الأربعاء 23 يوليو 2025

مقالات

وجه ثورة يوليو الثقافي

  • 22-7-2025 | 14:14
طباعة

لقد مهدت الثقافة – بشكل ما – وبشرت بإرهاصات ثورة شعبية، ثم رسخت نبتة الثورة الوليدة على يد مجموعة من رجال القوات المسلحة الذين تقدموا الموكب، فبدت ما أُطلق عليه «حركة الضباط الأحرار» كثورة شعبية تبنّتها جموع طبقات الشعب الطامح إلى حياة جديدة وكريمة.

مع الأيام التالية لانطلاقتها الأولى، اكتسبت الإرهاصات الأولى للثورة مذاقها الخاص، وقوامها الشعبي المتماسك، وملامحها الثقافية بجلاء.

فقد انطلقت الملامح الثقافية بين دائرة المجموعات الشعبية في مصر، ثم امتدت إلى آفاق بعيدة، حتى أغوار إفريقيا وجدران العالم البعيدة في الشرق الآسيوي، لتصبح مصر ضمن قوة عالمية جديدة بثقافة جديدة تبنّتها، ألا وهي "الحياد الإيجابي"، في مقابل قوى الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي. وهو ملمح ثقافي جديد أضافته ثورة يوليو 1952 ضمن تفاعلاتها مع ثقافات ثورية وليدة أخرى في بلاد مثل الهند وإندونيسيا وغيرها.

ومن ثم تولّدت مواجهة جديدة مع القوى الاستعمارية التي بدأت شمسها في الغروب، والتي فزعت من ملامح تلك المعطيات الثقافية التي جاءت بها تلك الثورة. فكانت معركة بورسعيد والعدوان الثلاثي، التي زكّت الروح القومية والوطنية في دائرة الثقافة الثورية.

... وجدير بمن يتابع أن ينتبه إلى البدايات، حيث خصوصية مبادئ ثورة يوليو 52، وقدر الطموح والرغبة في التغيير الاجتماعي الشامل؛ حيث الدعوة إلى القضاء على الإقطاع، والاستعمار، وسيطرة رأس المال، في مقابل الدعوة إلى بناء مجتمع ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية، تحميه قوات جيش قوي متجانس، ذو وجهة واحدة، ومسلح بأحدث الأسلحة.

لم تكن تلك المبادئ الستة للثورة لتبقى وتتغلغل وتغوص في أعماق نفوس الأفراد داخل المجتمع، لولا أنها تحوّلت وتُرجمت إلى مجموعة من الشعارات، والقصائد الشعرية، والأعمال السردية والدرامية، والمناهج الدراسية للطلبة، والندوات التثقيفية للجميع، ورواج الكتب المعبرة عن منجزات المجتمع الثوري الجديد.

لم تكن تلك الملامح الثقافية لثورة يوليو 52 لتتحقق، لولا أنها اقترنت بجهد مادي على الأرض؛ حيث تحوّل المجتمع الإقطاعي إلى مجتمع من المُلّاك من الفلاحين، ومعهم عدد أكبر من الأفراد بأسرهم، ومن مجتمع تحت التاج الملكي إلى آخر يقوم على الانتخاب الحر، ومن ثم إقامة وتجهيز جيش قومي قوي.

ومن أجل بناء هذا الصرح الثقافي للإنسان المصري والعربي والأفريقي، بدت ضرورة توجيه أجهزة وإدارات وعقليات مخلصة وفاعلة لإنجازه.

ربما نتذكر منها إنشاء "هيئة الاستعلامات"، التي كانت خلال فترة زمنية معتبرة هي مصدر الأخبار والتوجهات الثقافية النظرية والعملية بين جموع الناس. وربما، عن تجربة شخصية، لمستُ قدر الجهد الذكي المثابر لهيئة الاستعلامات على الأرض الألمانية، من خلال توزيع الكتب والبروشورات الدعائية، والكتب التنظيرية باللغة العربية والألمانية، خلال عقد الستينيات من القرن الماضي.

كما أن هذا الوجه الثقافي ما كان ليولد ويتوالد لولا وجود مناهج تعليمية، بل وعملية تعليمية بالكامل، موجهة للتعريف بالوطن والمواطنة.

ولا يمكن إغفال الدور الإعلامي الذي بدأ بالإذاعة المصرية، ثم إنشاء برنامج "صوت العرب" والإذاعات الموجهة، حتى كان تشييد صرح مبنى ماسبيرو وبداية البث التليفزيوني، ومنه جاءت الدراما. وما أدراك ما للدراما من أهمية في توجيه وتقويم الجموع، فضلًا عن متابعة العالم وملاحقة كل جديد.

أما ملامح هذا الوجه الثقافي لثورة 52، فقد عبرت عن نفسها بالوقوف معًا أمام غدر القوات الاستعمارية، التي ما أن خرجت عادت، وكان العدوان الثلاثي عام 1956، لتصب القصيدة، والأغنية، والفيلم، والرواية، والمسرحية، في ميدان التعبير عن المقاومة، ثم الفرحة بالانتصار.

لعل الملامح الثقافية تجلت بوضوح لا يمكن إغفاله مع بدايات ونهايات مشروع بناء السد العالي، حتى أصبحت الأغنية الوطنية منذ تلك الفترة أشبه بالأغنية العاطفية، وليست مجرد أغنية منفعلة وحسب، حتى بقيت إلى يومنا هذا يرددها الأطفال قبل الكبار، مثل أغنية عبد الحليم حافظ: "قلنا حنبني ودا إحنا بنينا السد العالي".

ولما كان عقد الستينيات هو بداية سنوات الانتباه إلى "مصر الصناعة"، وتحقيق المكاسب الهامة للعمال، راجت الأغنية والأشعار التي تمجّد العمل والعمال.

هكذا لا يمكن إغفال دور الثقافة المعبرة عن وجه الثورة الحقيقي، تلك الثقافة التي ما كانت لتبرز كل مظاهر مقاومة آثار النكسة في عام 1967، نعم، بعزيمة المثقف، وباليقين لدى الإنسان المصري البسيط، وقد تحوّلت الثقافة الثورية إلى ملمح ومكون جيني داخل الأجساد والعقول، وبهذه الثقافة تحقق منجز انتصار 1973.

وجدير بكل صاحب قلم أن يزكي تلك الثقافة التي وُلدت مع ميلاد إنسان ثورة 52، وبقيت وما زالت، إلى ما شاء الله، في مواجهة كل الصعاب القادمة، كما واجهت الصعاب الماضية.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة