البكباشي أنور السادات قطب من أقطاب الثورة،
وهو في هذا المقال يروي تلك المعاني السامية التي سيطرت عليه
وعلى زملائه قبل أن تظهر الثورة إلى حيز الوجود
لا شك أن هناك صورًا مختلفة ومتباينة في ذهن كل قارئ عن قيام حركة 23 يوليو، ولا شك أيضًا أن الخيال قد يذهب بالبعض مذاهب شتى. لذلك رأيت أن أجلو لمجلة الهلال ناحية من نواحي هذه الثورة، قد لا تكون مغامرة أو تدبيرًا أو جهدًا، وإنما هي في معناها أَقوم وأسمى من المغامرة والتدبير والجهد.
ذلك هو: كيف، وعلامَ اجتمع أولئك الذين قاموا بهذه الحركة.
حدث في حوالي شهر إبريل أو مايو سنة 1952 – أي قبل قيام الحركة بشهرين أو ثلاثة – أن وصل إلى علمنا أن هناك تصميمًا أكيدًا على الاستغناء عن خدمات بعض ضباط الجيش، وورد بالذات اسم جمال عبدالناصر، على أنه من أول الأسماء، بحجة إثارة القوات المسلحة، ورغبة من الملك في أن يهيئ لنفسه الجو الذي يريده في الجيش.
وأذكر أننا كنا مجتمعين في منزل كمال حسين، ولم تطل المناقشة في هذا الأمر أكثر من ربع الساعة، انتهينا فيها إلى قرار، هو أنه حتى إذا استُغني عن خدمات جمال، فيجب أن تتبع الخطة الموضوعة، وألا نخضع لسلطان العاطفة فنعمل عملاً قبل الأوان.
كان جمال هو أسعدنا بهذا القرار، فقد كان يعلم تمامًا أنه مهما كانت الظروف، ومهما بلغ الطغيان، فإن هناك تسعة أصدقاء صميمين سيتولون أمر معيشته وأمر منزله، بل وعلى أتم الاستعداد لأن يبذلوا كل ما في وسعهم من أجله، حتى لو قدّموا أرواحهم تضحية وفداء.
لقد كانت الصداقة في لون جديد:
يصح أن نُسميها “صداقة الرجال” –
هي اللبنة الأولى في بناء حركة 23 يوليو.
وكان صلاح سالم يقوم بإجازته من رفح حيث عبدالحكيم هناك، وكنت معهما، فكان إذا أخذ شيئًا من الفاكهة أو المواد الغذائية الأخرى المتوافرة في تلك المنطقة، سلّمه بنفسه إلى كل عائلة نصيبًا مفروضًا، يبدأ توزيعه فور وصوله إلى محطة العاصمة، لأن جمال كان دائمًا ينتظره بعربته لتأدية مثل هذه الواجبات.
وكان لا بد أن تنعكس صداقة الرجال هذه من التسعة إلى باقي الرجال من الضباط الأحرار، كي ينتهي الأمر أخيرًا بأن تكون هيئة الضباط الأحرار كيانًا واحدًا، وإحساسًا واحدًا.
وقد حدث في إبريل سنة 1952 أن أُلقي القبض على ضابط من الضباط الأحرار، واتُّهم بأنه يوزع منشورات الضباط الأحرار، وظل حوالي الشهرين وهو موقوف، ولكن جمال عبد الناصر كان يذهب في مطلع كل شهر إلى عائلته ليسلّمها مرتبه بالكامل.
وحينما أعود بذاكرتي إلى الخلف قليلاً، أذكر أنني في سبتمبر سنة 1947 كنت في سجن مصر، في الزنزانة رقم “54”، وكنت قد أمضيت أكثر من سنة ونصف في تلك الزنزانة، فما راعني وأنا جالس في أمسية من أمسيات ذلك الشهر، إلا أن يُدخل لي كتاب كنت قد طلبته، وإنني لأذكر جيدًا أنني من شدة فرحي بهذا الكتاب أخذت أتصفحه، وكانت القراءة هي السعادة الوحيدة في ذلك المكان.
وقبل أن أصل إلى نهاية الكتاب، وقعت في يدي ورقة كانت موضوعة فيه بطريقة خاصة، فانتزعتها لأقرأ فيها خطابًا من جمال عبد الناصر – اليوزباشي وقتذاك – وفيه تفصيل كامل عن الخطة التي أعدتها الجماعة لتهريبي من السجن، وكافة المعلومات الأخرى التي يقتضيني اتباعها، وتركت ساعة التنفيذ إلى وقت آخر.
وهناك الإيمان بالمبدأ المشترك والإخلاص له، والتمسك به مهما كانت التضحيات، وأبرز مثل على ذلك هو قائد الأسراب حسن إبراهيم؛ فقد حدث سنة 1942، في الجمعية السرية الأولى، أن أدى مجهود حسن إبراهيم، واشتراكه في عملية طيران الطيار سعودي إلى الخطوط الألمانية، أن تأخرت أقدمية حسن، والعجيب أنها مستمرة إلى اليوم، ولم يقبل حسن أن تُعدل أقدميته إلى أصلها بعد الحركة، مع أن هذا حق سليم شريف له.
ولقد كان صلاح سالم يحوز ثقة حيدر باشا، وكانت هذه الثقة من أكبر المصادر التي غذّت حركة الضباط الأحرار بالمعلومات. بل لا أُغالي إذا قلت إن هذه الثقة استُغلت إلى أبعد حد في تقوية الحركة، من غير أن يعلم حيدر، أو أي إنسان من المحيطين به، بشيء عن مدى ما يقوم به صلاح.
وبالجملة، لقد اشتركت عوامل كثيرة في إخراج هذه الحركة بقوتها وزهوها، وشدتها وحنوها، وعنفها ورزانتها. لقد كانت عوامل ليست من صنع البشر، وإنما هي من تلك الإحساسات السامية، التي ترتفع بنفوس البشر فوق ذلك المستوى المادي، فتعرف التضحية، والصداقة، وتعرف الأخوة، وتعرف – فوق كل شيء، وقبل كل شيء – الإيمان بإله عظيم، يريد الخير للعالم، ولا يرضى لنا إلا الحياة الشريفة القوية.