طائر العشق الإلهى، يحلق فى سماوات الأنس والمراقبة، بجناحى الوجد والصبابة، يسلك مسالك زهد القادرين، يرفع رايات التَرك والتخلى، ليصل إلى سدرة اليقين والتجلى، يشدو ترانيم الوصل والجوى، يتدثر بعباءات الرضا والتوكل، يصرع الشهوات بالمجاهدة، فتسعى فى ركابه الكرامات، يسمو على مقاعد أصحاب العلم والمقال، يدور فى أفلاك الإلهام والفتح، ليصبح من أهل الحال والمقام، يمتطى صهوة الولاية، ينسلخ من الكل ليذوب فى الواحد، يبنى جسوراً من المحبة والسلام، يغسل الأفئدة بالشجو والهيام، ويملأ الألباب بالرشد والإلهام، تصير روحه نوراً أبدياً، تهمس فى خلاياه، أبدع وارتقى، لتسجد يوماً تحت عرش الرحمن.
إنه مولانا جلال الدين الرومى، نور المعرفة، وشمس المعارف، القطب الغوث، والشاعر المغرد فى ساحات الصوفية.
ولد جلال الدين محمد بن محمد بن الحسين البلخى فى عام 1207 ميلادية، ونشأ فى بيت مشهود له بالورع والتقوى والزهد، أبوه عالم زاهد وصوفى ورع، وقد ولد وعاش طفولته فى مدينة (بلخ) فى بلاد ما وراء النهر، وهى ضمن حدود دولة أفغانستان الآن، وكانت تسمى أم البلاد، لأنها فى ذلك الوقت كانت إحدى عواصم الثقافة الاسلامية، وينتمى إليها العديد من الاعلام، مثل الصوفى الكبير إبراهيم ابن أدهم الذى يؤكد كثير من المؤرخين أنه أحد جدود الرومى، كما يذهب بعض المؤرخين إلى أن نسب الرومى ينتهى بالخليفة أبى بكر الصديق، كما ينتمى إلى بلخ العالم الإسلامى الكبير ابن سينا وشقيق البلخى.
ويحمل والده لقب بهاء الدين، وهو من العلماء الأعلام فى بلخ، فقيه صوفى، واعظ ومدرس لعلوم الدين، يحمل لقب (سلطان العلماء)، له كتاب اسمه (المعارف) فى أربعة أجزاء، وهو الأستاذ الأول لابنه جلال الدين، والذى تأثر بفكره ومنهجه وطريقة إلقاء دروسه.
وفى هذا المناخ الدينى المستنير، نشأ جلال الدين نشأة صالحة، حفظ القرآن، وتلقي علوم الدين، وتعلم اللغة العربية، وعلوم التوحيد، وقد أخذ كل ذلك عن والده الفقيه الصوفى، وكشف فى طفولته عن ذكاء متقد، وفطرة سليمة، واستعداد قوى لتلقى العلم وفهمه.
أما والدة الرومى فكانت ابنة علاء الدين محمد، عم السلطان محمد خوارزم شاه، وكان والده صاحب حظوة فى بلاط السلطان، ولم تكن هذه الحظوة تروق للكثيرين من حاشية السلطان، فدسوا له مما جعل هوى السلطان يتغير من ناحيته، وتصادف ذلك مع الاجتياح المغولى لبلاد المسلمين، وكانت مدينة بلخ إحدى أهدافهم القريبة، فجمع الوالد أسرته، وقرر الهجرة من بلخ فذهب أولاً إلى بغداد، وفى الطريق قرر أن يزور القطب الصوفى الكبير الشاعر فريد الدين العطار، صاحب كتاب (إلهى نامه)، وهو منظومة صوفية طويلة، وأعجب العطار بالفتى الصغير جلال الدين، الذى تؤكد سيرته أنه كان فى الرابعة عشرة من عمره – وهذه السن تجعل سنة ميلاده 1199 وليس 1207- واحتضن العطار الفتى الصغير، وأهداه نسخة من كتابه، وتنبأ له بمستقبل زاهر، وفى بغداد التقى الشيخ شهاب الدين السهروردى، ومن بغداد انتقلت الأسرة إلى بلاد الحجاز، لأداء فريضة الحج، ومنها إلى الشام، حيث التقى جلال الدين بالقطب الصوفى الكبير محيى الدين بن عربى، صاحب كتاب (الفتوحات المكية)، ومن الحجاز انتقلت الأسرة إلى مدينة قونية من بلاد الأناضول فى آسيا الصغرى والتى كانت عاصمة الدولة السلجوقية، ومركز حضارة الأناضول، وتعرف ببلاد الروم، ومنها أخذ جلال الدين لقبه الذى اشتهر به، وخلال هذا الترحال واصل جلال الدين، التفقه فى علوم الشريعة على مذهب الإمام أبى حنيفة مثل والده، وأخذ الكثير من معارف الوالد، وعندما وصلوا إلى قونية راح بهاء الدين يلقى دروسه على تلاميذه ومحبيه، إلى أن رحل وهو فى الثالثة والثمانين من العمر، وقبل رحيله أوصى صديقه برهان الدين الترمزى بأن يواصل رعاية ابنه جلال الدين، الذى كان قد وصل إلى سن الرابعة والعشرين، ووجد برهان الدين، أن هذا الشاب النابه، يمتلك الكثير من العقل الراجح، والبصيرة النافذة، والحس الملهم، والقدرة الفائقة على تحصيل الكثير من المعارف، فى أقل وقت ممكن، واستمر معه تسع سنوات، وعندما اكتملت كل أدواته فى العلم والمعرفة، جلس مكان والده فى مجالس التدريس والفتيا والوعظ، وسرعان ما تكاثر تلاميذه ومريدوه، لما يمتلكه من الصفات الحميدة، غزارة العلم، سهولة الحديث، رحابة الصدر، بشاشة الوجه، وارتبط بعلاقة وطيدة مع السلطان علاء الدين السلجوقى، وراح يلقى دروسه فى أربعة مدارس مختلفة، يلقى فيها دروسه فى الفقه والتفسير والإفتاء، وأطلق عليه تلامذته ومريدوه لقب مولانا، الذى ظل لصيقا به طوال الوقت، وقد تأثر الرومى بعلم ومسيرة الامام أبى حامد الغزالى، وصار الغزالى مثله الأعلى، وسار على درب الغزالى فى الانتقال من تدريس العلوم وإعمال العقل، إلي العكوف على مجالس التصوف والانتقال من المنهج العقلى، إلى المنهج الروحى، منهج الصوفية أصحاب المواجيد.
ويعود هذا التحول الدراماتيكى فى مسيرة الرومى إلى لقائه بالقطب الصوفى المبهر شمس الدين التبريزى، الملقب باسم (الفراشة)، وقد سلبت فراشة الصوفية، لب جلال الدين ليتحول إلى مريد فى حضرة شيخه التبريزى، ينهل من فيوضاته ويحلق معه فى فضاءات الوجد والصبابة، فبعد أن تبحر فى علوم الدين والكلام والفقه، وصار عالما يشار إليه بالبنان، تحول إلى مريد، يسير على خطى الروح، يهاجم الفلسفة التى تعتمد على العقل المحض هجوما عنيفا، وصار يحتاط فى الأخذ بآراء الفلاسفة - ربما سيراً على درب شيخه وأستاذه الإمام الغزالى، فى كتابه تهافت الفلاسفة – يجعل الشريعة هى المعيار، ويدعو إلى تحرير عقل الإنسان من قيد المذهب، يؤكد على وحدة الوجود، يشرح الكثير من المرامى الصوفية، مثل قضية الروح والجسد، والمريد والمقال والحال، وكان تصوفه مزيجاً من الفلسفة والحكمة العملية، فهو حكيم أخلاقى، وشاعر صوفى يميل إلى الحب والوجد، ولم يحسم أمره فى الانتقال من علم المقال إلى سمو الحال، إلا بعد أن خاض صراعاً كبيراً بين المدرسة والخلوة، بين الفكر والزهد، بين المقال والحال، وحاول أن تكون رسالته مزيجاً من عقله الفلسفى، وروحه الصوفية، منطلقا من الرصيد الهائل الذى امتلكه من الحياة وسط أسرة ترفع رايات العلم والزهد والتقوى، فحاول فى كل خطواته أن يصل إلى الحقيقة، لتدفع به إلي الصدق واليقين.
ويروى بعض رواة سيرة الرومى قصة لقائه الأول والعجيب مع التبريزى، حيث دخل عليه التبريزى وهو يجلس ومعه كتبه، وسط تلاميذه، وبجانبهم حوض ماء، وإذا بهذا الدرويش العجيب يأخذ الكتب، ويرمى بها فى الماء، فحزن جلال الدين، وقال ملتاعاً ضاع كل جهدى وعلمى، فقال له التبريزى لعل الأمر سهل، فسأل كيف؟، قال مد يدك وخذ كتبك، فأخذها، فإذا هى جافة من دون أى أثر للماء عليها، وقد يكون ما فعله التبريزى على سبيل كرامات الصوفية، وقد يكون رسالة من رسائل الصوفية بأن العلم فى القلب والوجدان، وليس فى أوراق الكتب، وقد تحول جلال الدين بعد هذا الموقف من علم المقال إلى علم الحال، أي تحول من حالة العالم إلى حالة الدرويش، واستطاع التبريزى تحويل حياة وفكر جلال الدين تحويلا كبيرا، ليتجه بكل كيانه نحو التصوف، وغضب تلاميذ الرومى عندما أهملهم أستاذهم، وأقبل بكل خلاياه على شيخه الجديد، فثاروا على التبريزى، وأغلظوا له القول، واتهموه بالسحر، فترك قونية وذهب إلى دمشق، فحزن الرومى حزناً شديداً لفراق أستاذه ومرشده الروحى، وأرسل ابنه بهاء الذين الملقب بـ (سلطان ولد) إلى التبريزى، ومعه الهدايا النفيسة، وخطاب يرجوه فيه أن يعود إلى قونية، فعاد التبريزى، وفرح الرومى فرحاً شديداً، ولكن فراشة الصوفية تطير دوماً فى جنبات الملكوت، حيث عاود التبريزى الترحال مرة أخرى، وحزن الرومى وخرج يبحث عنه فى كل بلاد الشام ولم يجده، فعاد إلى قونية، بخفى حنين، وهو حزين مهموم، ليدخل فى شرنقة العزلة، والنأى عن الناس، وقيل أن التبريزى قد قتل، حيث خرج عليه مجموعة من قطاع الطرق، وطعنوه فصرخ صرخة عظيمة أفقدتهم الوعى، وعندما أفاقوا لم يجدوا إلا آثار دماء الدرويش، ولم يعثروا له على أثر.
وفى فترة الحزن والعزلة، تأثر الرومى بالإمام أبى حامد الغزالى، وقرأ مؤلفاته، ومنها إحياء علوم الدين، واتخذ من الغزالى مثلا أعلى بعد رحيل شيخه وأستاذه شمس الدين التبريزى، الذى كان له الدور الأعظم فى حصوله على أهم دروس التربية الروحية، وكان التبريزى مثل كل أصحاب الحالات، لا يميلون إلى الراحات الجسمانية، ولكنهم يتنقلون بين البلاد، ينشرون آراءهم، ويبتغون إصلاح الناس، وظل لقاء الرومى بالتبريزى حداً فاصلاً فى مسيرته فقبل اللقاء كان عالماً بارزاً فى العلوم الدينية، وفى ذات الوقت يهوى التصوف، وبعد اللقاء أصبح شاعراً ملهماً، وعاشقاً كبيراً للإنسانية، يغمر أرواح المريدين بفيوضات نورانية، تسعى إلى الذوبان اللانهائى فى الله، ويسعى إلى إحياء ما هو ميت فى هذا العالم الخطَّاء من خلال السماحة والحب.
وكان لقاء الرومى بالتبريزى، تحقيقاً لنبوءة أستاذه برهان الدين، الذى تولاه بعد رحيل والده، حيث قال له يوم أن قرر الرحيل بعد اكتمال المعارف لدى تلميذه (سيأتى إليك صديق عظيم، وسوف يكون أحدكما للآخر كالمرآة، كل واحد منكما سيكمل الآخر، ستكونان أعظم صديقين فى العالم).
ولم يكن التبريزى القطب الصوفى الأوحد، الذى عاصره الرومى، حيث امتلأت سماء الصوفية فى ذلك الزمان، بالعشرات من الكواكب والأقطاب، فى ترتيب قدرى عجيب، جمع كل التجليات الصوفية فى توقيت واحد، حيث عاصر الرومى العديد من أعلام الصوفية والشعر مثل فريد الدين العطار الشاعر الفارسى الشهير – السعدى الشيرازى الشاعر الفارسى الكبير – حافظ الشيرازى الشاعر الفارسى الكبير – محيى الدين بن عربى الشيخ الأكبر – أبوالحسن الشاذلى القطب الصوفى البار – ابن عطاء الله السكندرى القطب الصوفى الكبير – شهاب الدين السهرورى – أبوالعباس المرسى القطب الصوفى الكبير – السيد أحمد البدوى القطب الصوفى الكبير – عمر بن الفارض شاعر الصوفية الشهير – شرف الدين البوصيرى – نصر الدين الطوسى – برهان الدين الترمزى – صدر الدين المقونوى، ومن بين كل هؤلاء الأقطاب، كان التبريزى الأكثر تأثيراً على الرومى، فعلى يديه جمع بين المعرفة والعرفان، وتحول إلى شاعر ملهم، يسبح فى ملكوت السماء، يخاطب الروح، ويغزل قصائده من خيوط الكلمات النورانية.
وبعد لقائه بالتبريزى فاضت قريحته بالعديد من المؤلفات المهمة، ومنها كتاب (المجالس السبعة)، وهو مواعظ وخطب، كتبها بالفارسية أثناء اشتغاله بالتدريس، ثم ديوانه المهم (شمس تبريز)، وهو غزليات صوفية أكثر من 3500 بيت من الشعر، أهداه إلى اسم شيخه واستاذه، ثم رباعيات جلال الدين، والتي تعمل على إيضاح الحقائق الروحية، فى قالب من الحكايات والقصص ، ثم كتاب (فيه ما فيه)، ويشتمل على مواعظ وقصص وأمثال بأسلوب سهل يفهمه القارئ، وفى كل هذه المؤلفات يكشف عن تعمقه فى الأدب الصوفى، والتعريف بالتصوف، وتقديم المعرفة فى صورة متكاملة.
وبعد عشر سنوات من لقائه بالتبريزى، انتهى من كتابه الغزليات، التى جمعت فى مجلد كبير اسماه (الديوان الكبير)، ومن مؤلفاته أيضا كتاب الرسائل، التى كتبها إلى عدد من تلامذته ومريديه ورموز عصره، وفى كل هذه الكتب استخدم الشعر فى التعبير عن فلسفته، فهو الفيلسوف الأخلاقى الذى ينظر إلى الحياة نظرة متفائلة مستبشرة، يكتب عن المحبة الإلهية، وعن النفس فى أصلها الإلهى، وحنينها إلى ذلك الأصل الذى انفصلت عنه، وفى كل كتاباته، يبرز خلقه الكريم، ودينه القويم، وعلمه الغزير، وصلاحه التقى، وزهده الورع، ومن أقواله فى تلك الكتابات (لقد اختلطت القيم أمام الناس، وظهر الصحيح منها والفاسد على حد سواء، لهذا فالإنسان فى حاجة إلى مقياس صادق، للتمييز بين الصالح والطالح، تماما كما يميز الذهب الخالص من الزائف، وعندى أن القياس الصحيح هو الذى ينبثق من الإدراك الروحى).
وقد اختار الرومى التصوف طريقاً وفلسفة، وإلهاماً لأفكاره وتصوراته، وتصوفه، ليس من النوع السلبى، الذى يدعو إلى العزلة، ويغرق فى الطقوس، لكنه تصوف يستمد عناصره من الإنسان، حيث يقول (الإنسان مادة وروح، المادة متغيرة والروح ثابتة)، ويقول أيضا (عندما تصبح إحدى الحواس متحررة عن قيدها، مبصرة لغير المحسوسات، فإن عالم الغيب سرعان ما يتكشف، ويصير ظاهراً لكل الحواس ، لذلك عليك أن تسوق حواسك إلى عالم الكشف، وتروض النفس على استبطان الحقائق، فإنك إذا استطعت أن تخضع الحواس لعالمك الباطن، فلن يكون للافلاك مفر من طاعتك)، وهذا الكلام يتسق مع ما جاء فى الحديث القدسى (عبدى أطعنى تكن عبداً ربانياً، تقول للشئ كن فيكون).
ويؤكد الرومى فى كل كتاباته على أن تبقى الروح طاهرة نقية، بعيدة عن نوازع الجسد، كما يؤكد على أن أبواب الله دائما مفتوحة للتائبين فيقول (تعال .. تعال .. أيا كان اعتقادك.. تعال هى عتبة نتجاوزها معاً.. حتى ولو كنت أخللت بالتزامك وتعهدك.. وتخليت عن نفسك تعال)، ويقول أيضاً (من لا يركض إلى فتنة العشق، يمشى طريقاً لا شئ فيه حي)، ويدعو دائما إلى إعلاء قيم الروح على نوازع الجسد فيقول (أين هى الأذن الواعية .. والعين المبصرة .. فالجسم مشتبك بالروح .. والروح متغلغلة فى الجسم، ولكن أنى لإنسان أن يبصر تلك الروح)، ويناجى الذات الإلهية قائلا، (هكذا أود أن أموت فى العشق ، الذى أكنه لك، كقطع سحاب تذوب فى ضوء الشمس)، ويغرس فى عقول مريديه آداب الحوار والفكر فيقول (ارتق بمستوى حديثك، لا بمستوى صوتك، فالمطر هو ما ينمى الأزهار وليس الرعد)، وبذلك فهو من الصوفية الذين يخاطبون الوجدان، ويحترمون العقل، ولذلك حظى بمكانة كبرى، فى عالم الحركات الصوفية القديمة والمعاصرة.
أما أهم كتبه وأشهرها على الاطلاق، فهو كتاب المثنوى، الذى أسماه الشاعر الفارسى عبدالرحمن الجابى فى تزيد مفرط (قرآن الفارسية)، وتدور حول هذا الكتاب العديد من القصص والحكايات، بداية من تأليفه، وحتى ترجمته إلي أكثر من خمسين لغة من لغات العالم.
أما عن تأليف الكتاب، فقد ولدت الفكرة وسط الحدائق والبساتين، عندما كان الرومى يتمشى مع أقرب تلاميذه إلى قلبه حسام الدين الجابى، والذى قال لأستاذه (لو استطعت أن تكتب كتابا مثل الأسرار نامة، أو منطق الطير لفريد الدين العطار، فسوف تكون مصاحباً للكثيرين، يملأون قلوبهم بأشعارك، ويصاحبونها بالموسيقى، فابتسم الرومى وأخرج من عمامته ورقة، مكتوباً عليها بعض الأبيات التى تقول (اصغ إلى الناى وهو يقص قصته، وكيف يغنى ألم الفراق قائلا، إننى منذ قطعت من نبت الغاب، والناس رجالا ونساءً يبكون لبكائى، إننى أنشد صدراً مزقه الفراق، حتى أشرح له ألم الاشتياق، فكل إنسان قام بعيداً عن أصله، يظل يبحث عن زمان وصله)، وفى هذه الأبيات يصور آلام النفس نتيجة القطيعة مع الله، وعندما سمع حسام الدين هذه الكلمات بكى فرحاً، وتوسل إلى أستاذه أن يواصل الكتابة، فرد عليه إذا وافقت أن تكتب لى فسوف أنشد، وكان جلال الدين في ذلك الوقت فى الخمسينيات من عمره، وراح ينشد ويملى هذا العمل الضخم على تلميذه، وكان حسام الدين يرافقه مثل ظله، يكتب كل ما يقوله، وكلما انتهى من جزء قرأه عليه، حتى يجرى عليه التصحيحات والتعديلات اللازمة، ويبدو أن فكرة كتابة التلميذ لما يقوله الأستاذ، فكرة متكررة فى عالم الصوفية، حيث أملى القطب الصوفى الكبير محمد بن عبدالجبار النفرى كتابه البديع المواقف والمخاطبات على ابن شقيقته، وكان يدعى النفرى أيضاً، والاسم الأصلى لكتاب المثنوى المكتوب بالفارسية (مثنوى معنوى)، أى الثنائيات الروحية، وكلمة مثنوى تعنى النغم المزدوج، وتعتمد على توحيد القافية، بين شطرى كل بيت من أبيات المنظومة، فيتحرر الشعر من القافية الموحدة، وهذا التعدد فى القوافى، جعل الشعراء الفرس ينظمون الملاحم على الأوزان العربية، والانطلاق بها إلى أبعد مدى.
ويجمع كتاب المثنوى آراء الرومى فى الأخلاق والأدب والتصوف، على طريقة كتاب (منطق الطير) للشاعر الفارسى فريد الدين العطار، وقد استغرق كتابة هذا الكتاب خمس سنوات كاملة.
ويقول الرومى فى مقدمته (هذا الكتاب المثنوى، وهو أصل أصول الدين، فى كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر، وبرهان الله الأطهر)، ويواصل الرومى الثناء على كتابه فى المقدمة حيث يقول (اجتهدت فى تطويل المنظوم المثنوى ، فاشتمل على الغرائب والنوادر، وغرر المقالات، وطريقة الزهاد، وحديقة العباد، قصيرة المبانى، كثيرة المعانى، لاستدعاء سيدى وسندى أبوالفضائل حسام الحق والدين حسن بن محمد).
ورغم هذا الثناء الكبير من الرومى على كتابه المثنوى، إلا أن الكثير من النقاد العرب والأجانب مثل الألمانية آنا مارى شيمل، يرون فى كتاب المثنوى مجموعة من النصوص غير المترابطة، التى تخلو من أى ترتيب، ويعوزها الترابط البنائى، حيث يحتوى الكتاب على كثير من الحكايات والحكم، أبيات الشعر والخرافات والأساطير، والوقائع التاريخية الحقيقية، والوقائع المستقاة من الحياة اليومية والحوارات، وكل ذلك من دون أى ترابط منطقى، وبعض فصول المثنوى مستقاه من كتاب إحياء علوم الدين لأبى حامد الغزالى، وفى المقابل يرى بعض النقاد أن الكتاب فيه جمال، يقود إلى عوالم روحية، تجعل الإنسان على تماس مباشر مع الروحانيات، بل إن المستشرق هنرى كوريان يقول إن كتاب المثنوى يحتوى على مقطوعات رفيعة المستوى، من ناحية بعدها الروحى، لدرجة أنها أثرت فى كثير من المكرين الأوربيين مثل جوتة وهيجل، وكل أشعار كتاب المثنوى على وزن واحد هو بحر الرمل المسدس.
وفى كتاب المثنوى يستخدم الرومى صوراً متعددة، تجمع بين رشاقة الصنعة وجلال الروح، شديدة العمق فى عاطفتها وفى فكرتها، وموضوعات المثنوى بينها رابط خفى، هو حب الروح لله، وكيف تعود إليه، وتتحدث مقدمة الجزء الأول عن النفس التى تشكو انفصالها عن الله، حيث يرى الرومى الذات الإلهية حالة من الكون، وداخلة فى جوهره، وليست مجردة عنه، حيث يقول :
يا خفيا قد ملأت الخافقين
قد علوت فوق نور المشرقين
أنت سر كشف أسرارنا
أنت فجر مفجر أنهارنا
يا خفى الذات محسوس العطاء أنت كالماء ونحن كالرحا
والفكرة الرئيسية فى المثنوى ، هى أن يسعى الإنسان لكى يعيش إلى الأبد فى رحاب خالقه.
وقد بذل الشاعر العراقى الكبير عبدالعزيز صاحب الجواهر، أو عبدالعزيز الجواهرى، شقيق الشاعر الشهير محمد مهدى الجواهرى، جهداً خارقاً فى ترجمة كتاب المثنوى إلى اللغة العربية، ليصدر فى ستة أجزاء، تحوى ما يقرب من ستة وعشرين ألف بيت من الشعر، والمثنوى عنوان لغوى على طريقة اللزوميات للمعرى.
وقد حظى كتاب المثنوى بكثير من الشروح والترجمات أشهرها ما قام به الخوارزمى فى كتابه (كنوز الحقائق ورموز الدقائق)، كما قال عبدالوهاب عزام بترجمة مختارات من المثنوى إلى اللغة العربية، ومنها هذه الأبيات:
استمع للناى غنى وحكى
شفه البين طويلا فشكا
أين صبر من فراق فرقا
كى أبث الوجد فيه حرقا
إن صوت الناى نار لاهوا
كل من لم يصلها فهو هبا
هى نار العشق فى الناى تثور
وهى نار العشق فى الخمر تفور
وبعد أحداث سبتمبر 2001، اكتشف الأمريكان، أنهم يعيشون فى ظمأ روحى كبير، وأن أشعار الرومى يمكن أن تساعد فى علاج هذا الظمأ، فعادوا إلى ترجمة أستاذ اللغة الإنجليزية فى جامعة جورجيا كولمان باركس، لأشعار الرومى، والتى أصدرها فى كتاب عام 1995 بعنوان (الرومى المميز)، وإذا بهذا الكتاب يبيع أكثر من نصف مليون نسخة، ليذكر الأمريكان بكتاب جبران خليل جبران (النبى)، الذى باع ملايين النسخ، واكتشف الأمريكان أن أشعار الرومى تقدم الجوهر الحقيقى للإسلام، فى التسليم بقضاء الله، كما أنها تعمل على تحطيم الحدود، التى تمنع المحبة بين الناس، فهو القائل (المصابيح مختلفة ولكن النور واحد)، وراحوا فى أعياد الفالنتين يوزعون قصائده بأصوات نجوم هوليوود، وغنى أشعاره كبار النجوم مثل مادونا، ديمى مور، جولدي هون، وانتقل الولع بأشعار الرومى من أمريكا إلى أوربا، حيث يقول الشاعر الألمانى هانز ماينكى (إن شعر الرومى هو الأمل الوحيد، فى الأوقات المظلمة التى نعيش فيها)، وتحولت أشعار الرومى إلى أحد المعابر المهمة، التى تربط الغرب بالاسلام.
وأمام هذا الوجود القوى لأشعار الرومى، كسرت منظمة اليونسكو واحدة من أهم قواعدها، وهى أنها تحتفى بالأحداث لا بالأشخاص، واحتفلت بالرومى فى عام 2007، بمناسبة 800 عام على مولده، ورأت فيه شاعراً عالميا، تعدى شعره حدود الزمان والمكان، فهو أكثر من صوفى وأكبر من شاعر، بل رمز للوحدة والمحبة والتسامح، وقد حمل رسائل الحب إلى الشعوب والأديان كافة، كما ترك أثاراً كبيرة على الأدبين الفارسى والتركى، فغالبية مؤلفاته باللغة الفارسية، ومازال ضريحه أحد أهم معالم السياحة فى تركيا، رغم أن مصطفى كمال أتاتورك، عندما قضى على الخلافة العثمانية عام 1925، أصدر قراراً بوقف الاحتفالات الصوفية، وتحويل التكايا إلي متاحف بداية من عام 1926، ورغم هذا القرار ازداد الإقبال على زيارة ضريح الرومى، الذى أطلق عليه اسم (القبة الخضراء)، وتحت تلك القبة مخطوطاته ومؤلفاته، والأدوات الموسيقية التى يستخدمها كشيخ للطريقة المولوية المثنوية، وأمام هذا الإقبال الكبير على ضريح الرومى، اضطرت تركيا العلمانية، بداية من عام 1954، إلى الاحتفال سنوياً بذكرى الرومى، لمدة أسبوع من 10 – 17 ديسمبر، وكان هذا التقليد قد بدأ شعبياً منذ عام 1943، ولكن الدولة جعلته احتفالا رسمياً بداية من عام 1954.
وكان جلال الدين الرومى، أول من أدخل الموسيقى فى مجالس الصوفية، لأنها تعمل على إثارة الدوافع النبيلة فى النفوس، من حلم وجود وشجاعة وعدل .... إلخ.
وتمثل الموسيقى أحد الأعمدة المهمة فى رقصة المولوية، التى تعد علامة مميزة للطريقة المولوية المثنوية، حيث يدور الدراويش (أهل المحبة)، مثل دوران الكواكب السيارة، فالقمر يدور حول الشمس، وحول ذاته، وكل مفردة فى هذه الرقصة لها دلالة وهدف، فالجلد الأحمر الذى يتم فرشه على الأرض، يمثل طلوع الشمس فى الصباح، ومن يجلس عليه يمثل مولانا للحق والحقيقة، والدوران يكون بموافقة شيخ الطريقة.
اليد اليمنى مفتوحة إلى اليسار، واليسرى مفتوحة إلى الأرض، فى إشارة إلى أن الإنسان يأخذ الرحمة من الله، ويوزعها على الأرض، أما الملابس البيضاء الواسعة، فترمز إلى الكفن، وهكذا فكل تفصيلة أو حركة من رقصة المولوية لها دلالة وهدف، وقد انتشرت المولوية فى كثير من الدول الإسلامية، وساعدت الخلافة العثمانية على إنتشارها بشكل كبير، وهى طقس يؤكد أن الإنسان يحمل كل صفات الكون وجميع عناصره، من الماء والهواء والتراب والنار، وتنطلق من قول الإمام على بن أبى طالب:
دواؤك فيك ولا تشعر
داؤك فيك ولا تبصر
وتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
فالولى الكامل تجتمع فيه كل العناصر، إضافة إلى النغمة الإلهية، التى تجعله يبتعد عن مادة الجسد، والدوران بالثياب البيضاء إشارة إلى ترك الشهوات، والرغبة فى الوصول إلى قمة الوجد، وتلك الرقصة الصوفية، التى ابتدعها الرومى، ترمز إلى دوران الكواكب السيارة حول شمسها المركزية، وانجذاب المخلوقات إلى خالقها، والمولوية طريقة للذكر ابتكرها الرومى، ليجعل دراويشه يدورون على أنغام الناى بعباءاتهم البيضاء فى حالة روحانية ، وقد جاءت المولوية إلى مصر قبل الاحتلال العثمانى، ويقع مقر تلك الطريقة الصوفية، فى قبة بجوار قصر الأمير طاز، فى منطقة السيوفية.
وقد ظهرت العديد من المؤلفات عن الرومى وفلسفته الصوفية، ومنها كتاب مولانا جلال الدين الرومى تأليف أبوالحسن النووى ورواية قواعد العشق الأربعين للروائية التركية إليف شاقاك، وجلال الدين الرومى بين الصوفية وعلماء الكلام للباحث الأفغانى عناية الله إبلاغ .... إلخ.
ورغم مرور مئات السنين على رحيل الرومى، إلا أن مريديه يزدادون طوال الوقت، فهو القطب الصوفى، والشاعر والفنان، والفيلسوف الحكيم، والرقى الإنسانى، الذى يدعو إلى التأمل الروحى، ويذوب فى الحب الإلهى، ويرى أن ذلك الحب هو الأساس فى كل شىء، ففيه الخلاص من الكبرياء والغرور، ويقول فى ذلك (العاشقون المخلصون كالظلال، والظلال تزول وتختفى حين تشرق الشمس فى أبهى نورها، العاشق المخلص هو ذلك الذى يقول له الله (أنا لك وأنت لى)، ويقول أيضاً (بالحب يصير المر حلواً، ويتحول الناس إلي كبريت أحمر، ويصفو الفكر، ويصبح الألم شافياً، ويصير الموتى أحياء، الحب هو الحياة السماوية فوق الأرض)، ويسير الرومى على درب الحلاج شاعر الصوفية الأشهر، فى قضية (الحلول)، وهى قضية شائكة، تم إعدام الحلاج بسببها، ربما لأنه كان صدامياً مع معارضيه، أما الرومى فيقول (الاتحاد مع الله هو العبادة الأزلية، وحين يظفر الإنسان بالحياة المتحدة، لا يعود له حاجة إلى الشفاعات والوسائل)، ويقول أيضا (مكانى هو لا مكان، وعلامتى ليست بعلامة، ليس هناك لا جسد ولا روح، لأنى جزء من روح الأرواح).
وهكذا استطاع أن يمرر فكرته بسلاسة، من خلال الخيال المبدع، فهو القائل أيضا (العشق معناه الطيران فى السماء)، وفى مقابل هذه (الشطحات الصوفية)، يؤكد الرومى على أن الحياة جهاد مستمر، ولا ينبغى أن يسكن المجاهد فيها ساعة، وعندما سئل عن الجبر والاختيار أفتى بالاختيار، ليجعل الإنسان مسئولا عن أعماله.
وبعد حياة حافلة بالعلم والتصوف رحل الرومى عن عمر يناهز السبعين عاماً، ودفن بجانب أبيه فى التكية التى بناها السلطان علاء الدين السلجوقى فى مدينة قونية، وقبل رحيله طلب أن يكتب على قبره (يا من تبحث عن مرقدنا بعد شد الرحال، قبرنا يا هذا فى صدور العارفين من الرجال).