت عند الجمهور: سيدنا علي، والسيدة فاطمة، وسيدنا الحسن والحسين؛ لِمَا سيأتي من أحاديث.
وقيل: إن زوجاته ﷺ من آل البيت، قال النسفيُّ: «وفيه دليلٌ على أنَّ نساءَهُ مِنْ أهلِ بيتِه».
ومما يدلُّ على الأول:
ما أخرجه الطبرانيُّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما، قالوا: يا رسول الله، ومَنْ قَرابَتُكَ هؤلاء الذين وَجَبَتْ علينا مَوَدَّتُهُم؟ قال: «عليُّ وفاطمةُ وابناهُما»( ).
وتأمَّل الآيةَ السابقة! فالنبيُّ ﷺ لم يطلُبْ آجرًا على رسالتِه إلا أنْ نَودَّهُ في آلِ بيته، ومن الكرم أنَّ فضلَ هذه المودَّةِ يعودُ على الشخصِ المُمتثلِ لذلك، لا على النبي ﷺ ولا على آل بيته.
وأخرج مسلمٌ وأحمدُ والترمذيُّ أنه دعا رسولُ الله ﷺ عَلِيًّا وفاطمةَ وحَسَنًا وحُسَيْنًا، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي».
وروي الطبرانِيُّ وابنُ عساكِرَ أنه ﷺ قال: «أنا وفاطمةُ وحَسَنٌ وحُسَيْنٌ مُجتمِعُون ومَنْ أَحَبَّنا يومَ القيامةِ، نأكُلُ ونَشرَبُ حتى يُفرَّقَ بينَ العبادِ».
وأخرج ابنُ ماجه عن ابن عمر أنَّ رسول الله ﷺ قال: «الحسنُ والحُسَيْنُ سَيِّدَا شبابِ أهلِ الجنَّةِ، وأبوهما خيرٌ منهما».
وأخرج أحمدُ والترمذيُّ والطبرانِيُّ عن عليٍّ أنه قال: «مَنْ أحبَّنِي وأَحَبَّ هذين وأباهما وأُمَّّهُما كان معي في درجتي يوم القيامة».
وأخرج الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: «النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ».
وأخرج مسلمٌ في صحيحِه أنَّ عائشةَ ــ رضي الله عنها ــ قالت: «خرج النبيُّ ﷺ غَداةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أسودَ، فجاء الحسنُ بنُ عليٍّ فأدخله، ثم جاء الحسينُ فدخلَ معه، ثم جاءت فاطمةُ فأَدْخَلَها، ثُمَّ جاء عليٌّ فأدخله.
وهذه الآيةُ تشتملُ على فوائد عظيمة، ذَكَرَ بعضَها العلامةُ علي السَّمْهُودي، ولم يتعرَّضْ لها أحدٌ قبلَه كما صرَّح بذلك:
أحدها: اعتناءُ الباري بهم، وإشادتُهُ لعَلِيِّ قَدْرِهم.
ثانيها: تصديره لذلك بقوله: (إنما) التي هي أداةُ حَصْرٍ؛ لإفادة أنَّ إرادتَهُ تعالى في أَمْرِهم مقصورةٌ على ذلك.
ثالثها: تأكيدُه تعالى لتطهرهم بالمصدر؛ ليُعلِمَ أنه في أعلى مراتب التطهير.
رابعها: تنكيره تعالى لذلك المصدر؛ حيث قال: (تطهيرًا) للإشارة إلى كونِ تطهيرِه إيَّاهم نوعاً عجيبًا غريبًا ليس مِمَّا يعهده الخلقُ ولا يُحيطون بدَرْكِ غايته.
خامسها: شِدَّةُ اعتنائِه ﷺ بهم، وإظهاره لاهتمامه بهم، مع إفادة الآية لحصوله، فهو لطلبِ تحصيلِ المزيدِ من ذلك لهم؛ حيث كرَّرَ طلبَهُ لذلك من مولاه.
