تحل اليوم ذكرى وفاة أحد أبرز رموز الكوميديا المصرية، الفنان الراحل أمين الهنيدي، الذي امتلك حضورًا فريدًا في المسرح والسينما والإذاعة، فكان ضحكة صادقة في زمن الجد، وصوتًا ساخرًا يعكس نبض الشارع وهموم الناس بلغة الفن.
رغم أن سماء الفن المصري في منتصف القرن العشرين كانت مزدحمة بالنجوم اللامعين، إلا أن أمين الهنيدي استطاع أن يحجز لنفسه مكانًا مميزًا، بفضل شخصيته المرحة، وروحه الخفيفة، وأسلوبه الفريد في الأداء، الذي جمع بين الكوميديا الذكية والرسالة الاجتماعية.
من شبرا إلى الخلود الفني: محطات الدراسة والتكوين
وُلد أمين الهنيدي عام 1925، وبدأت ملامح موهبته الفنية تظهر مبكرًا خلال سنوات دراسته في مدرسة شبرا الثانوية، حيث انضم إلى فرقة التمثيل المدرسية. واصل دراسته في كلية الآداب، ثم كلية الحقوق، قبل أن يستقر به المطاف في المعهد العالي للتربية الرياضية، الذي تخرّج فيه عام 1949، ليعمل لاحقًا مدرسًا للتربية الرياضية.
لكن عشق الفن لم يغادر وجدانه، بل ظل يرافقه في كل مرحلة، إلى أن قرر أن يمنحه الأولوية، ويبدأ رحلة فنية طويلة، وضع فيها بصمته الخاصة وسط عمالقة الفن في ذلك الزمن.
بدايات مسرحية.. وتكوينه في السودان
انطلقت أولى خطواته الاحترافية على المسرح عام 1939، عندما انضم إلى فرقة نجيب الريحاني وشارك في إحدى مسرحياتها، لكنه لم يستمر طويلاً. بعد سنوات، وتحديدًا عام 1954، سافر إلى السودان، وهناك التقى بالفنان محمد أحمد المصري الشهير بـ"أبو لمعة"، وشكلا معًا فرقة مسرحية بالنادي المصري في الخرطوم، قدمت عروضًا نالت استحسان الجالية المصرية والجمهور المحلي.
كانت تلك التجربة المسرحية في الخارج بمثابة نضج مبكر للهنيدي، حيث صقل موهبته، واكتسب أدوات الممثل الشامل، قبل أن يعود إلى القاهرة ليبدأ مرحلته الأهم.
"ساعة لقلبك" وبزوغ نجم الكوميديا
التحول الجوهري في مسيرة أمين الهنيدي جاء مع انضمامه إلى البرنامج الإذاعي الشهير "ساعة لقلبك"، برفقة رفاق دربه: الفنان عبد المنعم مدبولي والكاتب يوسف عوف، حيث لمع اسمه وسط مجموعة من ألمع نجوم الكوميديا الذين خرجوا من عباءة هذا البرنامج، الذي أصبح منصة انطلاق لمرحلة جديدة من الفن الإذاعي والمسرحي.
بعد نجاحه الإذاعي، التحق أمين الهنيدي بفرقة تحية كاريوكا المسرحية، ثم مسرح التلفزيون، الذي شكل واحدًا من أهم معالم الحركة المسرحية في الستينيات والسبعينيات، وقدم من خلاله عددًا من العروض التي لا تزال حاضرة في ذاكرة الجمهور.
عطاء سينمائي لا يُنسى
رغم تعدد مجالات نشاطه الفني، تظل السينما هي الساحة الأبرز في مشواره. فقد شارك في أكثر من ٣٠ فيلماً، تنوعت بين الكوميديا الاجتماعية والدراما الخفيفة، ومن أبرز أعماله:
"حماتي ملاك"
"زوجة من باريس"
"شنطة حمزة"
"غرام في الكرنك"
"ممنوع في مدرسة البنات"
"الحدق يفهم"
كان أمين الهنيدي يختار أدواره بعناية، ويبرع في تقديم الشخصيات البسيطة التي تُضحك دون تكلف، وتنتقد دون مباشرة، فكوّن لنفسه أسلوبًا مميزًا يجمع بين خفة الدم والوعي المجتمعي.
على خشبة المسرح: ثنائيات ناجحة وضحك لا ينتهي
لم يكن المسرح أقل تألقًا في مسيرته، فقد قدم عددًا من المسرحيات الناجحة، أبرزها:
"لوكاندة الفردوس"
"عائلة سعيدة جدًا"، التي شكل فيها ثنائية متميزة مع الفنان منتصر بالله، وقدّما معًا لوحات كوميدية ما زالت تحظى بالحب والإعجاب من مختلف الأجيال.
الرحيل الصامت بعد آخر مشهد
في الثالث من يوليو عام 1986، رحل أمين الهنيدي عن الحياة بعد صراع مع سرطان المعدة، وكان يبلغ من العمر نحو 60 عامًا. المفارقة المؤثرة أن وفاته جاءت بعد ساعات قليلة من انتهائه من تصوير مشاهده الأخيرة في فيلمه الأخير "القطار"، الذي عُرض بعد وفاته في ديسمبر من العام نفسه.
"القطار".. آخر محطة فنية
فيلم "القطار" كان بمثابة الوداع الفني للهنيدي، وقد ضم كوكبة من النجوم مثل نور الشريف، ميرفت أمين، يوسف شعبان، ونبيلة السيد. وتدور أحداثه حول سائق قطار يقرر قتل مساعده بعد اكتشاف خيانته مع زوجته، مما يدفع الأحداث نحو ذروة مأساوية، حيث ينطلق القطار بدون سائق نحو مصير مجهول.
رغم أن دور الهنيدي في الفيلم لم يكن البطولة، إلا أن ظهوره الأخير ظل يحمل نفس الروح الساخرة التي عرف بها، حتى وهو يقف على أعتاب الوداع.