الأربعاء 3 سبتمبر 2025

مقالات

البديعيات.. قصائد الحب النبوي


  • 3-9-2025 | 08:51

د. مراد عباس

طباعة
  • د. مراد عباس

البديعيات قصائد اقترنت بجمع ألوان البديع، ذلك الفن الذي أطلق بداية ليكون شاملا لكل مظاهر البلاغة العربية في الإصدار الأول له عند ابن المعتز، ثم أصبح يهتم بزخرف اللفظ وزينة الكلم، بعد أن انقسمت البلاغة العربية إلى ثلاثة علوم؛ أولها يهتم بالحقيقة (المعاني)، والثاني يهتم بالمجاز (البيان) والثالث يهتم بتزيين الكلام (البديع)، وإذا كانت ألوان البديع قد اقتصرت في كتاب ابن المعتز على عدد يكاد يحصى على أصابع اليد، فإن هذه الألوان قد تطورت وتفرغت إلى درجة أن صنفت فيها مصنفات في عدد من الأجزاء،  ومنها على سبيل المثال (أنوار الربيع في ألوان البديع) لابن معصوم.

ولكن البديعيات لم تقترن فقط بجمع ألوان البديع في قصيدة واحدة، وإنما باختصاص هذه القصيدة في المديح النبوي، ولكن هناك فرقا بالتأكيد بين قصائد المديح النبوي التقليدية، والبديعيات؛ فالبديعيات مديح نبوي في ثوب قشيب من البديع.
ولاشك أن قصائد المديح النبوي بدأت منذ بداية انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، ولا شك أن أهم قصائد المديح النبوي بالمفهوم القديم لفن المديح، كانت قصيدة كعب بن زهير التي أنشدها النبي في المسجد، بعد أن أهدر النبي دمه، عندما تعرض لهجاء المسلمين، وبدأت تلك القصيدة بالغزل في سعاد، التي كانت تمثل السعادة التي غادرت كعبا بعد أن أهدر النبي دمه.
والقصيدة تتبع النظام الشعري القديم، المتعارف عليه في المديح إذ تبدأ بالغزل في سعاد التي يتغزل فيها غزلا صريحا فيصف جسمها طولا وعرضا، ولكن الأسماء في القصائد الشعرية القديمة كانت توضع لتدل على المعاني التي قيلت من أجلها، فما سعاد سوى السعادة، وما فاطمة سوى المرأة التي تريد القطع وعدم الوصال، ثم تتطرق القصيدة إلى مديح النبي بما ينبغي أن يكون فيه من مضاء وقوة وعدل، ومديح الأنصار الذين نصروا النبي:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول .. متيم إثرها لم يفد مكبول
 وتشير الروايات إلى أن الأعشى كان قد أعد قصيدة، وورد إلى المدينة كي يشهر إسلامه،  وينشد النبي قصيدته، لكن أسبابا مختلفة حالت دون لقاء الأعشى بالنبي، وقصيدة الأعشى هذه تعد أول قصيدة في المديح النبوي إن صحت نسبتها، وهي التي يقول في مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وعادك ما عاد السليم المسهدا
وبالرغم من أن شعراء آخرين نافحوا عن الإسلام ودافعوا عنه وتحدثوا بلسانه ومنهم حسان بن ثابت (شاعر الرسول)، وعبد الله بن رواحة، فإن قصيدة كعب ظلت دائما سيدة قصائد المديح النبوي، وأشهر ما قيل في هذا المجال.
وتوالت القصائد التي تعارض هذه القصيدة ببحرها البسيط وبرويها من اللام المضمومة.
إلى أن وصلنا إلى البوصيري الذي استطاع أن ينافس كعبا بقصيدتيه اللتين كانت إحداهما معارضة كاملة لقصيدة كعب، وكانت الأخرى شبه معارضة.
فأما الأولى فكانت:
إلى متى أنت باللذات مشغول .. وأنت عن كل ما قدمت مسئول
إلى أن يقول فيها:
والمصطفى خير خلق الله كلهم   .. له على الرسل ترجيح وتفضيل
محمد حجة الله التي ظهرت ... بسنة مالها في الخلق تحويل
ولكن هذه المعارضة التامة لم تشتهر، وربما ترجع عدم شهرتها إلى أن الناس أرادوا أن تكون قصيدة كعب فريدة في بابها، فلا تعلو عليها قصيدة أخرى خاصة إذا كانت تتبع البحر والقافية نفسها، كما أن قصيدة البوصيري هذه لم تبلغ القمة في الصنعة الفنية، ولذا لم تحظ هذه القصيدة بما حظيت به القصيدة التي سميت (البرأة) أو (البردة) أو قصيدة (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، فأما تسميتها بالبرأة فلأنها كانت سببا في برء البوصيري من الفالج الذي كان قد أصابه، وأما البردة فلأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد ألقى بردته الخضراء عليه كما كان قد ألقاها على كعب في المدينة من قبل، وأما الكواكب الدرية فلأنها هكذا سميت.
والحقيقة إن قصيدة البوصيري هذه كانت البداية الحقيقية للبديعيات، ورغم أن البوصيري لم يقل إنه يريد إبراز ألوان البديع في أبيات قصيدته، فإن البديع شائع في كل بيت وإن لم يكن هذا الغرض الأصلي للقصيدة.
