كانت الرواية قديمًا ديوان العرب، ولعل الشعر بأنواعه اليوم يُعد ديوان العرب لما له من تأثيرات على الإنسان (شعورًا ووجدًا وحبًا وهيامًا). والشعر الصوفي أحد أنواع الشعر العربي، ويرتكز أساسًا على نظرية الحُب الإلهي لدى الصوفية منذ صرخة الإمام الحسن البصري الرهيبة في أعماق البصرة (ت 110 هـ) منذرًا الناس في أرجاء العالم الإسلامي بالعذاب الأبدي للخاطئين، وصور لهم النار الأبدية التي تشتعل في ضمير الغيب أمامهم، وبيَّن لهم قِصر الحياة وتفاهتها ووضع لهم طريق الآخرة.
وهنا امتزج الحزن بالقلوب، والدموع بالعيون، وأقبل عليهم الخائفون… وكان الشعر ملاذًا لهم للتعبير عن ذلك كما سنرى لدى الصوفية الأوائل، من خلال اللمحات الصوفية والروحية والخوف والبكاء إلى الاطمئنان القلبي إلى الله تعالى ورضاه وعفوه، ثم إلى لمحات من الحُب لدى العباد الأوائل أصحاب التأمل الواعي العميق بعمق الروح الإلهية والخالدة. من هذا وتلك وُلد أكبر عباد البصرة ووعاظها الزهاد، وهو عبد الواحد بن زيد (ت 177 هـ) أوَّل مُحب حقيقي من الزهاد الأوائل. ومن بعده جاءت رابعة العدوية (ت 185 هـ) التي طبعت الحياة الروحية في الإسلام بطابع الزهد والصوف والخوف والحزن والحُب الإلهي، بعد أن كانت عازفة على الناي وتتراقص في حانات بغداد فهداها الله إلى الزهد والتصوف، وقالت وغنت أعذب الكلمات في الحُب الإلهي.
حياته ومؤلفاته:
الحلاج كما نعلم هو أبو المغيث الحُسين بن منصور بن محمد البيضاوي المشهور بالحلاج (244 هـ – 309 هـ / 858 م – 922 م)، عالم كلام، صوفي، عالم لغة عربية وفارسية، وشاعر. حياته وقتله يمثلان فاجعة كبرى في تاريخ الثقافة الإسلامية والخبرات الداخلية التي كُتبت في تاريخ النصوص الإسلامية والتصوف الإسلامي. وُلد في مدينة الطور بالبيضاء في فارس (إيران) التي كانت مركزًا للعربية رغم فارسيتها وذلك بحسب سيبويه. وفي حوالي عام 260 هـ، أي عندما كان في السادسة عشرة من عمره، اتصل بسهل بن عبد الله التستري في تُستر بالأهواز، وقضى في خدمته عامين، قرأ القرآن الكريم وتعلم في واسط، وأخذ يتعلم اللغة بمفرده حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، وحفظ القرآن الكريم بسرعة فائقة، واختار البصرة مكانًا، وقابل بعض الصوفية وسكن وعاش معهم، وبالذات عمر المكي الذي كان له صلة نسب بالإمام الحسن بن أبا يعقوب الأكتع، ودرس الشيعة والسُنَّة والمعتزلة (كفرق كلامية إسلامية). ثم ذهب إلى بغداد وهناك قابل معلمه الأول الجنيد بن محمد (شيخ الطائفة) وتعلم منه الكثير، ثم حج أكثر من مرة وزار المدينة المنورة ومكة المكرمة، كما زار عدة مدن وقابل أكثر من شخصية إسلامية صوفية.
وحياته وقتله يمثلان فاجعة كبرى في تاريخ الثقافة الإسلامية والخبرات الداخلية التي كُتبت في تاريخ النصوص الإسلامية والتصوف الإسلامي. وُلد في الطور بالبيضاء بفارس (إيران) التي كانت مركزًا للعربية رغم فارسيتها (بحسب سيبويه).
