يبلغُ الحبُ ذروتَّه الروحية القُصوى في التصوف. الحب هو كياننا الرمزي والوجودي معاً، لأنّه ينزع عن الحياة أيةَ دلالاتٍ مباشرةٍ. إذْ لا يخلُو أفق التصوف من التعلُق بالأسرار الإلهية والروحانيات في كل الأديان. “الوجود رمزاً “ هو أخطر قضية في تاريخ البشر، لكونّها حالةً تُلخص اندماج “عقل وقلب وجسد” الإنسان. العشقُ تعبير وجودي عما يعتمل في النفس من أحوال المحبة الغامرة. والصوفية هم “ العوالم الإنسانية “ لتلك الأحوال على الأصالةِ. ليس مُتصوفاً حقيقياً مَنْ لم يسقِ مياهَ الحبِ لكل الكائنات حتى تنغمر تماماً. فالفرد قد يكون شخصاً عاديّاً في مرآة الحياة، ولكنه عالم آخر زاخر بالألغاز والمعاني.
مفارقة التصوف
من المفارقات أنَّ التصوف في اللغات الغربية mysticism يعودُ إلى الجذر اليوناني mystikos، أي الشأن المتعلق بالسر الغامض .. أي المستغلق حيث الخفاء والتفلُّت. ومع ذلك يتجلى في حياة ملموسةٍ ويظهر عبر حالات الإنسان. ولهذا يبقى السرُ كليّاً وغير واضحٍ. فهو كلي لعدم استجلاء جوانبه الكبرى. وهو غير واضح لكونّه- من ثمَّ - خارج إطار المألوف. سرٌا لا يُقال إلاَّ على نحو شذري إنْ صح التعبير fragmented. الشذرات هي العبارات- وشبه العبارات- الأقدم في الأشعار ونصُوص الحكم. فلا يعبر العاشق عن أحواله بكامل العبارة، لا بد أنْ يقتطف المعاني شذراً طالما يُكابد ويحتمل ما يعشق.
الشعرُ والعشق صنوان في التراث الصوفي ..، لا يختلفان ولا يفترقان. كلٌّ منهما يمتدُ داخل الآخر ارتباطاً بالمفارقة الآنفة. إنّ الله - في عُرف الصوفية- أخرجَ العالم حروفاً معشوقةً عبر مسيرة الخلق. مادة الخلق هي الحب، ولولا الحب الإلهي لما خرج الكون ولما تجلت الطبيعة ولما تفتق الوجود عن كنوزه وأطواره. إنّه الخلق الدال على التناغم والتآزر بين مكونات الأشياء والطبيعة. لأنَّ المداد واحدٌ، مداد الحضور والآفاق الرحبة والتماهي مع الإله المحبوب. الشعر آتٍ من الشعور القوي بالأشياء، الشعور تجربة نابضة بالحياة لا مجرد شعور خارجي، وهو ما يحدث عندما يتوحد الشخصُ مع الكون الأعلى.
ليس الشعر تجربةً ثانويةً، ولكنه تمازج ومعاناة وانفتاح بقدر طاقات المعنى. ها هنا يجري تعلق المتصوف بالحب بقدر تعلقه بالأسرار الروحية، إذْ ينفتحُ على المعاني الإلهية دون حدودٍ.
الشعر والعشق
الشعر والعشق يحرران الإنسان من قيوده. هكذا يعدُّ التصوف ضرباً من التحرر الأصيل، حتى وإنْ لم يرّه البعض كذلك. فكل مُبدع، وكل متمرد، وكل حر بملء الكلمة لا تخلو نفسه من دلالة صوفيةٍ ما. بأي معنى يتصوّف الكائن البشري في أعماق نفسه؟ إنه يعشق ما يتطلع إليه من تعال بذاته الذي هو قوس الوجود. أجل.. إن الذات يصيب الهدف حين يمتزج بالوجود الأعلى. العُلو في التصوف لا يجري إلاَّ على أوتار النفس العاشقة... عشق من دم ولحم في حضرة الوجود الإلهي.
الكدر والشواش يخلقان العتمة، ولكن الصفاء هو ماء الحب الرقراق. لا يصل إلى المحبوب سوى القادر على الإنفتاح والنقاء. وذلك هو أصل لقاء العاشق بالمحبوب لدى الصوفية وهو جذر قرض الشعر.
يقول النفري في الموقف الثامن والعشرين، وهو الموقف المعنون بـ( موقف ما تصنع بالمسألة ): " أوقفني وقال لي إنْ عبدتني لأجل شيءٍ أشركت بي. وقال لي كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. وقال لي العبارة سترٌ، فكيف ما ندبت إليه. وقال لي إذا لم أسو وصفك وقلبك إلاّ على رؤيتي فما تصنع بالمسألة، أتسألني أنْ أسفر وقد أسفرت أم تسألني أنْ احتجب فإلى من تفيض …"( عبد الجبار النفري، كتاب المواقف والمخاطبات، دار الكتب العلمية- بيروت 1997، ص ص51 ــ 52).
الكلمات جوهر الحب، فالعبارة ستر، فكيف للعاشق أنْ يصوغ معشوقه المطلق؟! والعبارة عندما تضيقُ تؤدي إلى الشعر بأبسط الدلالات. لأنَّ الشعر بمثابة اللحظة الفارقة/ الخالقة التي تقول كلَّ شيءٍ بعبارة ضيقةٍ. ومتى كان الضيق واضحاً إلاَّ إذا كان في وسع الملكوت، أي الملكوت الإلهي. هناك الفتوحات التي يصعب قولها، فهي العجز عن الكلام بمقتضى الحال. لسان الشعر هو لسان المقام الذي لا مقام بعده.
ومع ذلك لا يغفل المُتصوف بشريته، فهي الحاشية اللازمة لكل التجارب والأحوال. يقول نص القرآن: "والشعراء يتبعهم الغاوون أَلَاَ ترى أنّهم في كل وادٍ يهيمون وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون".. فالشعر- أيا كان- هو لغة الغواية التي أنبتت وجودنا الإنساني. الغواية مصدر المعرفة والحب والتعلق والشغف والعشق والحرية والتمرُد والتطلع والانتظار والتجاوز.. اختصاراً الغواية هي لغة الحياة. والغواية تمثل اشتغال المتصوف ليلاً ونهاراً على ذاته، لكونه ينحتها بالحب الذي تنوء به الجبال. ولكن لو توفر الحب، لسهل حمل الجبال!!
إذن .. نَظْم الغوايةِ لدى الصوفية هو الشعر المنطوي على الفكر والعمل. لأنَّ الكلمات أحوال ومواجيد وتجارب. الأبيات الشعرية لكبار الصوفية هي أعمال لا أقوال، أعماق لا مظاهر، معانٍ لا أعراض، حياة روحية لا تراتيل وطقوس. الجانب الإلهي هو الأساس. فكمْ من متصوف يقول التجربة الروحية بطريقة الأشعار العاشقة. حيث لا يستطيع إمساك اللحظةِ التي لا تُحتمل. حدود الزمان والمكان لا فرق، الجسد والروح لا فرق. حتى الصوت الذي قد يُناجي به مولاه يراه صوتاً خاصاً، ولكنه جوهر الوجود والعالم.
يقول جلال الدين الرومي في المثنوي :
ليس بين الروح والجسم حُجُب .. غير أن الروح عنّا تحتجب
إن صوت الناي نار لا هواء .. كلُّ منْ لم يصلها فهو هباء
هي نار العشق في الناي تثور .. وهي نار العشق في الخمر تفور
( جلال الدين الرومي، فصول من المثنوي، ترجمة عبد الوهاب عزام، هنداوي للنشر والتوزيع – لندن 2013، ص 22.)
العشق فضاء يذوب فيه الجسم والروح معاً دون انفصالٍّ. تجربة زاخرة بالروحانيات بلا نهاية، لأنَّ العشق الإلهي شعور بالحضور الدائم والمكثف لله. والمتصوف لا يعيش هكذا حال من جانب واحدٍ، فالكل الذي يلامس حضرته يتطلب نزوع الإنسان و انغماسه كلياً بالمثل، يحتاج إلى الحياة المُتجهة نحوه دون استبقاء شيء. كما أنَّ المسير لا يتوقف، فالترحال طويل من غير معالم. ويظل المريد سائراً خالي الوفاض إلاّ من نفسه. إنه يصنع منها تجارب تعيد إليها النشأة الأولى وفقاً لمكاشفات المعاني والدلالات.
يبلغ تشبيه الحضور الروحاني لدى جلال الدين الرومي بالناي مبلغاً دقيقاً، فالصوتُ كلي بطبيعته الحية، لأنّه يأخذ الإنسان من حركته ويضيف إلى وجوده معنى عاماً، يأخذه دالاً إزاء شيءٍ ما يحدث عبر السماع. والإشارة إلى أن صوت الناي نار إشارة إلى القرب، التوهج الحي، الكشف، فالصوت يستحضر ما نريد حضوره كما أنه يجسد المعنى كأننا نراه. ولذلك ارتبطت عملية الخلق بالصوت الإلهي.. " إنما أمره إذا أرادَ أنْ يقول للشيء كن فيكون ". الأمر صوت يحملُ إمكانية الإيجاد من عدم. ولذلك فالعشق نغم وصوت يتهادى إلى الحضور الإلهي بمعناه الكلي. وطالما أنَّ الصوت باب لهذا العالم الخفي، فهو تجربة الروح مع عالمها الأثير. وحال الصوت يقول إنه نارٌ لا مجرد هواء، نظراً لأنَّه يشكل نسيجه وحياته ويستحضر ما هو غائب. حتى أن مَنْ هو خارج تلك النار، فهو والعدم سواء بسواء. والمعروف أنَّ النار تحرق وتفني الحطب أو الأشياء المُلقاة فيها. ولكن أن تكون مصدراً للخلق، فهذا معناه كونها نار القرب بين العاشق والمعشوق. إن القرب بهذا الوضع دلالة على الحياة الروحية الخالصة، الحياة التي تسقي البشر حباً إلهياً.
الشعر / الوجود
عندما يتكلم المتصوف لا يقصد إنزال حالاته في قوالب شعرية. لأن اللغة الصوفية تخرج بكل عفوية ممكنة، هي التي تكتب حالات المتصوف لا العكس. فالمتصوف لا يذهب إلى الأوراق لتدبيج الأشعار، إنما تنقل المقاطع والعبارات ما مرَّ به أثناء التجربة الروحية. اللغة تكتبه من الداخل كما تخرج أقواله من مشكاة ما رأي وشعر وذاق. وقد تكون العبارة الصوفية ملموسة المظهر، لكنها بعيدة الجوهر نظراً لاختلاف المعنى وفارق التجربة.
يرى المستشرق جولد تسيهر في كتابه "العقيدة والشريعة في الإسلام" أن: " محبة الله هي خلاصة ما انتهى إليه هذا المجهود المركَّز الذي بذلته أرواح المتصوفة، لكي يفنى خيال الوجود الشخصي في حقيقة الكائن الإلهي، الشاملة لكل شيءٍ، وقد أنتجت هذه الفكرة في كافة لغات الأمم الإسلامية الراقية أدبًا شعريًّا يعد في مرتبة الدُرر الفريدة في الأدب العالمي، وهذه الفكرة العامة كانت أساسًا فلسفيًّا كافيًا لأن يدعم حياة النسك والتصوف ".
( جولد تسيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى، على حسن عبد القادر، عبد العزيز عبد الحق، دار الكتب الحديثة القاهرة، مكتبة المثنى بغداد، 1959، ص 156).
إن الشعر يحمل أطياف العشق المقدس، لا يعبر حصراً عما يكاشفه المتصوف فقط. لأن الوجود لديه تجربة مترعة بالخيال والمشاعر والعواطف والأحوال والرؤى. إن الحضور الإلهي هو الوجود الكامل دون موجود ملموس كعالم المادة. وهذا في آداب الشعوب الإسلامية كان وجوداً لاقى تنويعات كثيرة من خلال أشكال الإبداع المختلفة في الأدب والفنون والفكر. لأن نسغ العشق وتقلبات العشاق لم يخل – حتى في الأشعار الغزلية- من روح التبتل والتنسك إزاء المحبوبة. من يقرأ بعض قصائد أبي نواس وأبي العتاهية سيدرك كم كانت بيئة الشعر متأثرة بروافد التصور الصوفي تأثراً كبيراً. ولم يكن الوجود الذي تحمله العبارات( الشذرات) وجوداً بدوياً قاحلاً كما في تاريخ الثقافة العربية. ولم يكن وجوداً من غرائز ورغبات سائلة قصص ألف ليلة وليلة ومسامرات الملوك والسلاطين، بل وجود يدخل مصفاة الروح والنظرة الكونية العميقة.
كل ذلك بفضل التصوف .. والفكرة الشائعة أنَّ الصوفية استعاروا أسماء المحبوبة من الأشعار المتداولة في البيئات العربية. لكن لو قرأنا غزليات العشق الصوفي من الزاوية الروحية الرحبة، سندرك أن لغة التصوف أكثر خصوبةً وتنطوي على فائض دلالي لا حدود له. كما أن الغرائز يعاد تدويرها بأساليب تأويلية فذة. لأنّ نظرة الصوفية للحياة أعمق وأكثر دلالةً وسرياناً في مفاصل اللغة والثقافة.
يقول الحلاج في ديوانه الشعري مصوراً ما مرّ به:
وخضت في لجِّ بحرٍ فكري .. أمرُّ فيه كمرِّ سهم
وطار قلبي بريش شوقٍ .. مركبٍ في جناح عزمي
إلى الذي إنْ سُئلت عنه .. رمزت رمزًا ولم أُسمي
حتى إذا جزت كلَّ حدٍّ .. في فلوات الدنو أهمي
نظرت إذ ذاك في سجال .. فما تجاوزت حد رسمي
أتيت مستسلمًا إليه .. حبل قيادي بكف سلْمي
قد وسم الحب في فؤادي .. بميسم الشوق أي وشم
وغاب عني شهود ذاتي .. بالقرب حتى نسيت اسمي
( أبو منصور الحلاج، الديوان، الأعمال الكاملة ، تحقيق قاسم محمد عباس، رياض الريس ، لندن ، الطبعة الأولى 2002، ص 321)
العبارات دالة إلى حد النطق، هي شعرية الحال لا المقال. يغمس الحلاجُ كلماته بمياة العشق حتى كادت أن تُضئ. هناك بحر الفكر ومرور السهم وريش الشوق وحضور الرمز وفلوات القرب و وسم الحب ونسيان الاسم. المشهد لوحة فنية عاشقة. ولا تنسى الأبيات التدرج الروحي الذي يدلف بالقارئ إلى جانب آخر. هو جانب تجسيد المعنى وإضفاء دلالة أخرى على العالم. لأنَّ اللغة بطبيعتها تلقي ما تحمله في إطار ما لا تحمله، وهو موجود في خيال المتكلم ومشاعره. والحلاج يمتشق الألفاظ كسهام نافذة لا محالة.
من البداية لجُ بحر الأفكار هو الحاضر، رغم أن الثقافة البدوية الشائعة تتكلم عن الصحراء والنخيل والرمال والخيمة والأغنام والرعاة والسيف والقبيلة والغنيمة والحروب والغزوات. ولكن معجم التصوف ينقل كلَّ ذلك إلى صفحة وجوديةٍ أخرى شريطة اتساع النظر.
إعادة تعريف العالم في صور مدهشة هو نتاج تجارب العشق الصوفي بامتياز. لأنَّ معجم التصوف معجم كوني أوسع مما تستوعب الثقافة. والحلاج استدرج الثقافة الراسخة إلى بحار العشق، حتى تعاين بنفسها ما تحمله اللغة. فميسم الشوق والاستعمالات الرمزية العالية في الشعر لم يكن بهذه الطريقة الناصعة إلاَّ في إبداعات الصوفية. لأن الاستعارات لغة غالبة على الأشعار العادية لدى الأدباء والشعراء.
بينما الرؤى الكونية الصوفية ترسم عالماً من حبٍ، تستحضر وجوداً من عشق. يكون الوسم فيها للأثر الروحي الذي لا يُمحى.
ومن ثمَّ ليس ضرورياً الاسم عند المتصوفة، لأنَّ الاسم هو أحد ممتلكات الثقافة الأثيرة، حيث لن تفرط فيها ولو بالصراع الدامي. ولكن الحلاج ارتضى في عالمه "خلع الاسم " كما يخلع الإنسان نعليه في مقام العلو. إن العشق يطهر الإنسان من بقايا الثقافة الأسنة التي لحقت به. وهو التطهر الرمزي الذي ألمح إليه التصوف بطرفٍ بعيدٍ. وتلك وظيفة الشعر منذ أرسطو كأحد فنون القول والإبداع. لأنَّ كل إبداع عشق من أقصر الطرق. ولن يتطهر الإنسان إلاَّ عشقاً. الفكرة الطريفة أنَّ العاشق الحقيقي – وهذه بلاغة التصوف- هو من تطهر بهكذا دلالةٍ.