سادسًا: أنَّ قَصْرَ الإرادةِ الإلهيةِ في أمرهم على إذهابِ الرجسِ والتطهيرِ يُشِيرُ إلى ما وَرَدَ في بعضِ الطُّرُقِ من تحريمهم في الآخرة على النار... إلى آخر هذه الفوائد النفيسة( ).
وهذا هو المراد بآل البيت في مقام المدح الوارد في الكتابِ والسُّنَّة، خلافًا لمقامِ الزكاةِ ومقامِ الدعاء.
حيث يُراد بهم في مقام الزكاة: بنو هاشم والمطلب عند الإمام الشافعي، وبنو هاشم فقط عند المالكية والحنابلة، وخصَّت الحنفيةُ فرقًا خمسةً من بني هاشم، وهم: آل عليٍّ، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، وآل الحارث بن عبد المطلب.
ويُراد بهم في مقام الدعاء: أتقياء أمته؛ إمَّا بتقوَى الشرك بالإيمان، وإما بتقوَى المعاصي بالطاعات، وإما بتقوى الأغيارِ بالتوجُّه للواحدِ القهار، وهذا مقامُ خواصِّ الخواصِّ؛ كالأنبياءِ والكُمَّلِ من غيرهم( ).
كلُّ ذلك يدُلُّنا على عِظَمِ منزلةِ آل البيت، وعلى عِظَمِ منزلةِ سيِّدنا عليٍّ، فيكف يُخْرِجُهُ الكاتبُ من آل البيت باستنباطاتٍ فاسدةٍ عليلةٍ؟!
بُغْضُ آلِ البيت نفاقٌ:
من يجد في نفسه شيئًا إذا ذُكِرَ أمامه آل البيت فليَخَفْ على إيمانه، ومما يدل على ذلك ما يأتي:
أخرج أحمدُ أنَّ رسول الله ﷺ قال: «مَنْ أَبْغَضَنَا أهلَ البيتِ فهو مُنافِقٌ».
وأخرج الطبرانِيُّ وابنُ عساكِرَ عن جابر بن عبد الله أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «أيُّها الناسُ مَنْ أَبْغَضَنا أهلَ البيتِ حَشَرَهُ اللهُ يوم القيامة يهودِيًّا» فقلتُ: يا رسول الله، وإنْ صامَ وصلَّى؟ قال: «وإنْ صامَ وصلَّى وزَعَمَ أنه مُسْلِمٌ».
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أن رسول الله ﷺ قال: «إنَّ كُلَّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنقطِعٌ يومَ القيامةِ إلا سَبَبِي ونَسَبِي».
مزايا آل البيت( ):
منها: تحريمُ الصدقةِ عليهم؛ لكونها أوساخَ الناسِ، وتعويضُهُم خُمُسَ الخُمُسِ من الفَيْءِ والغنيمةِ.
ومنها: الاصطلاح على إطلاق (الأشراف) عليهم دون غيرهم.
ومنها: أنه يُطلب إكرامُهم وتوقيرُهم وإيثارُهم والتجاوزُ عن مساويهم، واعتقادُ أنَّ فاسقَهم سيهديه الله؛ لأجلِ قرابتِهم من رسولِ الله ﷺ .
ومنها: أنَّ وجودهم أمانٌ لأهل الأرضِ، وفي ذلك جملةٌ من الأحاديث، منها: قوله ﷺ: «النجومُ أمانٌ لأهلِ السماءِ، إذا ذهبَت النجومُ ذهبَ أهلُ السماءِ، وأهلُ بيتي أمانٌ لأهلِ الأرضِ، فإذا ذهبَ أهلُ بيتي ذهبَ أهلُ الأرضِ»( ).
ومنها: أنَّ مَحَبَّتَهم تُطوِّلُ العُمْرَ، وتُبيِّضُ الوجهَ يوم القيامةِ، وبضِدِّ ذلك بُغْضُهم، فقد قال ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ أنْ يُتْرَكَ له في أجلِه، وأنْ يُمتَّعَ بما خوَّلَه الله  فَلْيَخْلُفْنِي في أهلي خِلافَةً حَسَنةً، ومَنْ لم يَخْلُفْنِي فيهم بُتِكَ( ) عُمْرُهُ، وَوَرَدَ عليَّ يومَ القيامةِ مُسْودًّا وَجْهُهُ».
ومنها: أنَّ مَنْ صَنَعَ معَ أحدٍ منهم معروفًا كافَأَهُ النبيُّ يومَ القيامةِ، فقد قال ﷺ: «مَنْ أرادَ التوسُّلَ إليَّ وأنْ يكونَ لَهُ عِنْدِي يَد أشفع لَهُ بهَا يَوْم الْقِيَامَة فَليصل أهل بَيْتِي وَيدخل السرُور عَلَيْهِم»( ).
ومنها: انتفاعُهم بنَسَبِهم له ﷺ، وانتفاعُ مَنْ صاهَرَهم بمُصاهرَتِهم يوم القيامة؛ إذ مُصَاهرتُهم مُصاهرةٌ له ﷺ، فقد قال ﷺ: «ما بالُ رجالٍ يقولون: إنَّ رَحِمَ رسولِ الله ﷺ لا تنفَعُ قومَه، بلى واللهِ إنَّ رَحِمِي موصولةٌ في الدنيا والآخرة، وإني أيُّها الناسُ فَرَطٌ لكم على الحوض».
فإنْ قلتَ: وَرَدَتْ بعضُ الأحاديثِ التي تُفِيدُ حثَّ النبي ﷺ لأهل بيته على خشية الله وأنَّ القُرْبَ إليه يوم القيامة إنما هو بالتقوى؛ كقوله ﷺ: «يا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ، أنقِذِي نفسَكِ من النار، لا أَمْلِكُ لكم من الله شيئاً غيرَ أنَّ لكم رَحِمًا سأَبُلُّها بِبِلالِها»( )، أي: سأَصِلُها بصِلَتِها.
قلتُ: لا منافاةَ بين الأحاديث التي تفيدُ نَفْعَ الانتسابِ إليه ﷺ وبين تلك الأحاديث؛ ووجهُ عدمِ المنافاة: «أنه ﷺ لا يملك لأحدٍ شيئًا، لا نفعًا ولا ضرًّا، لكنَّ اللهَ  يُملِّكُهُ نفعَ أقاربِه؛ بل وجميعِ أمته بالشفاعةِ العامةِ والخاصةِ، فهو لا يَمْلِكُ إلا ما يُملِّكُهُ له مولاه».
المؤلَّفات في فضائل آلي البيت:
خصَّصَ «العلامةُ نور الدين علي السَّمْهُودي» القسمَ الثاني من كتابه (جواهر العقدين في فضل الشرفين) لآل البيت، وتكلم عنهم في خمسة عشر فصلًا، وهذا القِسْمُ النفيسُ ما زال مخطوطًا إلى الآن!
وجَمَعَ «الحافظ السيوطي» ستين حديثًا في فضائل آل البيت في رسالةٍ أسماها «إحياء الميْت بفضل أهل البيت».
وجمع «الشيخ حمودة بن محمد الجندي الشافعي الخلوتي الشاذلي، المشهور بزرنبة» أربعين حديثًا في فضل ومزايا آل البيت في رسالةٍ أسماها «الحُلَل النَّضِرَة في فضلِ آلِ بيتِه الكرامِ البررة».
إلى ما لا يُحصى كثرةً من مُؤلَّفاتٍ ورسائل، سواء استقلَّتْ بالتأليف عنهم أم لا.
وفي النهاية أقول: على ضوء هذه الخطوط العريضة عن آل البيت يستطيع القارئُ بسهولةٍ غربلةَ الأخبارِ الواردةِ إليه عن آل البيت، ومعرفةَ الصحيحِ منها من الشاذ، والله نسأل أنْ ينفعنا بهم في الدنيا والآخرة، وصلَّى الله على سيدنا محمد كريم الآباء والأمهات، وعلى آله وصحبه وسلم.

الاكثر قراءة