أقول ذلك لأن الذين درسوا البديعيات أشاروا إلى أن البديعيات قد بدأت من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر، فالدكتور علي أبو زيد يقول  "البديعيات – حدا- هي مجموعة من القصائد ظهرت في القرن الثامن الهجري، واستمرت حتى القرن الرابع عشر، غرضها المديح النبوي، وغايتها جمع أنواع البديع، ضمن أبياتها، نوع في كل بيت، يصب ذلك كله في قالب من بحر البسيط،  وروى الميم المكسورة" البديعيات ص 6
والحقيقة إنني أختلف مع الدكتور علي أبو زيد في أمرين أولهما: أن هذه القصائد قد بدأت في القرن الثامن لأن البوصيري الذي يعد أساسا لهذه القصائد – رغم أنه لم يذكر أنه يكتب بديعية، فإن قصيدته بديعية بالفعل – أقول البوصيري عاش في القرن السابع الهجري، والأمر الآخر هو ما أشار إليه الدكتور علي أبو زيد من أن هذه القصائد قد امتدت إلى القرن الرابع عشر الهجري، والحقيقة إننا في القرن الخامس عشر الهجري ولا زال الشعراء يقدمون بديعياتهم ولا أظن أن هذا النوع سينتهي في الأمد القريب.
أما قصيدة البوصيري التي اتفقت مع قصيدة كعب في الوزن وخالفتها في الروي، والتي تعد أساسا لفن البديعيات، فهي التي مطلعها :
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
ولكي نبرهن على أن البوصيري كان ينظم في ألوان البديع في كل بيت من أبيات قصيدته فلننظر إلى بعض هذه الأبيات على غير انتقاء، حين يقول مثلا:
فـما لِعَينـيك إن قُلتَ اكْفُفَـا هَمَـتَا    وما لقلبِكَ إن قلتَ اسـتَفِقْ يَهِــمِ
أيحَســب الصَبُّ أنَّ الحبَّ مُنكَتِــمٌ    ما بينَ منسَــجِمٍ منه ومُضْـطَـرِمِ
أليس في هذين البيتين طباق وجناس وحسن تقسيم؟، ألا نستطيع أن نجد البديع بين (اكففا وهمتا)، وبين (الصب والحب)، وبين (منكتم ومنسجم ومضطرم)؟
ومن خلال هذا يمكن أن نقول إن بديعيات المديح النبوي مجموعة من القصائد بدأت من قصيدة البوصيري هذه، ولو أنني لا أحب تسمية هذه القصائد بقصائد المديح النبوي، لأن المديح بمفهومه القديم ينطوي على شيء من المبالغة، ومن عدم الصدق، ومن طلب الرفد والعطاء، وكل هذه المفاهيم لا تنطبق على القصائد التي كتبت في سيدنا محمد، خاصة أن هذه القصائد كتبت بعد موت النبي بقرون عددا، وأرى أن تسمى هذه القصائد بقصائد الحب النبوي، فهي بهذا المفهوم أقرب لطبيعتها التي يغلب عليها العشق والحب المنزه عن الغرض والهوى، خاصة أن ذلك يتوازى مع قصائد العشق الإلهي التي اشتهرت عند الصوفية وغير الصوفية .
وإذا كان البوصيري لم يصرح بأنه يستخدم البديع في قصيدته، فإن صفي الدين الحلي أول الشعراء الذين صرحوا صراحة باستخدام البديع في قصيدته، وبذكر نوع بديعي في كل بيت، وقصة نظمه لقصيدته البديعية تشبه إلى حد كبير قصة نظم البوصيري، فقد أصابه مرض وكان يرجو البرء منه عبر هذه القصيدة، ولذلك يقول "فنظمت مائة وخمسة وأربعين بيتا في بحر البسيط تشتمل على مائة وواحد وخمسين نوعا من محاسنه" (شرح الكافية البديعية لصفي الدين الحلي ص 54)
ويبدأ الحلي قصيدته ببراعة المطلع إذ يقول في مطلع قصيدته:
"إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم .. واقرا السلام على عرب بذي سلم"
ويبدأ الحلي في شرح اللون البديعي الذي قدمه فيقول: "أما براعة المطلع فهي عبارة عن سهولة اللفظ وصحة السبك، ووضوح المعنى ورقة التشبيب، وتجنب الحشو وتجانس القسمين، وألا يكون البيت متعلقا بما بعده" شرح الكافية ص 57.
وهكذا يمضي الحلي في قصيدته وشرحها بيتا بيتا، وهكذا بدأ هذا اللون من القصيد، يباري فيه الخلف السلف، محاولة في التقرب إلى الله بحب نبيه، ورغبة في الشهرة بمعارضة عيون القصائد، وأحيانا رغبة في الشفاء، كما حدث مع البوصيري والحلي، وهكذا نجد بديعية عز الدين الموصلي التي كان يوري فيها باسم النوع البديعي في البيت رغبة في تجاوز ما قام به الحلي.
وشعبان الآثاري الذي لم يكتف ببديعية واحدة، وإنما قرن إليها اثنتين أخريين، فصارت ثلاث بديعيات.
وبديعية ابن حجة الحموي التي يقول فيها:
لِي فِي ابْتِدَا مَدْحِكُمْ يَا عُرْبَ ذِي سَلَمِ    بَرَاعَةٌ تَسْتَهِلُّ الدَّمْعَ فِي الْعَلَمِ

بِاللهِ سِرْ بِي فَسِرْبِي طَلَّقُوا وَطَنِي   وَرَكَّبُوا فِي ضُلُوعِي مُطْلَقَ السَّقَمِ

 ولم يكتف الحموي بهذه البديعية بل كانت له قصائد أخرى في المديح النبوي.

وهكذا أيضا عبد الغني النابلسي الذي لم يكتف ببديعية واحدة بل ضم إليها أخرى فكانتا اثنتين.

والحقيقة إن قصيدة البوصيري كانت ملهمة لكثير من الشعراء، سواء أكانوا ينظمون بديعيات، أم ينظمون من أجل المعارضة ومحاولة مجاراة البوصيري في هذه التحفة الفنية، ومن هؤلاء الذين اشتهرت قصائدهم في معارضة البوصيري، البارودي الذي نظم قصيدته التي يقول في مطلعها:
يا رائد البرق يمم دارة العلم ... واحد الغمام إلى دار بذي سلم
إلى أن يقول فيها:
محمد خاتم الرسل الذي خضعت ... له البرية من عرب ومن عجم.
ولم يكن البارودي وحده من الشعراء المحدثين الذين عارضوا قصيدة البوصيري، فهذا شوقي وقصيدته الشهيرة:
ريم على القاع بين البان والعلم ... أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
إلى أن يقول فيها:
محمد صفوة الباري ورحمته ... وبغية الله من خلق ومن نسم.
ولاشك أن قصيدة البوصيري ملمهة، وستظل كذلك، ليس لأولئك الذين ينظمون ويتبارون في ألوان البديع، بل لأولئك الذين يريدون إظهار البراعة والتفوق الشعري، ولاشك أن بحر البسيط وروي الميم المكسورة قد أعطيا لهذه القصيدة روحا شعرية رائقة قادرة على استشعار السمو الروحي، والجمال الموسيقي في آن معا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة