في جناح الرعاية المركزة، لا يمر يوم دون أن يكتب مشهد جديد من الحكاية الإنسانية، مشهد ربما لا يدون في السجلات الطبية، لكنه يظل محفوراً في الذاكرة، كل سرير وراه حكاية وغالباً "الحكاية دي ما بتضحكش بس ساعات بيبقى الألم نفسه عبثي لدرجة تخلينا نضحك من غير ما نقصد، زي ما بيقولوا "اللي مابيموتكش بيخليك تضحك بالعافية".
في سرير مقابل لي، كانت ترقد سيدة تنتمي من هيئتها وطريقتها إلى الطبقة الأرستقراطية، عالم لا يشبه عالم المستشفيات الحكومية بشيء، ملامحها مطمئنة صوتها هادئ، لكنها كثيرة الطلبات، ليس لأنها مدللة، بل لأنها فقط "معتادة" على أن يكون هناك من يلبي.
تطلب أن تضبط لها الإضاءة، أن يهذب وضع الوسادة، أن تجلس ممرضة إلى جوارها تحكي لها شيئاً أي شيء، طلباتها ليست طبية أومرضية بقدر ما كانت بشرية،
بعض الزملاء كانوا يرونها مزعجة، وربما وجدوا في كثرة طلباتها دلالاً لا يتماشى مع قسوة الرعاية المركزة، لكنني كنت أراها بطريقة مختلفة كأنها تتشبث بالحياة بأبسط أدواتها.
الرعاية المركزة لا مجال للرفاهية " مفيش موبايل ولا محفظة، حتى لو معاك أكلة بتحبها، تتحجز في ثلاجة القسم لحد إشعار آخر، أو لحد ما حد يفتكر".
وفي أحد الأيام طلبت السيدة شيئاً غريباً وسط كل هذه الأجهزة والمحاليل والأنفاس المحسوبة "أنا عايزة رز بلبن"، جملة خرجت منها بصدق لم يمهلنا للسخرية، فقط صمتنا، ثم ابتسمنا وتحولت الجملة إلى لازمة يومية، وكل ممرضة كانت ترد بنفس الهدوء "جايلك بيستوي على النار".
لم يكن هناك رز بلبن ولا نار، لكننا كنا نحاول أن نهدئ رغبة لا نعرف كيف نلبيها، هل كانت جائعة؟ أم تحن لطفولة بعيدة؟ أم تحتاج فقط أن تطمأن بأن هناك شيئاً ما حلواً في هذا العالم ينتظرها؟!
وبعد أيام طلبت أن تتحدث مع ابنها، وحين جاء الصوت على الهاتف قالت ببساطة "يا طارق أنا مش مرتاحة هنا... خدني وروحني.. وعايزة رز بلبن".
مرت ساعات ثم جاء شاب أنيق، تبدو عليه ملامح المسؤولية المرهقة، كان يحمل بين يديه شيئاً مغلفاً بعناية، وقف بجانبها و قرأ لها القرآن، وربت على كتفها، ثم طلب من الطاقم أن تنقل من الرعاية إلى غرفة عادية، استعداداً للخروج.
وقبل أن يغادر، سأل الممرضة "كنت جبت لوالدتي رز بلبن من كام يوم... حطيته في تلاجة القسم.. ممكن آخده؟!
هنا شعرت بشيء يشبه الوخز، السيدة لم تكن تتدلل، ولم تكن تهرب من الواقع، كانت فقط تشتهي طبقاً صغيراُ من الرز بلبن، جاء به ابنها طبق من الحنين من الطمأنينة، من الحياة التي تركتها خلف باب المستشفى.
خرجت السيدة في كامل أناقتها، بعطر خفيف، ووجه يحمل الرضا، وكأنها كانت تقول لنا جميعاً "أنا لم أطلب الكثير... فقط أردت أن أعامل كإنسانة".
ومنذ ذلك اليوم، كلما ألح أحد المرضى في طلب بسيطاً أو ساذجاً، أتذكر تلك السيدة وصاحب الملاية الجديدة، وأتذكر أن الرغبات الصغيرة قد تكون آخر ما نتمسك به حين يوشك كل شيء أن ينتهي، ربما لم تكن تطلب "رز بلبن" فقط بل كانت تطلب ما هو أعمق بكثير.