السبت 6 سبتمبر 2025

مقالات

العطر والنساء والصلاة


  • 6-9-2025 | 13:08

مصطفى الشيمي

طباعة
  • مصطفى الشيمي

في الأندلس، يسير أحد المجاذيب بملابس مهلهلة، مردّدًا ثلاث كلمات بصوت ولهان: “العطر، والنساء، والصلاة”، وكأنه روح المدينة العاشقة، يذكرنا برسالة منسية في عصرنا. هكذا يرى الناصر خمير الأندلس في فيلمه طوق الحمامة المفقود، الذي يُعَدّ من أفضل مئة فيلم عربي في القرن العشرين، وفقًا لاستفتاء النقاد السينمائيين بمهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته العاشرة عام 2013.

الكلمات التي يرددها المجذوب مستلهمة من الحديث الشريف الذي نادرًا ما يتردد على المنابر الرسمية، رغم صحته: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلاثٌ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، وهو ما يتوافق مع سيرة النبي ﷺ. ففي قلب النبي، كما تعرض كاميل آدامز هيلمينسكي في كتابها Women of Sufism: A Hidden Treasure، ثلاث سيدات أو ثلاث علامات كبرى: خديجة، وفاطمة، وعائشة. ورغم أنهن عشن قبل شيوع مصطلح الصوفية، إلا أن الكاتبة تفضّل أن تطلق عليهن لقب "أولى المتصوفات".

انطلقت الصوفية من هذه المنزلة للنساء في قلب النبي، ومن كلمته ﷺ: «رفقًا بالقوارير». والقارورة هي وعاء من زجاج يُحفظ فيه الماء، في بياض الفضة وصفاء الزجاج، وهو ما يعكس الرقة والصفاء معًا، متجاهلةً الرواية العبرانية التي تضع خطيئة السقوط من الجنة على ظهر حواء، فلا تُلعَن الأرض بسببها، ولا يأكل الرجل من عرق جبينه الخبز، ولا تنمو الأشواك والحسك، ولا تمشي الحية على بطنها، أو تلد المرأة عقابًا، بل يتأسس عالمهما على المودة والرحمة، بنص القرآن الذي يحدد أيضًا الغاية من الخلق بالعبادة.

تضفي الصوفية دلالات جديدة على مفهوم العبادة، عبر استنادها إلى الحديث القدسي: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرَف، فخلقت الخلق حتى يعرفوني»، وتجعله بؤرة مركزية لخطابها. فالتراتبية تتغير وفقًا لكل خطاب، في عملية إعادة ترتيب للمعنى، وهو ما يدخل ضمن إطار "الهيمنة الخطابية" كما صاغها ميشيل فوكو، الذي بيّن كيف تنظّم كل سلطة خطابها عبر تحريك مراكز المعنى، أو المتن والهامش. تحرّك الصوفية هذه المراكز وفقًا لحاجتها الروحية، وبوصفها سلطة، تحدّد المحكم والمتشابه.

الله هنا يُظهر إرادة في الكشف عن ذاته، وهي إرادة حب، يصوغها ابن عربي بوصفه "المحبوب الأعظم"، فهدايته للبشر دليل حبٍّ وعناية، وعدل ورحمة.

وكما قال ابن عربي:
الحبُّ يُنْسَبُ للإنسانِ واللهِ .. بنسبةٍ ليس يدري عِلْمُنا ما هِي
الحبُّ ذوقٌ ولا تُدرى حقيقتهُ .. أليسَ ذا عجبٌ واللهِ واللهِ
لوازمُ الحبِّ تكسوني هويّتَها .. ثوبَ النقيضَيْن مثل الحاضرِ الساهي
بالحبِّ صحَّ وجوب الحقِّ حيث يُرَى .. فينا وفيه ولسنا عيْنَ أشباهِ

في كتاب The Sufi Path of Knowledge يتناول ويليام سي. تشيتيك الطريق الصوفي إلى المعرفة في فلسفة ابن عربي، وهو طريق يقوم على الكشف بطبيعة الحال، أي الاعتزال والذكر وفتح قلب المرء لله، فتشرق الأضواء الإلهية بعلوم نقية من الشوائب، أو بقول الجنيد: «الماء يأخذ لون الكأس». فالغاية الأسمى للمتصوف هي الفناء في ذات الله، وهي حالة تتجلّى بمسميات مثل: الوجد، أو الهيام، أو الذوق، أو الارتواء، أو السكر؛ للتعبير عن الاستسلام التام للإرادة الإلهية ومحو الذات في سبيل الله.

الكأس أو القارورة ذات إرث ديني عميق، بدلالات متداخلة الثقافات. ففي الإنجيل، أخذ المسيح الكأس وأعطاه لتلاميذه في العشاء الأخير قائلًا: «اشربوا منها كلكم»، وهو فعل اتحاد للمؤمن بالجسد والدم الإلهي، وهو ذو دلالة متشابهة لما تحمله الصوفية الإسلامية، لكن كأسها يرجع إلى المرأة. لقد رأى ابن عربي في قيس مجنون ليلى مراده، ليكون رمزًا لحالة الوجد، ولتكون ليلى رمزًا للعشق الإلهي. وأشعار ابن الفارض حافلة بالاحتفاء بجوهر الأنثى: «هل نارُ ليلى بدَتْ ليلاً بذي سَلَمِ أمْ بارقٌ لاح في الزوراء فالعَلَمِ» وهي استعارة تتناص مع تجلّي الله لموسى: ﴿إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً﴾ [طه: 10].

لا يتعلق الأمر بالشعر أو بالاستعارة أو الجمال اللغوي، بل يتعلق برؤية العالم. فالصوفية، في خلخلتها للمراكز وإعادة ترتيبها، تسرد رواية أخرى. التراث الصوفي حافل بنساء عاليات الكعب، ولعل أشهرهن رابعة العدوية، إمامة العاشقين، التي تعلقت بالله وفقًا لمفهوم الحب:
عَرَفْتُ الهَوى مُذْ عَرَفْتُ هَواكَ
وأغْلَقْتُ قَلْبِي على مَن عَاداكَ
وقُمْتُ أُناجيكَ يا مَن تَرى
خَفايا القلوبِ ولسْنا نراكَ
أُحبُّكَ حُبَّيْنِ: حُبَّ الهوى
وحُبًّا لأنَّكَ أهلٌ لذاكَ
فأمّا الذي هوَ حُبُّ الهوى
فَشُغْلِي بذِكْرِكَ عمّن سِواكَ
وأمّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ
فلستُ أرى الكونَ حتى أراكَ
فلا الحمدُ في ذا ولا ذاكَ لي
ولكن لكَ الحمدُ في ذا وذاكَ

الرواية الصوفية تعيد للمرأة حقيقتها المقدسة، فتنتشلها من النظام الأبوي والأدوار الجندرية، وتجعلها مركز الوجود، تتساوى مع الرجل في المكانة، ويربطها به الفعل المتأجّج، حيث يتشابكان في حبٍّ ولذة وشوق، في اتصال يستهدف الذوبان معًا في ذات واحدة. المرأة في الصوفية كائن عارف، وعاشق، وقد تصل إلى الإمامة الروحية في أعلى مراتب الصوفية، وهي "القطب".

لدينا إذن نسوية صوفية، وُلدت من قلب الثقافة العربية والإسلامية، قبل موجات النسوية الغربية الأربع: الموجة الأولى، من أواخر القرن التاسع عشر، التي ركزت على حقوق المرأة الأساسية وخاصة حق التصويت؛ والموجة الثانية، من ستينات القرن العشرين، التي ركزت على قضايا أوسع مثل الحقوق المدنية والمساواة في العمل والحقوق الإنجابية؛ والموجة الثالثة، في أوائل التسعينات، التي ركزت على التنوع والهوية الجنسية؛ والموجة الرابعة التي نعيشها اليوم، والتي يُطلق عليها "الموجة الإلكترونية"، وركزت على قضايا مثل التحرش الجنسي بحملات مثل MeToo و TimesUp التي رفعت شعار "نصدّق الناجيات"، وما رافقها أحيانًا من تحيز ضد الرجال عند غياب الأدلة. وبالتزامن مع الموجة الرابعة، ظهرت نسويات ينتقدن النسوية من الداخل، موجّهات لها اتهامات بالتطرف أو بالممارسات الإقصائية، أو بالسعي إلى المزيد من المكاسب عبر التوسل بالمظلومية، مثل كتاب The Manipulated Man للكاتبة إستير فيلار، المترجم للعربية بعنوان التلاعب بالرجل، وكتاب Men on Strike للكاتبة هيلين سميث، الذي يطرح سؤالًا هامًّا عن سر عزوف الرجال في المجتمع الأمريكي اليوم عن الزواج والأبوة، ويجيب بأن تطرف النسوية دفعهم إلى ذلك، إذ يشعرون أنهم يعيشون في نظام بات يعمل ضدهم ويسلب حقوقهم.

على نقيض كل ذلك، فالنسوية الصوفية ليست فكرة غربية أو غريبة عن الثقافة، وليست متطرفة؛ فالمرأة هي نور الله، كما قال جلال الدين الرومي. والصوفية تضع الرجال والنساء في مرتبة واحدة، إذ تؤمن أن الأرواح هي جوهر كل الكائنات، أو كما قال شمس الدين التبريزي: «لا يوجد أنا ونحن وأنت، بل أنا وأنت ونحن نصبح واحدًا.. في الوحدة لا يوجد تمييز»، فلا تمييز بين الرجل والمرأة.

القارورة امرأة.. كأس زجاجية صاغها الله شفافة، نقية، وفيها خمرة الروح، أي السكر الروحي، كما يترنّم ابن الفارض في قصيدته:
شربنا، على ذكر الحبيب، مدى سكرنا بها، من قبل أن يُخلق الكرم
لها البدر كأسٌ، وهي شمسٌ يُديرها هِلٌّ، وكم يبدو إذا مُزجت نجم
ولولا شذاها ما اهتديت لحنها، ولولا سناها ما تصوّرها الوهم
ولم يُبقِ منها الدهر غير حُشاشةٍ، كأن خفاها في صدور النُّهى كتم
فإن ذُكرت في الحي أصبح أهله نشاوى، ولا عارٌ عليهم ولا إثم
ومن بين أحشاء الدنان تصاعدت، ولم يبقَ منها في الحقيقة إلا اسمُ

لقد فسّر ابن عربي علاقة الرجل بالمرأة، وحنينه إلى السكن فيها وإليها، بالحنين من الفرع إلى الأصل، ويقول عن ذلك: «وعمّر الله الموضع من آدم الذي خرجت منه حواء بالشهوة إليها، إذ لا يبقى في الوجود خلاء، فلما عمره بالهواء حنّ إليها حنينه إلى نفسه لأنها جزء منه، وحنت إليه لكونه موطنها الذي نشأت فيه، فحبّ حواء حبّ الموطن، وحبّ آدم حبّ نفسه». فالعشق بين الرجل والمرأة هو طريقة للوصول إلى الله أيضًا، والطرق إلى الله، كما ذكر السيّد حيدر الآملي، بعدد أنفاس الخلائق.

إن الصوفية تعدّ الإنسان المغترب، بعد السقوط في الأرض، بطريقة يعرف بها نفسه، ومن عرف نفسه فقد عرف الله، ووجد الحب والسلام.

الاكثر قراءة