قرأ القرآن الكريم وتعلم في واسط، وأخذ يتعلم اللغة بمفرده حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، وحفظ القرآن الكريم بسرعة فائقة، واختار البصرة وقابل بعض الصوفية وسكن معهم، وخاصة الشيخ عمر المكي الذي كان له صلة نسب بالإمام الحسن بن أبا يعقوب الأكتع، ودرس الفرق الإسلامية (السُنَّة والمعتزلة والشيعة). ثم ذهب إلى بغداد وقابل معلمه الأوَّل الشيخ الجنيد بن محمد شيخ الطائفة (ت 297 هـ) وتعلم منه الكثير.
ثم ذهب إلى الحج أكثر من مرة، وطبيعة الحال زار مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم زار عدة مدن وقابل أكثر من شخصية إسلامية صوفية. وتوسع لويس ماسنيون، المستشرق الفرنسي البارز، في دراسة الحلاج وشعره الصوفي، وأعد عنه رسالة دكتوراه في جامعة السوربون بباريس بعنوان (عذاب الحلاج) في أكثر من ألف صفحة، وقد اطَّلعنا عليها وقمنا بتصويرها أثناء تواجدي بباريس بالجامعة.
ويقول الشاعر فاروق شوشة في كتاب (عشرين قصيدة في الحُب الإلهي): إن الشعر العربي يحمل عناوين كثيرة لهذا الحُب، حيث فاضت وجدانات العشاق الكبار من الشعراء الصوفية بأنغام وترانيم وألحان تطهروا بها، وحلقوا من خلالها دنوًا واستشرافًا من الأفق الأعلى والأسمى، حيث ينابيع الروحانية والفيض الغامر، حيث تمتلئ النفوس بأقباس من النورانية، وتفيض العيون بدموع الندم والخشية والتوبة، وتعمر القلوب بوشائج المحبة الدائمة ومقامات العشق وأحوال الشوق، وينسكب هذا كله في النهاية شعرًا يفيض بالصدق ويعمر باليقين ويصل بالمحبة والإيمان بالله تعالى، فكان الحُب الإلهي.
ولعل الحلاج، الذي عاش في القرن الثالث الهجري، كان من أكثر الصوفية في هذا المقام، رغم دعوته إلى مذهب سياسي وروحي يقوم على فقه معين ورياضات صوفية تتميز بغرابة اللفظ وأحيانًا بالتطرف والشدة والإصرار على الوصول لهدفه مستهينًا بالعقبات حتى ولو كان على حساب نفسه. وهذا ما نراه في موته مقتولًا بعد سجنه. ونحن نعرف أنه انتهى الأمر بالحكم على الحلاج بالإعدام وضُرب ألف جلدة على جسده، ثم قُطعت أطرافه الأربعة، وضُربت عنقه، وأُحرقت جثته، ثم ذُري رماده في نهر دجلة، وحُملت رأسه إلى خراسان حيث كان له فيها أصحاب وأتباع ومريدون، كما جاء في ديوان الحلاج الذي قام بترجمته إلى اللغة الفرنسية المستشرق الفرنسي لويس ماسنيون.
نعود إلى الحُب، ونجد الحلاج يقول في وصف موعد حُب لحبيب شعرًا:
لي حبيب أزوره في الخلوات
حاضر غائب عن اللحظات
ما تراني أصغي إليه بسري
كأني أعي ما يقول من كلمات
كلماتٍ من غير شكلٍ ولا نقطٍ
كَرَنَّةٍ مثل نغمة الأصواتِ
فكأني مُخاطب كنت إياه
على خاطري، بذاتي لذاتي
حاضرًا غائبًا قريبًا بعيدًا
وهو لم تحوه رسوم الصفات
هو أدنى من الضمير إلى الوهم
وأخفى من لائح الخطرات
ويقول الحلاج إن هذا المعنى انتبه إليه كثير ممن جاء بعده من الشعراء، وأداروه على محاور عدة في الغزل الحسي بما يخرجه من طابعه الصوفي الأصيل، كما نجد في هذه الأبيات:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنًا
نحن، مذ كنا على عهد الهوى
نضرب الأمثال للناس بنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
أيها السائل عن قصتنا
لو ترانا لم تفرق بيننا
روحه روحي وروحي روحه
من رأى روحين حلت بدنا
وهناك بعض الأشعار المنسوبة للحلاج ذات الدلالة العميقة في الإبانة عن مذهبه وأسلوبه في تمثل الحُب الإلهي شعرًا، يقول فيها الحلاج:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم
إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا ذكرتك محزونًا ولا فرحًا
إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رأيت خيالًا منك في الكاسِ
ولو قدرت على الإتيان جئتكمو
سعيًا على الوجه أو مشيًا على الرأسِ
ويا فتى الحي إن غنيت لي طربًا
فغنِّ وارحمنا من قلبك القاسي
مالي وللناس كم يلحوننا سفهًا
ديني لنفسي ودين الناس للناس
مذهب الحلاج الصوفي:
لعل من أبرز ما يصوِّر لنا المذهب الصوفي للحلاج هي تلك النظريات التي نسجها وعبر عنها شعرًا تارة ونثرًا تارة أخرى حول مسائل الذات الإلهية في مجال التصوف الفلسفي:
مثال ذلك حلول الذات الإلهية أو اللاهوت في الذات البشرية أو الناسوت، أو ما يُطلق عليه نظرية الحلاج في الحلول أو حلول اللاهوت في الناسوت، فقد اعتنق الحلاج عقيدة حلول الله في الإنسان، واستحالة الإرادة الإنسانية إلى إرادة إلهية بحيث يصبح كل ما يصدر عن الإنسان من فعل هو فعلًا لله. وعقيدة الحلول هذه هي إحدى العقائد الرئيسية عند غلاة الشيعة. وقد اتخذ منها الحلاج أساسًا بنى عليه مذهبه في حلول اللاهوت في الناسوت، أو حلول المحبوب في المحب، أو حلول الرب في العبد، كما يدل على ذلك قوله شعرًا:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فــإذا أبصــرتني أبصــرتــه
وإذا أبصــرتــه أبصرتنا
وقوله مخاطبًا محبوبه وهو الله:
أنت بين الشغاف والقلب تجري
مثل جري الدموع من أجفاني
وتحــل الضمــير جــوف فــؤادي
كـحـلــول الأرواح في الأبــدان
على أن الحلاج في تعبيره عن هذا الحلول، كان مترددًا بين إثبات الامتزاج بين روحه وروح محبوبه وهو الله من ناحية، وبين نفي هذا الامتزاج من ناحية أخرى: فأما إثباته لهذا الامتزاج فيدل عليه قوله:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فــإذا مســك شــيء مــسنــي
فــإذا أنت أنــا في كل حــال
فهو هنا يصوِّر حلول روح محبوبه في روحه في صورة الامتزاج الذي يحصل بين الخمر والماء على وجه يصيران معه شيئًا واحدًا، كما يعبر تعبيرًا صريحًا عن أنه يستحيل هو وهذا المحبوب إلى شيء واحد، بحيث إن أحدهما إذا مسه شيء فقد مس الآخر. ولكنه ينفي هذا الامتزاج في نصوص أخرى منها قوله:
أنا عين الله في الأشياء فهل
ظاهر في الكون إلا عيننا
أنـا ســر الحـق مـا الحـق أنــا
بـل أنــا حــق فـفــرق بيننـا
وقوله في مخاطبة ربه: "… وكما أن ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك، غير ممازجة لها، فلاهوتيتك مسئولة على ناسوتيتي غير ممازجة لها". وقوله أيضًا: "من ظن أن الإلهية تمتزج بالبشرية، والبشرية بالإلهية، فقد كفر، فإن الله تعالى تفرد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم ولا يشبههم لوجه من الوجوه ولا يشبهونه". فهو هنا حلولي ينظر إلى اللاهوت والناسوت، أو الرب والعبد، أو المحبوب والمحب، على أنهما شيئان متميزان في ذاتهما وحقيقتهما، بقدر ما كان هناك حلوليًا واتحاديًا معًا يرى أن الذات الإلهية يمكن أن تحل في الذات الإنسانية على وجه تمتزج فيه الذاتان بحيث تصيران ذاتًا واحدة.
ويرى البعض في كيفية الاتحاد والتجسد أن الكلمة مازجت جسد المسيح ممازجة اللبن بالماء (أي أننا لا نستطيع أن نحدد أين اللبن وأين الماء) بخلاف ممازجة الزيت بالماء (فسيطفو الزيت على سطح الماء) كما ذهب إلى ذلك المؤرخ الكبير أبو الفتح الشهرستاني في الملل والنحل.
عن السيكولوجية الحلاجية:
مما لا شك فيه أن الشخصية الحلاجية من الشخصيات الحادة التي طرحت ذاتها بذاتها، ولم تترك لنفسها أن تتشكل على وفق مجرى الوقائع ذاتها التي أدت في النتيجة النهائية إلى قتل النموذج الإلهي في الإنسان طبقًا لتصور ماسينيون، ومن ثم تدمير الخطاب الديني في عناصره الجوهرية لإنشاء سلطة قمعية تستغل الشعور الديني باسم الله مرة وباسم الشريعة مرارًا. ولا يستطيع المرء أن يُلغي دور الإلهيات والغنوصيات القديمة في تشكيل جانب مهم من الشخصية الإسلامية، ولنا أن نتفحص المفاهيم الأولى عند الزهاد الأوائل أمثال: الحسن البصري (ت 110 هـ)، وتأثير الثقافة الهلّينية على البسطامي (ت 261 هـ) وذي النون المصري (ت 245 هـ)، وإن لم تطمح مثل هذه الشخصيات إلى أن تطرح ذاتها كبديل لما هو سائد حينذاك، خلافًا للحلاج الذي جاء بعدهم مدفوعًا برغبة ملحّة بإعادة صياغة محددات الشخصية الإلهية نموذجها المحمدي، بعيدًا عن إفرازات الإسلام السياسي الزمني (يُراجع نبرات الصدق الممزقة التي خلفتها كلمات الحلاج الأخيرة عشية إعدامه)، بكل ما فيها من تجاوزات وشطحات أمام الإنسان العادي. ولكنه أراد أن يؤكد دور الشريعة الحقيقي بفهم الوصول إلى حقيقة الشريعة وليس تحطيمها.
ومن يراجع أبيات شعره يرى أنه وصل إلى ذروة انجذابه للرحمة عندما استخلص شخصيته من الاتحاد مع المحبوب في صلاته عشية الإعدام، عندما أخذ يردد بعد الصلاة: "مكر، مكر"، وهي صفة إلهية أكدها القرآن الكريم في خطاب إلهي ضمن مجموعة من الآيات القرآنية حيث قال تعالى: "والله خير الماكرين". وعندما فكر بموقف الفقهاء الذين عدّهم كمساعدين له وهو ينذر جسده ليستدل الجمهور على صدق ما ذهب إليه – فكر الحلاج تلك الليلة بموته الكبير، ووجد نفسه في مواجهة موقف حقيقي يشهد به أمام الأمة على ولايته، محررًا نفسه ليصرخ في النصف الثاني من الليل: "حق، حق". لتكون المعادلة الصوفية النفسية: "مكر، حق، مكر، حق". بمعنى أن الذي يتوجه إلى موته بهذه الطريقة لا يقدم صورة لجسد شخصية معذبة، وإنما يقدم صورة واضحة للذي يموت من أجله (وهو الله). فالفرح من الله، إلا أن العذاب هنا صورة الله أيضًا. ومن هنا نجده يقول في الديوان:
وكل مآربي قد نُلت منها
سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
ويذكر د. قاسم أن الرغبة الحقيقية هي الوصول إلى المشنقة، وهنا ينفسح المجال الدلالي لـ (مكر، حق).
ومن هنا نجد ديوان الأدعية والمناجاة لشهيد التصوف الإسلامي يحتوي على أربعة أجزاء في مجلد واحد بعد المقدمة، منها بالطبع:
* نقد النصوص Critique textuelles
* تحليل دلالة النص Analyse sémantique
وقد قام ماسينيون بترجمة فرنسية للوثائق والنصوص مع تقديم فهرس وقوائم تحقيقية وملاحظات حول النص العربي Texte Arabe et Notes.
ومن ناحية أخرى، فإن عقيدة بعث الجسد عند الحلاج تأخذ معناها في هذا العالم، ولأن الحق خالق كل شيء، فللجسد قيمته المؤكدة، ولذا فإن الحلاج كان فرحًا وهو يتقدم نحو موته في مغامرة لها دلالاتها، فهي صورة تتماهى مع صور الشهداء الأوائل للإسلام المبكر وكأنه في معركة مقدسة في سبيل الله، ويشبه ذلك ـ طبقًا لرؤية ماسينيون ـ وجوه ضحايا فاجعة كربلاء (61 هـ) وهم يقدمون أجسادهم للسيوف شهداء.
ولقد ردد الحلاج وهو يتقدم نحو موته مقطوعة شعرية من أربع أبيات تكشف لنا عن السيكولوجية الحلاجية، وتؤكد لنا التصور الحلاجي عن التضحية (التي يشبهها ماسينيون بصلب المسيح) وتحطيم المعبد الإبراهيمي في جسده (إسماعيل فداء لإبراهيم). وعن أبي الحسن الحلواني قال: حضرت الحلاج يوم وقعته (يوم صلبه) فأُتي به مسلسلاً مقيدًا يتبختر في قيده وهو يضحك ويقول:
نديمي غير منسوبٍ
إلى شيءٍ من الحَيفِ
دعاني ثم حياني
كفعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأسُ
دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراحَ
مع التنين في الصيف
ولقد أشار ماسينيون إلى الدلالة الشديدة التركيز لهذه الرباعية التي تمثلها الحلاج، ويرى أن الحلاج هنا يحدد سابقة عظيمة وهو يخاطر بنفسه ليعلن أمام الله حبه الرجولي، وهو الحب ذاته الذي تفشى عند الصوفية اللاحقين كمقام من أهم المقامات، واعتُبر رائدًا بمجموعة من الأفكار الأفلاطونية لمفهوم تماثله مع العرض السري الرجولي لسيدنا آدم (عليه السلام) قبل خلق حواء، ذلك الحُب المطلق لغير النوع الإنساني، إلا أن تضحية الحلاج تضحية بالجمال النموذجي للرجال في هذه الصورة الإلهية.
ولقد صلى الحلاج ركعتين قبل الحكم عليه، وفي ركعتيه أمام الموت قرأ الفاتحة وبعدها آية من سورة الشورى في قوله تعالى عن الساعة:
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ۗ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ }.
وهذا ما يؤكد لنا أن الحلاج قُتل ظلمًا، ومن هنا عده ماسينيون شهيدًا للتصوف، ومن هنا أيضًا تعددت قراءاته واختلف الناس فيه مشارب وأهواء وفرقًا ومذاهب.
وهكذا يقدم لنا الحلاج صورة رائعة من صور البطولة والفداء في تاريخ التصوف الإسلامي، ونموذجًا خاصًا من نماذج الثورة الروحية في الإسلام، تذكرنا بما قدمه سقراط في الفكر اليوناني، وبرونو في الفكر الغربي، وغيرهما من شهداء الرأي والكلمة والموقف لظروف تواجدهم في زمان غير الزمان، ومكان غير المكان، فاختلط الحابل بالنابل وامتزج الحق بالباطل بلا تمييز بين ما هو حقيقة وما هو باطل.
ولقد جاء الحق تعالى على أهل صفوته والمتحققين بالتوحيد والانقطاع إليه بكشف ما كان مستترًا عنهم قبل ذلك من مراتب صفوته ودرجات أهل الخصوص من عباده الذين يصدق عليهم قوله تعالى:
{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }.