صوته لم يفارقني يومًا.. حتى شريط السينما الذي صوّره لنا كأسرة، ما زلت أحتفظ به داخل بيتي.. علّمني كل شيء، بداية من قيادة السيارة ولعب الدومينو وحتى الحياة.. إنه بالنسبة لي إنسان من نوع خاص، لكنه كسائر الآباء، حنون، عائليّ بالدرجة الأولى.. جعل طفولتنا سعيدة.. فلم يفارقنا برغم مسؤولياته وعشقه لمصر، الأم الكبيرة.
أبي
داخل بيت منشية البكري عشنا كأسرة مصرية بسيطة، حياتها عادية رغم ما قد يغلفها من المظاهر غير العادية.. وكنت وإخوتي لا ندرك قيمة بعض الأمور ودلالة بعض الأحداث الدائرة حولنا.. برغم أن وقت الأزمات التي مرت بمصر كانت تنعكس على بيتنا أيضًا وتتأثر الحياة بعض الشيء.. فكنا ونحن صغار لا ندخل على أبي وهو يعاني من أزمة ما أو متكدر من موقف ما، لا نتحدث معه ونحترم تأمله.
وفي حالة الفرح والنصر كان البيت يمتلئ بالسعادة، وأذكر أنه مع إعلان الوحدة مع سوريا كان وجه أبي يتهلل فرحًا.. وكان حديث المائدة وقت الغداء لا يخلو من الحكي عن الإنجاز وعن مدى سعادته به.
عايشنا أيضًا لحظات القلق الممزوج بالفرح، مثال ذلك: شغلت حرب الاستنزاف جانبًا كبيرًا من مشاعرنا.. القلق يتزايد مع بداية كل عملية وينتهي بالفرح مع نجاحها.. فأول دورية عبرت القناة كانت لها فرحة كبيرة.. وأول معركة نشبت «معركة رأس العش»، ثم غرق المدمرة إيلات.
أمي
كان عبد الناصر محور حياتها.. تزوجته في 29 يناير 1944.. كانت من قبله وحيدة.. تُوفي والداها.. فكان هو أهلها.. بعد أن أنجبني وأختي منى، رحل أبي إلى جبهة القتال ليشارك في حرب فلسطين سنة 1948.. ورغم الصعاب والقلق، تحملت المسؤولية طوال فترة الحرب.. وحتى بعد عودته سالمًا من الحرب لم يترك العمل الوطني حتى قيام ثورة يوليو 1952، التي كانت في البداية محفوفة بالمخاطر ونسبة نجاحها ضعيفة.. وهو الأمر المقلق جدًا.
رب الأسرة
كنا محظوظين جدًا.. نعمنا بطفولة سعيدة وهانئة في ظل حنان أبي ووجوده معنا دائمًا. كان أبي حريصًا على وقت العائلة وقضاء الإجازات الصيفية وأيام الجمع معنا، برغم انشغاله بهموم الأمة والثورة.. حتى إنه كان يملك من الصبر ما يجعله يجيب عن جميع أسئلتنا مهما بلغت.. فكنا أنا وإخوتي نذهب إليه دائمًا بعد عودتنا من المدرسة، نحكي له عن يومنا، عن أصدقائنا، وعن مدرستنا.. كان أبًا مثل كل الآباء، حريصًا على دراستنا ويوقّع لنا الشهادات المدرسية.. ومن يحصل منا على درجة مرتفعة كان يصارع إليه ليوقع شهادته أولًا.. أما من يحصل على درجة منخفضة، فكان يضع شهادته بجوار سرير أبي ليوقعها قبل ذهابه للمدرسة، خوفًا من عتابه.
بل وكان يحضر باستمرار الحفلات المدرسية الخاصة بكلٍّ منا.. وأذكر أن زوجي حاول الاعتذار عن حضور أول حفلة مدرسية لابنتي هالة، نظرًا لانشغاله، فنظرت له بدهشة وقلت له: «أبي عبد الناصر كان حريصًا جدًا على مسائل الأسرة رغم انشغاله بهموم الأمة كلها.. فبماذا أنت مشغول؟». وأعتقد أن أبي اهتم كثيرًا بعائلته نظرًا لحرمانه في ذلك الجو الأسري، فقد فقد والدته عندما بلغ الثامنة من عمره، وعاش فترة داخل مدرسة داخلية.
ومن الطريف أيضًا أننا في البداية، عند التجهيز لمنزل منشية البكري، اضطررنا للسكن داخل قصر الطاهرة.. الأمر الذي سبب لنا إزعاجًا كبيرًا.. كل واحد منا له غرفة كبيرة، مما جعلنا نشعر بالفرقة.. فافتقدنا بيتنا في منشية البكري الذي كان يحتوينا.. ورغم أنه ليس صغيرًا، إلا أنه كان مقسمًا.
الدور الأول يضم الصالونات الخاصة باستقبال الضيوف والزائرين. أما الدور العلوي، فهو خاص بنا.. به غرفة للمعيشة وأخرى للطعام، نجتمع داخلهما كأي أسرة عادية أمام تلفزيون واحد، وهذا هو أهم مظهر من مظاهر الرباط الأسري.
صعيدي بالدرجة الأولى
كان أبي رجلًا صعيديًّا بالدرجة الأولى، لا يحب أن يقتحم أحد خصوصيات حياته ولا حياة أسرته أو يعكر صفوها.. كان المقرّبون منا قليلين جدًا، حتى لا تقوم علاقتنا بالبشر على أساس مكانة أبي، ولا تقوم على النفاق والخداع، بل على الصدق فقط، بعيدًا عن منصب والدي.
وكان شديد الحرص على تربيتنا لنكون كسائر أفراد الشعب.. فأدخلنا المدارس الحكومية العامة.. فدرست بمدرسة دار السلام الابتدائية، ثم سراي القبة الإعدادية، ثم القومية الثانوية بالعجوزة، ولا تزال صورنا داخل تلك المدارس حتى الآن.
لم نكن نحضر أية اجتماعات رسمية، كنا نحضرها فقط في حالة وجود وفد أجنبي أو عربي يرافقه أطفالهم، أو إذا طلب أحد رؤيتنا. وأذكر أن خروتشوف، لدى حضوره مصر، كانت تصحبه ابنته، مما استدعى وجودنا معها. كذلك الرئيس اليوغوسلافي تيتو، حضر ومعه أولاده. كذلك لم نكن نسافر مع أبي، باستثناء مرتين فقط، كانت إحداهما إلى يوغوسلافيا.
كان يسمح لنا بحضور أعياد الثورة من كل عام، باستثناء خطاب 23 يوليو الذي لم يكن مسموحًا لنا حضوره. كنا نشاهد المظاهر الاحتفالية في القاهرة والإسكندرية، كالعروض العسكرية صباح يوم الثالث والعشرين، وعرض الشباب في استاد القاهرة.. ثم نسافر إلى الإسكندرية لحضور احتفال وخطاب 26 يوليو، بل قد حضرنا مرة واحدة مناورة عسكرية ضمن مظاهر الاحتفال.
ورغم كوننا أنا وإخوتي صغار السن، لم يكن يوجه لنا أية محاذير أو إرشادات قبل الذهاب إلى أية احتفالية.. كان يترك لنا مطلق الحرية والتصرف على هوانا الطفولي.
علّمني قيادة السيارة
كان عبد الناصر، الرجل الثوري، هادئ الطبع.. صوته خافت داخل المنزل، ولا ينهرنا أبدًا. كان عقابه هو النظر إلينا بعينه فقط. ورغم قربنا منه، لم يحمل أحد منا شخصيته. كلٌّ منا يحمل جزءًا أو صفة منه، أو حتى لمحة صغيرة فقط، حتى أحفاده لم يرثوا منه الكثير، وإن ظل داخلنا طوال الوقت.. حتى إنني، لدى رؤيتي للأفلام التي جسدت شخصية أبي، لم أجده داخلها.. ففرق شاسع بين الأصل والتقليد.
هواياته كانت متعددة.. لكن كان التصوير الفوتوغرافي والسينمائي هما هوايتاه المفضلة.. فكان يعشق التصوير السينمائي والفوتوغرافي. وحتى الآن أحتفظ بالأفلام الـ 35 مللي التي صوّرها لنا في منزلنا وعلى شاطئ البحر.. وكان يعشق القراءة، خاصة مجلة «ناشيونال جيوغرافيك»، و»لايف»، و«لوك» لما تحتويه من صور تغذي هواية التصوير لديه.. وكان يهتم كثيرًا بمجلتي «المصور» و«الهلال».
علّمني قيادة السيارة أنا وأختي منى، وكان يلاعبنا خلال الإجازة الصيفية ونحن في برج العرب «الشطرنج» و»البنج بونج»، بل وعلّمنا «الدومينو».. كما كان يعشق الطبيعة والبحر والسباحة. كم من الآباء يعلمون أولادهم ويتفرغون لممارسة أحبّ الهوايات معهم؟!
في بداية حياتي، عملت معه داخل مكتب السكرتارية، فتعلمت مغزى العمل ومعنى الحياة، وتعلمت كيف تُصدر القرارات المصيرية.. وكيف تتم الاتصالات الحرجة وقت الأزمة، واستفدت من حرصه الشديد على دراسة الموقف، والاطلاع على جميع الدراسات.. والانفتاح على نظم الحكم في العالم، والدساتير المكتوبة في الغرب والشرق.
كل ذلك خلال فترة زمنية سادت العالم فيها أفكار جديدة، وحركات تحرر، ومد ثوري، وحرب باردة، ونُظُم مختلفة للحكم.
ويكفي أن أبي كان زعيمًا استطاع أن يُحرّك القوى العظمى الكامنة داخل الشعب المصري، وعرف كيف يوظفها لصالح الأمة.. آمن بالأفراد البسطاء المهمّشين وغير القادرين.. عبّر عن أحلامهم ومطالبهم، ولبّى كل ما كان مطروحًا من مطالب قبل الثورة.. آمن بالشعب فآمن به الشعب كزعيم وقائد مسيرة.
كان مناضلًا يؤرّثه العام، وليس الخاص.. عايش الاحتلال الإنجليزي، وانضم إلى الجيش إيمانًا بدور الجيش في القضاء على الفساد وتحرير الوطن من الاحتلال، وشارك في حرب فلسطين عام 1948، وفي حرب الفدائيين عام 1951، ويكفيه فخرًا قيامه بإصدار قراري تأميم قناة السويس وبناء السد العالي.. ولنعلم أن مصر كافحت طوال القرن الماضي من أجل استعادة دخل قناة السويس، فهو قرار مبني على قصة كفاح طويلة، صدر في أعقاب خروج القاعدة البريطانية من مصر، ليتحدى بذلك القوى الكبرى في العالم.. إنه أبي، عبد الناصر.